تزخر الأراشيف حول العالم بمجموعات من الصور القديمة لمسقط وأنحاء مختلفة من سلطنة عُمان، صور التقطها الرحالة والمغامرون والمبشرون والجواسيس وموظفو شركات النفط والخبراء الذين كانوا يحملون كاميراتهم معهم أينما ذهبوا، ليلتقطوا صورا توثق للمكان ويومياتهم، صورا ترسل إلى العائلة أو إلى آخرين وراء البحار.
قبل مدة وأثناء بحثي عن صور لسبعينيات مسقط في أرشيف جامعة جنوب كاليفورنيا وجدت مجموعة من الصور لمكتبة العائلة، وكما نفعل في أكثر اللحظات حميمية، أغمضت عيني واسترجعت الروائح والأصوات والمشاعر وربما بعض الكلمات والحكايات المهموس بها.
مكتبة العائلة هي أول منفذ لبيع الكتب في عمان، وقد ابتدأت نشاطها كدكان لبيع الأناجيل في أواخر القرن التاسع عشر، في إطار الحملة التبشيرية الممولة من قبل الكنيسة الإصلاحية الأمريكية، والتي قادها القس صامويل زويمر عام ١٨٩٣.
في مذكراته كتب القس زويمر” مسقط تقدم فرصة مفتوحة لنشر الإنجيل ومزاولة النشاط التبشيري فيها، إن قدومي إلى هنا كان بهدف التعرف على أساليب العمل المناسب في هذا المكان، والعرب هنا مستعدون للقدوم إلى منزلي لمناقشة الأمور الدينية إذا دعوتهم، وقد ثبت أن بائع الكتب المقدسة “ نعوم” قارئ جيد للإنجيل”.
يستوقفني الاسم، أتذكر أني سمعته في سياق الحديث عن الأشخاص الذين عملوا في “بيت البادري”، كما كان يطلق على مقر الإرسالية التبشيرية التي محيت من على وجه مسقط وخارطة معالمها، وبإمكاني تخيل نعوم الذي لا نعرف عنه الكثير، وهو منكب على قراءة الانجيل داخل دكان مظلم في سوق مسقط القديم، ولا أملك إلا أن أسأل نفسي، هل فهم نعوم الإنجيل؟ هل أراد فهمه فعلا؟ أم أنه كان مثلي في بدايات تعرفي على القراءة، مأخوذا بفكرة القدرة على شبك الحروف، وتكون الكلمات التي ما تلبث أن تصبح أصواتا وصورا وحكايات.
في نفس أرشيف الصور، وجدت مجموعة التقطت لحفل افتتاح أول فرع حديث للمكتبة بمنطقة مطرح الكبرى في عام ١٩٧٦، حيث نشاهد الكثير من النساء والرجال، بسحنات مختلفة، عمانيين وأجانب، إنجليز ربما وهنود، يقفون منتظرين أمام زجاج المكتبة. كانت اللهفة حاضرة في الوجوه، ومن العيون يطل فرح خفي.
بشكل غريزي بدأت في البحث عن وجهي بين الوجوه، وبالطبع لم أجدني، لكني وجدت مجموعة كتب “ الليدي بيرد” أو الخنفساء الحمراء المزين ظهرها بنقاط سوداء. هذه المجموعة من قصص الأطفال كانت بالنسبة لي الباب السري للحديقة الخلفية للحياة، عالم اللعب الموازي، الخيال الذي يحفز كل أحلام اليقظة التي منها يولد المستقبل، سواء شاركنا في رسمه أم لا، فقد حضر الآن ونحن فيه بكليتنا.
أما تعلقي بالصور القديمة وأراشيفها وبحثي عن ذاتي الطفلة، فما هو إلا سير في الخط الزمني المعاكس، أو حنين يصفه درويش بأنه وجع لا يحن إلى وجع.