Image Not Found

العقلية المسلمة وفلسفة التقنية الحيوية

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

كثيرًا ما أطرح هذا السؤال على طلبتي؛ بل وأحيانًا أطرحه أثناء المُقابلات التي أقوم بها بين حين وآخر لتوظيف الباحثين في مجموعتي البحثية، السؤال مفاده: لو افترضنا أننا قمنا بتصنيع فيتامين “سي” في المُختبر وقمنا باستخلاص فيتامين “سي” من البرتقال، وتحققنا من التركيبة الكيمياوية لكليهما ونسبة نقاوة الإثنين ووجدنا أنَّها مُتماثلة تمامًا، فما هو الفارق بين فيتامين سي المصنع والآخر المُستخلص؟ وهل أحدهما أفضل من الآخر أم لا؟!

أغلب الإجابات تشير إلى أنَّ المستخلص أفضل من المصنع والسبب في ذلك أنَّ المستخلص “طبيعي” خلقه الله تعالى، بينما المصنع تمَّ تصنيعه من قبل الإنسان ولا يمكن أن نقارن ما خلقه الله تعالى بما صنعه الإنسان في مختبراته.

من الناحية العلمية فإنَّ هذا النوع من الإجابات غير قائمة على أدلة تجريبية؛ بل هي نتيجة مُستنبطة وقائمة على أيديولوجية إيمانية مُسبقة، مفادها أنَّ الإنسان لا يُمكن له أن يتفوق على الله جلَّ وعلا في دقة وإبداع الخلق، فمهما قام من محاولات فلن يصل إلى الابداع الإلهي في الخلق، وعلى الرغم من صحة القاعدة المذكورة، إلا أن تطبيقها على المثال السابق قائم على فرض غير صحيح لأن الإجابة توحي بأنَّ المقارنة تتم- وبدون قصد- بين خالقين مستقلين الله والإنسان بينما الواقع أن ما صنعه الإنسان إنما هو من خلق الله أيضًا فلولا القدرات والهبات الإلهية للإنسان لما تمكن من تصنيع فيتامين “سي” في المختبرات بهذه الدقة الفائقة فكما أن الله أوجد فيتامين سي في البرتقال ضمن نظم وقوانين إلهية، فلقد منح الإنسان قدرات عقلية يستطيع من خلالها تصنيع هذا الفيتامين بدقة متناهية وبما أن التركيبة الكيمياوية واحدة والنقاوة في الإثنين المستخلص والمصنع واحدة فلا فرق بينهما إطلاقًا، ولا يمكن لأحد أن يفرق بينهما قط، فكلاهما شيء واحد تمامًا.

إنَّ الإيمان بأن الإنسان لا يمكنه القيام بتصنيع شيء أفضل مما هو موجود في الطبيعة فيه مُغالطة كبيرة، وقناعة قائمة على ما ذكرناه آنفا، وهو الظن بأنَّ ما سيبدعه الإنسان إنما يبدعه من تلقاء نفسه، وكأنه ينافس الله- والعياذ بالله- في قدرته وهو أمر وتصور خاطئ فالإنسان مخلوق لله وكل ما يُبدعه فهو إبداع إلهي في نهاية المطاف.

إنَّ الإنسان وعبر تسخيره وفهمه للنظم والقوانين الكونية استطاع أن يصنع أدوات أكثر كفاءة وفائدة مما هو موجود في الطبيعة أصلا فمثلا يُشير القرآن الكريم إلى أنَّ بعض المخلوقات استفاد منها الإنسان واستخدمها لأغراض مختلفة “وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا” (النحل آية 8)، فهل يعني أنَّ هذه الوسائل التي سخرها الله للإنسان أفضل في التنقل من تلك التي صنعها الإنسان كالسيارة والطائرة؟! إذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نتخلى عن جميع وسائل النقل الحديثة كالسيارات والطائرات ونستخدم الخيول والحمير والبغال، ونستبدل مواقف السيارات بحظائر للحيوانات؟!

بل إنَّ ذيل الآية المباركة ربما يشير إلى التقنيات الحديثة التي صنعها الإنسان “وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”. يقول صاحب كتاب الأمثل في تفسير القرآن في معرض تفسيره لهذا الجزء من الآية “وعند ما تُعبر الآية بكلمة “يخلق”، فذلك لأنَّ الإنسان في اختراعه لتلك الوسائل ليس هو الخالق لها؛ بل إن المواد الأولية اللازمة للاختراعات، مخلوقة وموجودة بين أيدينا وما على الإنسان إلا أن يستعمل ما وهبه الله من قدرة على الاختراع لما أودع فيه من استعداد وقابلية.”

إن هدف وفلسفة علم التقنية الحيوية يقوم على أساس محاولة إجراء تحسين في جينات الكائنات الحيَّة، فلقد تمكنت علوم التقنية الحيوية من إجراء تحسينات جينية لبعض الفواكه والخضروات بهدف إنتاج مواد غذائية ذات جودة عالية أو لزيادة الغذاء في العالم؛ بل إن الإنسان يحاول ويسعى أن يقوم بتعديل الخريطة الجينية لبعض البشر وذلك من خلال تغيير وتعديل الجينات الوراثية التي تسبب أمراضًا مُعينة كمرض السكري والذي يصيب الكثير نتيجة العامل الوراثي، فإذا كانت قناعاتنا تقول بأن البشر لا يمكنه أن يحسن من السلالات النباتية أو الحيوانية أو البشرية، فكيف للمسلم أن يقدم بخطى ثابتة نحو تعلم هذه العلوم وهو يُؤمن ومقتنع باستحالة القيام بذلك؟!

إن محاولة إجراء تحسين في الخارطة الجينية لإنتاج سلالات أفضل لا يختلف كثيرًا، عمّا كان يقوم به العرب من تحسين نسل الخيول عبر التحكم بعملية التزاوج بين هذه الخيول، فلماذا ينظر إلى تحسين السلالات عبر الجينات باعتباره تدخلًا في القدرة الإلهية ولا يعد عملية التحكم في تزاوج الخيول كذلك؟! أليس في كلاهما توجيه وتحكم في السلالات الحيوانية ويهدفان إلى تحسين السلالات التي أوجدها الله عزَّ وجلَّ.

إن توضيح هذه المفاهيم والوقوف عليها له أهمية بالغة في مجتمعاتنا الإسلامية؛ لأنها تقف حجر عثرة على الإقبال على تعلم هذه العلوم الهامة، لأنَّ المسلم المُلتزم يحتاط في أمر دينه، ومن ثم يتردد في الدخول في مثل هذه التخصصات ويسعى إلى الابتعاد عنها، وبذلك تتخلف مجتمعاتنا الإسلامية في مجالات غاية في الأهمية ولا نُدرك أهميتها إلا بعد أن تصل هذه الأبحاث إلى مراحل متطورة فنجد أنفسنا ملزمين بإتقانها ولكن ولشديد الأسف نكتشف أننا قد تأخرنا كثيرًا ولا يُمكننا اللحاق بالركب؛ بل علينا أن نقتات على ما يجود به الآخرون علينا.