لم يكن أحد من العصور الغابرة يتصور أن للضوء مساحة تأثير واسعة جدا في حياة الإنسان، فلقد كان الاعتقاد السائد بأن وظيفة الضوء تقتصر على إنارة الطرق المظلمة، لكن البشرية ومع تطور العلوم تبين أن الضوء لا ينير الطرق المظلمة فحسب؛ بل يتحكم بدماغك أيضًا.
ويمكن تتبع أثر الضوء على دماغك من خلال متابعة تأثير دورة الليل والنهار على نشاطنا اليومي، فنحن نشعر بالنعاس ليلاً عندما يغيب ضوء الشمس عن كوكبنا، ونشعر بالهدوء عندما تغرب الشمس، ويرتفع الشعور بالكآبة عندما يغيب عنا ضوء الشمس لفترات طويلة كما يحصل في الدول التي تغيب عنها الشمس لفصول كاملة، وأخيرا كشفت بعض الدراسة العلمية بأن درجة حرارة أجسامنا تتناغم مع ضوء الشمس ودورة الليل والنهار؛ اذ إنها تتأرجح حول 36.8 درجة مئوية فترتفع عادة قليلا في أول المساء وتقل في بقية الأوقات.
ولغور تأثير ضوء الشمس على دماغنا وذلك من خلال تأثيره في دورة اليقظة والمنام في حياتنا اليومية قام عالم جيولوجي يدعى سيفري بتجربة مثيرة فقد أمضى مدة تصل إلى ستة أشهر بعيدا عن الضوء في كهف مظلم في تكساس عام 1972 بعزلة تامة وبدون أن تكون له أية دراية بشروق الشمس وغروبها وبأوقات الليل والنهار؛ إذ كان الكهف مغلقا تمامًا ولا توجد به أي فتحات لضوء الشمس ولكن سيفري كان له الحق بأن يطلب من فريق البحث عبر الاتصال بهم بأن يتم فتح الإضاءة له متى ما رغب في ذلك.
وكان الفريق يتابع نشاط سيفري وفترات نومه طيلة هذه المدة، وقد لوحظ أن سيفري حافظ تقريبا على دورة الليل والنهار في بداية تجربته؛ حيث امتدت دورة النوم واليقظة لدية إلى 25 أو 26 ساعة ولكن ومع مرور الأيام بدأت الأمور تتغير وامتدت الدورة اليومية لليقظة والمنام عنده لتصل إلى 48 ساعة؛ إذ كانت تصل فترات النوم إلى 16 ساعة تتبعها 32 ساعة يقظة، وعندما انتهت المدة المقررة والبالغة 179 يومًا أبدى سيفري استغرابه؛ حيث كان يظن أنه في اليوم 151 فقط وأن عليه أن يقضي 28 يومًا إضافيًا.
وفي تجربة أخرى تم نشرها عام 1985 قام أحد العلماء بعزل 42 متطوعاً كلا على حدة في مختبرات مخصصة لهذا الغرض لمدة تتراوح بين أسبوع وشهر؛ حيث كان المتطوعون معزولون تمامًا عن العالم الخارجي وكانوا يقومون بإعداد طعامهم بأنفسهم ولهم حرية إضاءة المختبر من عدمه، وتم مراقبة أوقات النوم واليقظة عندهم ولوحظ أن دورة الليل والنهار امتدت عندهم أيضا، وأن غالبية المشاركين ظنوا بأن التجربة استغرقت 20 إلى 40% وقتًا أقل مما كانت عليه، وهناك تقارير عن تجارب أخرى مشابهة مع بعض التغييرات البسيطة إلا أن نتائج التجارب لم تختلف وكانت مشابهة تماما، فالملاحظ أن دورة اليقظة والنوم تمتد عند الإنسان حينما لا يتعرف على أوقات شروق الشمس وغروبها.
إن سبب تغير دورة النوم عند سيفري وبقية المتطوعين في التجارب المختلفة يعود وبشكل رئيسي إلى أننا قطعنا صلة الدماغ بدورة الليل والنهار، فلم يكن بإمكانه معرفة شروق الشمس من غروبها، وقد أفقده ذلك القدرة على تنظيم وإفراز الهرمونات المختلفة التي تؤثر على دورة اليقظة والمنام في حياتنا اليومية، فالإنسان لا يخلد إلى النوم لظلمة الليل وغياب الضوء الذي ينير طريقه؛ بل لأن الضوء يتغلغل عبر العين إلى دماغ الإنسان ويتفاعل مع خلايا الدماغ البشري ونتيجة لهذا التفاعل يقوم الدماغ بتغييرات في تراكيز بعض الهرمونات كهرمون النوم والمعروف بهرمون الميلاتونين، فعندما تغيب الشمس يرتفع تركيز هذا الهرمون ويصل أقصى مداه عند منتصف الليل ومع بزوغ أشعة الشمس في الفجر تنتقل هذه الأشعة عبر الخلايا البصرية الى الدماغ لتتفاعل مع خلاياه مرة أخرى ويبدأ تركيز هذا الهرمون بالانخفاض ليصل الى تراكيز دنيا في ساعات الصباح، ويبدو أن خلايا دماغ سيفري وبقية المتطوعين لم تجد طريقا للتفاعل مع ضوء الشمس فقلت قدرة الدماغ على التمييز بين الأوقات وتعثرت ساعته الداخلية، فلقد قطعت صلته بضوء الشمس، فهذا الضوء لا ينير دربه فحسب؛ بل يتحكم في يقظته ونومه!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مصادر:
Your Brain Is a Time Machine: The Neuroscience and Physics of Time