حادثة حصلت حفرت عميقا في ذاكرتي، وتطفو على السطح عندي بين فترة وأخرى بقوة، حادثة غيرتني إلى الأبد.
كنا طالبات ندرس خارج البلاد، مشغولات بالدراسة والاستذكار، واختصار الزمن كي ننال الشهادة ونعود إلى أرض الوطن بسرعة، كانت سرعة الإنجاز الجيد أحد من أهم أهدافنا.
لم نكن نخرج كثيرا إلا في نهايات الأسبوع، حيث أمامنا الوقت كي نزور عوائل صديقاتنا في تلك البلد، فقد كانوا يعاملوننا بدفء لشعورهم أننا نعيش الغربة، والبعد عن الأهل، وواجبهم التخفيف عنا.
أذكر أسرة فقيرة كانت تزورنا أيام الإجازات، كنا نساعد هذه الأسرة بما تيسر لنا من مساعدات مالية. في يوم ما اشترت صديقتي حلق ذهب للطفلة التي كانت تزورنا مع والدتها، طفلة تبلغ من العمر ٦سنوات، ألبستها الحلق بيدها، فرحت الأم فرحا كثيرا وهي ترى حلق الذهب متدلية من أذني طفلتها .
بعد خروج الأسرة همست لصديقتي: ” لو كنت أعطيت الأم المبلغ لسد بعض حاجات الأسرة كان أفضل ! “
لم أدر لم قلت هذا الحديث ؟ هل من باب أن الأسرة في حاجة للمال لسد الحاجات الضرورية بدل الذهب الذي لا تستفيد منه ويعد أمرا كماليا؟ ربما ، فهكذا نفكر بتلك النمطية الرتيبة !
بعد أسبوعين زارتنا الأسرة كالمعتاد، بعد السلام أشارت الأم إلى طفلتها قائلة؛ لقد أضاعت ابنتي فردة من الحلق، ولا ندري أين ذهبت، وبقيت الفردة الأخرى في أذنها. طفا إلى ذهني خاطر خبيث
” لا تعرف قيمة الحلق لذا أضاعته، هل الطفلة جديرة بالحلق؟ ماذا تريد الأم من حديثها ؟”
شعرت بالاختناق من هذا الخاطر الذي غزاني بقوة، وانسحبت معتذرة بلطف إلى خارج الغرفة.
مع الهواء النقي الذي دخل إلى رئتيي في الشرفة، شعرت بوخز ألم كبير، وهل المقتدر فقط من حق طفلته أن تلبس حلق ذهب، وإن ضاع نشتري له بديلا ربما أفضل بطيب خاطر؟ وهل الله تعالى خلق نوعا من البشر ليعيش الفقر والكفاف طوال عمره، وليس من حقه أن تشتهي نفسه أن يلبس ويتزين ويستمتع ؟ وهل يجب عليه ألا يتمنى
ولا يشتهي كما نشتهي ؟ لأن نفسه ليست كأنفسنا في الاشتهاء والتمني؟ وهل توفير حد الكفاف هو الواجب تجاه هؤلاء الذين خلقوا فقراء، أم من حقهم على المجتمع أن يعيشوا على الأقل عيشة تحقق أحلامهم وأمانيهم ومشتهياتهم المشروعة؟
لماذا تسلل هذا الخاطر العنصري التقسيمي إلى ذهني، وفكرت أن هناك إنسانا ليس له من الحياة إلا الكفاف فقط لأنه ولد فقيرا، وليس له أن يلبس طفلته حلق الذهب، وإذا أضاعه فهو لا يستحقه لأنه لم يحافظ عليه ! نتبنى أحيانا أفكارا مريضة ونسير عليها كالعميان، بينما نقسم الناس الى بشر يستحقون كل شيء في الحياة، وبشر لا يستحقون إلا حد الكفاف !!