/العمانية/ تتمثل تجربة الباحث والمعماري علي جعفر اللواتي في العمارة العمانية من خلال اهتمامه وعلاقته المباشرة بها، وما يقدمه من حيثيات تواكب تطورها في مختلف صنوفها، فهو يرى أن للعمارة في السلطنة تجذرا استثنائيا، محركه الإنسان وتفاعله هو الآخر مع الطبيعة من حوله.
المتتبع لأعمال اللواتي ومساره نحو العمارة يلتمس ذلك الاهتمام الواسع والشغف المتواصل في توثيق كل ما هو مستحق أن يقدم للباحث عن المعرفة العلمية عن عُمان وتنوع تشكل بيئاتها، فقد حاول من خلال التحاقه بعدد من المؤسسات المعنية بالعمارة محليا ودوليا تكريس حضور السلطنة ومدى تقدمها في هذا الجانب، ومن بين إنجازاته نظير جهوده المتواصلة حصوله على جائزة محمد مكية للعمارة للشخصية المعمارية الشرق أوسطية للعام 2020 من مؤسسة تميز للعمارة في لندن، وغيرها من النجاحات المتحققة في شأن البحوث والدراسات.
للعمارة العمانية خصوصية كما يعرفها المتابع لها، وهنا يطلعنا المهندس علي على قراءاته لتلك الخصوصية، خاصة بعد ما قطعت شوطا كبيرا تمثل في وقع تراكمي على مدى السنوات والقرون الماضية وهنا يوضح بقوله: خصوصية العمارة في عُمان تكمن في احترام المكان والتعايش مع التحديات الطبيعية، فقد استوطن الإنسان العماني منذ قديم الزمان قمم الجبال وسفوحها، رغم شدة انحداراتها وصعوبة تضاريسها الجغرافية، وتحديات شحّ الموارد كالمياه، هبوطا نحو السهول والسواحل ومرورا بالكثبان الرملية ليطوّع الوديان ومجاري المياه الفوقية والباطنية لخدمته، وهذا التنوع في التضاريس والمواد المتوفرة بالمكان أنتج طُرزا معمارية مختلفة من بيت القفل في جبال مسندم، إلى بيوت العريش (عمارة سعف النخيل) في ساحل الباطنة والشرقية، إلى المنازل الحجرية المتعددة الطوابق في محافظة ظفار.
ويضيف اللواتي: حتى هذا اليوم يلاحظ الزائر للسلطنة كيف تستقر المدن العمانية على تضاريس المكان والمناظر الطبيعية للجبال وتعتبر جزءا أساسيا في الرحلة المعمارية بين الضواحي القديمة وأوساط المدن الجديدة، بالإضافة إلى الألوان الفاتحة على الخلفية الغامقة للجبال التي تعطي إحساسا عن الاهتمام بالمشهد الطبيعي للمكان والمدينة.
هناك اهتمام رسمي نوعي يفسر ذلك الترابط التراثي بين الماضي والحاضر، وما الشواهد التي أوجدتها السلطنة في بيان العمارة العمانية إلا خير دليل على ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، “جامع السلطان قابوس الأكبر، والبنك المركزي، ودار الأوبرا السلطانية، وحصن الشموخ، وغيرها من الشواهد، وهنا يقرأ اللواتي هذا الاهتمام النوعي ويقول: الأمثلة والصروح للصورة البصرية للعمارة العمانية كان قد أرساها السلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور – طيب الله ثراه-، في بداية الثمانينات حيث برز بشكل جلي في السلطنة طراز عمارة الحداثة أو ما يعرف بالطراز الدولي خصوصا في مدينة مسقط في الحي التجاري بروي، وهي ذاتها التصاميم التي ملأت مدن وعواصم شقيقات مسقط في الخليج، فوجّه السلطان قابوس طيب الله ثراه آنذاك إلى ضرورة الالتزام بالطابع التقليدي وعليه أعدّت المؤسسات المعنية منشورات احتوت على تصاميم للاسترشاد بها عند إعداد واجهات المباني وكانت مستوحاة من القلاع العمانية المعروفة بلونها الرملي وشكلها التكعيبي، وتتميز بالفتحات المستطيلة بزوايا قائمة تتوّجها أقواس مثلثة.
ويضيف اللواتي: هذا الطراز ساد معظم المباني الرسمية ويتساءل البعض عن سؤال القوس والقلعة في مشاريع المنشآت السلطانية لِمَ اتخذت هذا الطابع؟ لم تكن الصورة البصرية مجرد عملية نسخ ولصق لعناصر تراثية من القلاع كما يجري في كثير من المشروعات التي تتخذ من التاريخ زيّا أو رفضا للحداثة، وانما عكست قيم الإنسان العماني وبساطته فهو قد جُبل على التواضع وعدم المبالغة. فمثلا دار الأوبرا السلطانية تلج إليه من خلال باب صغير لا يستفزك في رسالة أن الثراء يظهر من الداخل حيث تبهرك جماليات وزخارف الدار كأنها قصر ولا يمكنك أن تتخيل تلك التفاصيل من الكتل المكعبة من الخارج المنسجمة مع تاريخ عُمان.
المتتبع لسيرة المهندس علي اللواتي واهتمامه الكبير بالعمارة العمانية أيضا، يجد أنه باحث ومترجم في “مركز أبحاث العمارة والتراث الثقافي بالهند والجزيرة العربية والمغرب – آركيام (ARCHIAM)” في جامعة ليفربول.. وهنا يطلعنا على تجربته في هذا المجال فيقول: “مراكز أبحاث العمارة ليست كثيرة حول العالم، وخصوصا تلك المهتمة بعمارة الجزيرة العربية وعُمان، وكوني مبتعثا إلى كلية العمارة بجامعة ليفربول وجدت مشروعات توثيقية وأخرى مشروعات قائمة لإعادة تأهيل الهياكل الإنشائية القديمة في مسفاة العبريين وصلالة، وإضافة لذلك فإن المركز يقوم بالشراكة مع مكتبة قطر الوطنية بترجمة الوثائق المتعلقة بالتاريخ المبني للجزيرة العربية وبه وثائق مهمة من مكتب السجلات الهندي والمكتبة البريطانية وأرشيفات أخرى.
وأضاف اللواتي: عملت مترجما لبعض النصوص في المشروع التوثيقي ما أتاح لي الاطلاع على الكثير عن العمارة العمانية، وهناك تنافس بين مختلف المكتبات والأرشيفات الوطنية الخليجية لاقتناء وترجمة هذه الوثائق ونحن في عُمان ما يميزنا عن غيرنا أن تراثنا المادي ما زال بحالة جيدة جدا، وهناك عناصر معمارية في عُمان لا تتوفر في أي رقعة جغرافية أخرى في العالم وتتميز بها السلطنة فقط، وعلى سبيل المثال لا الحصر، المساجد العمانية التقليدية، فمنذ أن دخل الاسلام إلى عُمان كانت السلطنة محافظة على الشكل الأصلي للمسجد البسيط الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عبارة عن حجرة صلاة دون منارة أو قبة كبيرة. وما زال هذا الشكل إلى يومنا هذا يحافظ عليه العمانيون بالرغم من التغييرات المعمارية التي طرأت على المساجد في الحقب التاريخية السابقة من الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وقد أضاف العمانيون قبة صغيرة في زاوية سقف المسجد اسمها “البومة” وهذا العنصر المعماري تتميز به العمارة الإسلامية في عُمان دون غيرها.
وللباحث علي اللواتي متابعات واضحة تتعلق بتوثيق كل ما من شأنه العمل على إيجاد رؤية خاصة للعمارة العمانية، وللصورة أثر كبير في ذلك، وهنا يطلعنا كيف يوثق المصور والفنان التشكيلي في السلطنة ماهية العمارة العمانية، وما إذا نحن بحاجة إلى أدوات ذات شمولية أكبر لتكون هذه العمارة أكثر حضورا لدى المتلقي خارج نطاقنا الجغرافي ويقول في هذا الجانب: ” للصورة الفوتوغرافية تأثير بالغ فالمعمار فن بصري، وقد أثّر بالتأكيد توافر أو عدم توافر الصورة على ما يمكننا الترويج له من عمارتنا في السلطنة أو التعريف بها للغير، وهناك الكثير من المباني حتى الجديدة منها التي أنشئت في نهاية الأربعينات وبداية الستينات في أوج حركة الحداثة المعمارية في مدينة مسقط، قد هُدمت لاحقا مع أعمال التوسعة ومشروعات التنمية التي جاءت لاحقا في التسعينات والألفية الثالثة، وبعض تلك المباني كانت من تصميم كبار المعماريين العرب مثل المعمار العراقي الراحل الدكتور محمد مكيّة، ولا يوجد هناك أرشيف فوتوغرافي وطني عام أو خاص يوثّق مسيرة العمارة في عُمان بل حتى على مستوى المنطقة العربية.
ويضيف: “هناك نقصٌ كبيرٌ في هذا الجانب من وجود مصوّرين وفنانين محترفين متخصصين بالتصوير المعماري، ومما تمكنا من العثور عليه لأجل التوثيق والتعريف أو حتى للأعمال البحثية والأكاديمية جاء من ألبومات عائلية خاصة أو مصورين هواة، أو من أرشيف بعض الشركات التي كانت متواجدة في السلطنة مطلع النهضة، وأعتقد أننا بحاجة إلى مشروع توثيقي للذاكرة البصرية لعُمان تحفظ فيه واجهات ومخططات العمارة العمانية وتكون متاحة للباحثين، أو مشروع أطلس للأعمال المعمارية.
بالطبع هناك بعض المهتمين في ذلك، وأذكر منهم على سبيل المثال المصوّر الفوتوغرافي /محمد بن الزبير بن علي/ الذي أنتج أعمالا توثيقية وإصدارات عن العمارة في عُمان من خلال الصورة الفوتوغرافية، والفنانة التشكيلية /نعيمة الميمنية/ التي تناولت العمارة العمانية في لوحاتها.
وتحدث الباحث اللواتي ذات مرة عن كيفية أن يكون فن العمارة رافدا حقيقيا للاقتصاد، وهنا يوضح ذلك الحديث والرابط المشترك بين تلك الفكرة وصناعة إعلام يروج لماهية العمارة وحقيقتها بقوله: هناك قيمة اقتصادية مضافة للعمارة يغفل عنها صنّاع القرار بل والمصممون المعماريون أنفسهم، ومثال ذلك مشروع متحف “غوغنهايم” في مدينة “بلباو” الاسبانية التي لم يكن أحد يتخيل وجودها على خارطة السياحة الثقافية للعالم؛ كونها مدينة ميناء صناعي لتصدير الفحم ذات هواء ملوث، ولكن حكومة إقليم “الباسك” طرحت رؤيتها المستقبلية لتطوير المدينة سياحيًّا، فأوكلت أعمال التصميم للمعماري الشهير “فرانك جيري” الذي استوحى فكرته المعمارية من الميناء؛ فجاء المتحف على ضفاف النهر بجدران متموّجة من صفائح معدن التيتانيوم في إشارة رمزية إلى التاريخ الصناعي للمدينة، وتعكس الألواح ضوء الشمس ليتقزّح على سطح الماء تحت جسر معلّق يصطف عليه السيّاح للاستمتاع بالمشهد المعماري للمبنى، وهو من الأعلى يشبه حبة الكرز التي تزيّن الكيكة ومن الأمام يشبه السفينة حيث استقطب المبنى السيّاح من جميع أنحاء العالم مما سمح لتنشيط قطاع الفندقة والمطاعم واللوجستيات وأسهم في توفير عدد كبير من الوظائف.
وتوّج الباحث علي اللواتي أخيرا كأول عماني وخليجي بجائزة محمد مكية للعمارة 2020، وهنا يطلعنا على ماهية هذا التتويج وأهميته: محمد مكية كان متواجدا في السلطنة إبان النهضة المباركة وقدم مشروع تخطيط لمدينة مطرح ومدينة مسقط، وكان الاستشاري لمشروع ترميم باب المثاعيب الأثري في مدينة مسقط القديمة، وصُمّم بها مبنى وزارة المالية، وكانت آخر أعماله المعمارية قبل وفاته تصميمه جامع السلطان قابوس الأكبر في العذيبة لذا يعني لي كثيرا أن أحمل جائزة باسم هذا المعماري الذي يعتبر المؤسس لتخصص العمارة في المنطقة العربية وهو من وضع أول برنامج مؤسس لتدريس العمارة في جامعة بغداد، ولحسن الصدف أنه تخرج أيضا من جامعة ليفربول في الأربعينات حيث أنتسب الآن للدراسة بها والجانب الآخر أنني أول عماني أتوّج بالجائزة .