نسمات الصباح كانت عليلة ذلك اليوم الذي مرا فيه عبر البيادر، وعندما شارفا مزارع الخوخ، بهرتمهما ملابس الفلاحات الأذربيجانيات، فلقد كُنًّ يلبسن جلابيب طويلة صاخبة بالألوان، وهُنّ يقطفن ثمار الخوخ الذي فاحت رائحته أرجاء المزارع بفعل نشاط النسمات العليلة، لدرجة أن المرء قد يخال أن النهر الأسطوري (ألوان) والذي تحكي قصص العجائز عنها بأن كل ببغوات العالم قد وقعن فيها، يمر عبر هذه المزارع، وأن تلك النسوة قد غمسنّ جلابيبهن فيها جزما!
وعلى صخرة ملساء ألقيا بجسديهما بعد مشي باشراه منذ أن أتما صلاة الفجر، تجاذبا فيه حديثا شيقا اتخذ صبغة علمية تارة وفلسفية أخرى حول مراتب الموجودات، فلقد كان “بهمنيار” قد بلغ ستون صفحة من كتابة تأليف له بهذا العنوان، ويريد أن يسمع آراء أستاذه الرئيس “ابن سينا” حول بعض نظرياته التي سجلها فيه.
ظلا لوقت صامتين، هذا عندما مرت أمامهما جنازة محاطة بكوكبة من الناس، يقدمها رجل ينادي برفيع الصوت “لا إله إلا الله… محمد رسول الله، كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإلكرام” والناس بين من يُهمهِم بما يصدح به الرجل في المقدمة، وبين مُستعبر متأمل متذكر للمصير، وأن البقاء لا يدوم. وأمام هذا المنظر المهيب، باغت الرئيس تلميذه أبي الحسن “بهمنيار” بسؤال:
هل أدرجت ضمن مراتب الموجودات ما لا يطاوله الفناء يا بهمنيار؟
أجاب الشاب متعجبًا:
وهل ثمة موجود غير الإله لا يطاوله الفناء يا أبا علي؟
رد الرئيس يقول:
هذا يستدعي أن نفكر مليا..! أنظر جيدا، فلقد وقعت حادثتا قطف واستيفاء قبل قليل..
رد أبو الحسن “بهمنيار” يقول:
أخالها واحدة فقط! تعني قطوف الفلاحات ذوات الجلابيب المغموسة بأزهى الألوان..
يجيب الرئيس قائلا:
نعم وواحدة أخرى، فلقد قطف “ملك الموت” كائنا من أكمام الطبيعة وأخذه بعيدا..!
ولكن لماذا يريد “ابن سينا” أن يطلق على هاتين العمليتين “القطف”؟ إنه يرغب أن يُنّبه ذهن تلميذه الذكي إلى سِّر خفي. الفلاحات استوفت قطف ثمار الخوخ، قطفنها كاملة تامة وما تركن شيئا منها معلقا في الأغصان، وهذا هو الاستيفاء أي القبض بالتمام.
فهل ترك “مَلَك الموت” شيئا معلقا على غصن الطبيعة من بقايا الكائن الذي قطفه؟ أي أن القطفة جاءت كاملة تامة مستوفية كل أبعاد ذلك الكائن الذي وجد ذووه أنه ما عاد هُنا! ولم يجدوا الاحتفاظ بجسده معهم في المنزل يجدي! فلقد رحل. رحل تاركاً جسده خلفه!
يديم “بهمنيار” التأمل في الكتاب المجيد كل فجر وحتى شروق الشمس، ولن يستصعب أن يتذكر الآية التي تقول “هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار” وكذلك “الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها” وأيضاً “قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكل بكم”، فلقد تكرر “التوفي” في هذه الآيات الثلاث ثلاث مرات، والتوفي بمعنى القبض كاملاً، فكما أنَّ الفلاحات قبضن ثمار الخوخ “كاملة” ولم يتدلى شيء من بقاياها في الأغصان، كذلك قبض واستوفى “مَلَك الموت” الثمرة البشرية كاملة ولم يترك شيئاً منها معلقاً، ومع هذا فقد خلف الجسد وراءه ولم يقطفه! لماذا يا تُرى؟
أتعني أنَّ الإنسانية كينونة ما وراء الجسد، وإلا لكان من المُستحيل أن يهملها “ملك الموت” فيتركها خلفه دون أن يستوفها إن كانت جزءاً لا ينفصل عن حقيقة الكينونة البشرية؟
هذا ما ينبغي أن نفكر فيه يا “أبا الحسن”..!
كم تغيظ “بهمنيار” نصف الأجوبة؟! إنه لا يُطيق سماعها…!
المذهل في الأمر أن الآية “قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ” (السجدة: 11) جاءت إجابة عن اعتراض أولئك الذين لم يكونوا مستعدين للإيمان بالحياة ما بعد الموت، فلقد اعترضوا يقولون: “وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد”؟ إنهم لا يصدقون بعد أن نال منهم التغيير والحركة والتبدل – السمات الجوهرية للمادة – فاستحالوا تراباً، لا يصدقون بأنهم مع هذا سيظلون على قيد البقاء!
لقد ذهبت معالم شخصياتهم تماماً، فهل سيظل شخصهم باقيًا؟ كيف؟
وإذا بالكتاب المجيد يجيب جواباً يستحق تأملا شديدا، إنه يقول لهم: كلا! إنَّ زوال معالم شخصياتكم تماما ليس معناه أن التغيير والتبدل والحركة قد نالت شخصكم وكيانكم، فلقد قطفكم “مَلَك الموت” واستوفى وجودكم تماماً دون أدنى خطأ، ونقلكم إلى ما وراء منطقة التغيير والتبدل والحركة، تمهيداً لعودتكم إلى بارئكم.
أما كان ينبغي “لمَلَك الموت” أن لا يهمل الجسد فيأخذه أيضاً لو كان يمثل قيمة في حقيقة الإنسانية؟
علينا أن نُفَّكر كثيرا يا أبا الحسن.. فهل هنالك بُعد لا يطاوله الفناء في طبيعة هذا العالم، بحيث إن طبيعة هذا العالم لا تكون جُزءا من حقيقته البتّة؟!
هل هذه إجابة على هيئة تساؤل..؟ سوف يتأكد “بهمنيار” من ذلك بنفسه!