[tie_full_img][/tie_full_img]
مجلة شرق غرب | العدد 18 | 16 نوفمبر 2018
مصطفى بن مختار اللواتي*
هذ الورقة طرحت في الجلسة الحوارية “الثراء اللغوي في سلطنة عمان” وتنشر بالتعاون مع مُؤسسة بيت الزبير.
————————————-
لَقَد شَاء الله سُبحانه وتَعالى أنْ يكُون الموقعُ الجغرافيُّ لبلدنا العزيز بين حَضارات أصيلة مُختلفة؛ ممَّا جعلنا -نحن العُمانيين- منذ بَدء التاريخ ضِمن صُنَّاع الحضارة، غير طَارئين عليها؛ فلو بحثت في التكوين الجيولوجي عن تركيب هذه القطعة من الأرض، لرأيتها جزءًا لا يتجزأ من كل القارة الآسيوية حتى أفغانستان، قبل أن تنشقَّ ويدخل فيها الماء الذي تكوَّن منه الخليج وبحر عُمان قبل ملايين السنين؛ وبالتالي فقد كان للتنوع الحضاري والاختلاطات المختلفة أثرُه الكبير في فكر الفرد العُماني، وعمقه الوجداني؛ الأمر الذي تتَرْجَم بعدئذ في سلوك الإنسان العُماني؛ فتجده وادعًا غير مُتنفرٍ من الخليط الذي يعيش فيه، وبإمكانك أن تسأل أيَّ سائح يفِد إلى هذا البلد كم من شعور الاطمئنان والأمان يسُود وجدانَه بعد أن يمضي قليلا من مدة بقائه في عُمان، وإنَّني لأهيب بكل عُماني أن يجدَّ ويجتهدَ في ترجمة عُمانيته من خلال سُلوكه، هذا السلوك الذي ليس من صِناعة أيام وليال، بل هو من صنيع الدُّهور؛ فقد مرت عُمان بحكم ملكي وادع، وهذا ما يُفسِّر لنا دخول أهل عُمان طواعية في الإسلام، وفيهم قال الرسول -صلَّى الله عليه وآله وسلم: “لو أن أهل عُمان أتيت ما سبُّوك ولا ضربوك”.
إذن؛ فقد تجذَّرت ثم تنوعت الحضارات على هذه الأرض الطيبة، ومن آثار هذا التنوع الحضاري: تنوع اللغات؛ولا يخفى أن اللغة هي الآلة التي يُعبر بها الفرد عن خلجات نفسه، وما يدور في خاطره؛ لذا يكون الثراء اللغوي البوابة التي منها نعبُر إلى آداب الشعوب وإرثها الحضاري وثقافتها وآثارها، وهو الحاصِل في بلدنا العزيز، الذي تمازجتْ فيه حضارات عِدَّة أدت لثراء لُغوي؛ وبالتالي ثراء ثقافي واجتماعي فريد.
أمَّا موضوع حديثي، وهو اللغة “الخَوْجِية”، والمسمَّاة خطأً باللواتيَّة؛ فقبل أي شيء أودُّ أن أقول إنه لا تُوجد في العالم كله لغةٌ تُسمَّى اللواتيّة إطلاقا، وتسميتُها بذلك خطأٌ كبير؛ فللغة أصلُها وتاريخها؛ فالأصل هو اللغة السندية، وقد انبثقتْ من هذا الأصل عِدَّة لهجات مُتشابهة؛ منها: الكتشية، والميمنية، والزدجالية، وهذه الرَّطنة التي يتحدَّث بها جمعٌ من اللواتية -أي: الخَوْجِيّة- والتي هي خليطٌ من السندية والكتشية والعربية والفارسية تسمى “الكهوجكي”، وإذا عرَّبتها تكون “الخَوْجِيّة”.. فمن هم الخَوجة؟
الخَوجة هم اللواتيَّة العُمانيون الذين هاجروا من عُمان إلى مُلتان في السند، وأقاموا دولتهم هناك، وكان لهم باعٌ طويلٌ فيها في نشر الإسلام، وفي التاريخ رسائل منهم إلى مشايخ عُمان يسألونهم في الفقه؛ إذ كانوا إباضية في الأصل، ولتشيُّعهم قصة تاريخية ليس هاهنا محلُّها. كذلك لهم رسائل أخرى وديَّة بينهم وبين أهلهم في عُمان.. يقول المؤرخ القدوسي في كتابه “تاريخ السند” -وهو بالأردية- “كانت حركة الرَّواح والمجيء بين عُمان والسند مُستمرة منذ القديم، وكانتْ التجارة البحرية بين كِلا القُطرين جارية، لا سيَّما روابط بَنِي سامة بن لؤي بالسند القديمة؛ فمنهُم كان حكام الملتان”. وبنو سامة بن لؤي هم اللواتية -نسبةً إلى سامة بن لؤي بن الحارث بن لؤي القرشي- وهم لواتية عُمان فحسب في دولة مُلتان بالسند منذ أن فتحها القائد مُحمَّد بن القاسم السامي العُماني؛ بل أنقذها من الهندوك عام 279هـ، وهو غير القائد مُحمَّد بن قاسم الثقفي من العراق الذي كان قد دخلَها فاتحًا في أواخر القرن الأول الهجري. ومن هُنا؛ يتَّضح أنَّ أصل اللفظ هو لوائية، والمفرد لوائي، ثم خُفِّفت الهمزة فصارتْ لواتي، وهذا سائدٌ في اللسان العربي؛ ففي القرآن الكريم تجد اللائي واللاتي، وفي لغة الأزد -وهي لغة أهل عُمان- تجد: عصائي بالهمزة وعصاتي، وأشيائي وأشياتي. غير أنَّ القائد محمُود بن سبكتكين الغزنوي -نسبة إلى غزنة في أفغانستان- قَضَى على دولتهم في أواسط القرن الرابع الهجري؛ الأمر الذي دَعَاهم إلى أن أجمعوا أمرهم وقواتهم في عاصمتهم الأولى المنصورة، التي ظهرت آثارها مُؤخرًا مع عمليات التنقيب في محافظة السند بباكستان، وعموما فقد كان القائد الغزنوي لهم بالمرصاد؛ فقضى على دولتهم نهائيًّا في المنصورة أوائل القرن الخامس الهجري، وعندما استتبَّ الأمر له -أي لمحمود الغزنوي هذا- وبدأ تنظيم دولته التقى بأشراف اللواتية، وكان يجهل العربية بالمرة؛ فخاطبهم بلفظ “الخَوْجَة”؛ ويعني: الشريف، أو النبيل، أو السيّد، ويُطلَق أيضًا على أمين الصندوق في السفينة، وهو منصب عالٍ ضِمن مناصب إدارة السفينة، وهو لفظٌ عربيٌّ يُستعمل في لغات بلاد المسلمين العرب وغيرهم، كما نصَّ على ذلك البروفيسور جواد بن جعفر بن إبراهيم اللواتي، والمعروف بالخابوري، نقلًا عن الأستاذ إلياس إنطوان إلياس صاحب القاموس العصري المعروف، كما أنَّني وجدتُه مُختصرًا في قاموس الجيب لنفس المؤلف، مع الرَّمز الذي يُشير به إلى أنَّه عربي. ومن مَعَانيه: المعلِّم، وهذا اللفظ يُستعمل كثيرًا في الشام للمُشرِف على مجموعةٍ من العمال.
ولا نستغربُ من إطلاق هذا اللفظ؛ فنحن نجده في الجزائر؛ فمن أكابر ثوارهم كان بالخوجة، وعبدالعزيز بن مُحيي الدين خوجة كان سفيرَ المملكة العربية السعودية في لبنان، ونجدُه في البحرين كذلك؛ بل إنَّه معروفٌ في عوائِل بلاد الشام، وكذلك في إيران وأفغانستان.. وغيرها.
وعليه؛ فقد عُرفت هذه الفئة من اللواتيّة بِالخَوجة، ثم شَمِل هذا اللقب كلَّ من أسلَم تحت مظلَّة الخوجة؛ تمييزًا لهم من الهندوكيين الوثنيين، وتأمينًا لهم من شرهم إذا رجعوا إليهم -كونهم اعتنقوا الإسلام- وهنا يظهرُ جليًّا في هؤلاء اللواتية الطَّابع العُماني الأصيل، ودوره في نشر الإسلام، واحتضان من أسلم من الهندوك. وعمومًا، صارتْ الجماعة أوسع من ذي قبل، وعاش اللواتية هُناك في سعةٍ ورغد من العيش، وكانت الصِّلة -كما ذكرنا- أصيلةً مُستمرَّة بينهم وبين من كان قد رجع إلى عُمان من قبل، وكانوا قد سكنُوا أماكن مُتفرقة؛ فبعضهم سكن المنطقة الشرقية في عُمان بمنطقة تسمى “اللُّويّة” في جعلان بني بو حسن، وبعضهم في ولاية أدم، والبعض الآخر بمنطقة الظاهرة، وليس هاهنا مَوْضِع البحث عنهم. أما من سكن في مطرح منهم، فكان قبل عهد آل سعيد بكثير، يشهدُ بذلك تاريخ تجديد الباب الصغير لسور اللواتية، وهو قبل 400 سنة، هذا وقد نصَّ بن رزيق في كتابه “الفتح المبين” على أنَّه وعند قدوم الإمام أحمد بن سعيد إلى مطرح “فأول من يأتيه من أهل مطرح بنو حسن، ثم تتبعهم اللواتيَّة، ثم يتبعهم بنو زراف”، وهذا يقتضي السَّبق إلى عهد آل سعيد؛ لأنَّ سور اللواتية كان قائمًا آنذاك حيث يُشير كذلك إلى “أنّ أصحاب مُطلق نهبوا سوق البزِّ، وأحرقوا سور اللواتية”، وهذه القرائن وغيرها دليلٌ قاطع على أنَّ وجودهم -أي اللواتية- في عُمان أصيلٌ وقديم قدم الزَّمان، ولكنْ حدث ما ذَكَرنَاه اختصارًا.. ولله في خلقه شُؤون.
أمَّا اللواتيَّة الحيدرآباديون؛ فهم اللواتية الذين هاجرُوا من مُلتان مُتأخِرًا إلى عاصمة السند الجديدة وهي حيدرآباد، التي تأسَّست عام 1182هـ على أنقاض مدينة “نيرون كوت”، وتبتعدُ حيدر آباد الآن في العام 2018م حوالي 180 كيلومترا عن كراتشي في محافظة السند بباكستان. هذا؛ وكان لهُم -أي: للواتية- شأنٌ عظيم هُناك -سواء من الناحية الاقتصادية، أو الاجتماعية- حتى إنَّهم تصاهرُوا مع أكابر شُيوخ بلوش السند، وهي عشيرة “تالبور” المعروفة بمكانتها إلى الآن، وفي هذا قال قائلهم:
قومي لؤيٌ وفي..
تالبور لي نسبُ
ولكنْ وقَع هُنَاك ما لم يكن في حُسبانهم؛ فقد حدثتْ قلاقلُ داخل البيت الحاكم؛ الأمر الذي أدَّى بهؤلاء إلى أنْ يأخذوا حذرهم خوفا من أن يُصيبهم مكروهٌ؛ فبدأوا بالعودة إلى مَوْطِنهم الأصلي عُمان، آخذين معهم كلَّ ما خف وزنُه وغلا ثمنُه، وكانوا ميسورِين أثرياء، حتى إنَّ بعضَ أحفاد هؤلاء أخبرني بأنَّ مفاتيح جده كانتْ من الذهب، وقال غيره إنَّ جدته كان لها قبقابٌ من ذهب.
وهكذا فقد توالتْ الهجرات؛ حيث تمَّ ذلك أيضًا بعد الاحتلال البريطاني للسند والهند؛ فكانوا إذ ذاك يحملون الجنسية البريطانيَّة، وأعني الرَّهط الذي تتابع، وكان فيهم من جاء من السند، وبعضهم من الهند من الكتش، وهي محافظة كبيرة في ولاية كجرات، إلا أنهم ساكنوا إخوتهم اللواتية في سورهم؛ حيث كان يجمعهُم وحدة المذهب واللغة.
أمَّا اللغة الخوجية، فقد تكوَّنت من هذا الخليط العرقي المنوَّع الذي انضمَّ تحت راية اللواتية العُمانيين، وما يهمُّنِي ذكره هُنا أنَّ اللواتية العُمانيين الذين استوطنُوا ملتان والمنصورة كانوا يتحدَّثون العربية بجانب السندية، نصَّ على ذلك كلٌّ من: ابن حوقل الذي زار ملتان عام 331هـ-943م، والاصطخري الذي زارها عام 340هـ، كلٌّ منهما نصَّ على أن لسان أهل ملتان والمنصورة وما حولهما العربية مع السندية، وأما ما قاله البشار المقدسي -الذي زارها عام 359هـ- فأحببتُ أن أقتطفَ ملخَّصًا من كلامه ما يهمُّ موضوعنا؛ وهو أنَّ الملتان مثل المنصورة لكنها أعمر وأرخص، دُورهم مثل دُور عُمان، ليس عندهم زِنى أو شُرب خمر، ولا يبخسون ولا يكذبون، يُحبُّون الغرباء، تِجَارتهم حسنة والنعم ظاهرة، الخيرُ بها كثير، أكثرهم عرب ويهوعلون -أي يذكرون عليُّا عليه السلام- في آذانهم استحبابًا. هذا؛ فالأجيال المتعاقبة تأثَّرت بهذا الخليط؛ فنشأت هذه اللغة المكوَّنة من السندية والعربية والكتشية والفارسية كما أسلفنا، وكمثال على ذلك: نُوْرِد بعضَ الكلمات العربية والفارسية التي نَرَى لها أثرًا واضحًا في الخَوجية:
أمَّا المتحدثون بهذه اللهجة، وشبيهاتها، فهم عددٌ كبيرٌ من المواطنين العُمانيين؛ فهُناك جمعٌ كبيرٌ من اللواتية يتحدَّثون بها بجانب اللغة العربية، وقد تناقَص عددُ المتحدِّثين بها في الأجيال الجديدة لصالح اللغة العربية، وهُنَاك إخوانُنا الميمن، ويشمل اللفظ إخواننا الصواغ والنجارين والصباغين، وأصحاب الكمبار، الذين كانوا يصنعُون الفخار، وهم أولاد المرحوم سليمان كمباري.. وغيرهم مِمَّن ألحق بجماعة الميمن، وإخواننا الزدجاليون، وأصل الكلمة (جَدكال)، وهؤلاء جميعًا من مطرح، والمعروف أنَّ هذه اللهجات قريبة جدًّا من بعضها، والمتحدثون بها يتواصلون فيما بينهم بكل يُسر وسلاسة.
أمَّا الإرثُ التاريخيُّ للغة “الخوجية” من حيث الأصل السندي؛ فالسندية لغةٌ واسعةٌ جدًّا، ومتعلقةٌ بحضارة السِّند القديمة؛ وبالتالي لها آدابُها وأشعارُها، وهي ثريةٌ جدًّا، وأكبر دليل على ذلك حضارة “موهان جودارو” الجاثِمَة على السند إلى يومنا هذا.
أمَّا عند اللواتيَّة؛ فالإرثُ الشفهيٌّ كثيرٌ من الأمثال والحكم والأقوال المتداولة بين الناس، وقد ذكرتُ بعضًا منها في كتابي “تجاربي طيّ الزمن”، إلا أنَّها لم تُدوَّن إلى اليوم للأسف، وإنَّني لأشجِّع شبابنا على القيام بالجمع والتدوين، وإني على استعدادٍ لمُساعدتهم في ذلك. أما المكتوب منها، فبعض المراثِي التي ألّفت في رثاء أهل البيت؛ وهم:النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته عليهم السلام، وبعض المدائح فيهم أيضًا. وقد كُتبت هذه أصلا باللغة السندية بالهِجائين: العربي والسندي القديم، وكُنت قد رأيت كتابًا في المأتم الصغير قبل ستين عاما ونيف مطبوعًا بالهجاء العربي بالسند، ورأيت بأمِّ عيني المرحوم الحاج جمعة بن عبدالله بن صالح اللواتي وهو يخط تلك المراثي بيده، كما إنني ما زلت أذكُر خطَّ المرحوم الحاج جمعة بن باقر بن سليمان اللواتي في دفترٍ طويلٍ خاصٍّ بهذه المراثي، وقبل عشرين عاما تقريبا قام المرحوم الحاج عبدالخالق بن عبدالله بن حبيب ناجواني اللواتي بنقل كثيرٍ منها إلى الهجاء العربي، لتبقى قراءة هذه المراثي حيّةً إلى اليوم -جزاه الله خيرا، ورحمه رحمةً واسعة. أمَّا صاحب هذه المرثيات ومُؤلفها، فهو المرحوم ثابت علي السندي، وهو الرجل الفذ التي تحوي مرثياته كثيرا من الألفاظ العربية والفارسية إلى جانب السندية التي كان يُتقنها جميعا، وكذلك الشاعر ناصر الذي يأتي بعده.
وقد نبغَ من اللواتية أيضًا المرحوم الحاج حسن بن سلمان اللواتي وهو الجد الأكبر لسماحة الشيخ الدكتور إحسان بن صادق بن مُحمَّد سعيد بن حسن اللواتي، الذي كان يُؤلِّف المرثية بالسندية مع ما كان يُؤلِّف من الشعر العربي الفصيح، بجانب إتقانِه اللغة الفارسية واللغات الأخرى السائدة بالمنطقة، كذلك كان الحاج المرحوم سلطان مُحمَّد فاضل يقرَأ وقائع عاشوراء ليلة العاشر من محرم الحرام في المأتم الصغير بسور اللواتية باللغة السندية، وكان يطلق على تلك القراءة لفظ “البيان”، شهدتُ هذا في طفولتي؛ أي قبل سبعين عاما خلتْ.
وبجانب ذلك، تُوْجَد لدى بعض اللواتيّة اليوم دفاتر الحسابات القديمة -وتسمى “ويُّو”، والمفرد “ويْ”- فمنها الدفتر الخاص بالمعاملات الأولية فور وقوعها وتسمى “كَتشي” أي غير الناضجة، والثانية تسمى “بَكّي” أي الناضجة، وهو دفتر الأستاذ بعلم المحاسبة ومسك الدفاتر، وهي الدفاتر (الأستاذات) التي تحملُ حسابات التجار.. وغيرها من الحسابات بين طياتها، ويجدُر بالذكر أنَّ السِّجلات هذه كُلها تتبعُ نظامَ القيد الواحد وهو ما يسمى بالإنجليزية: (Single Entry System)، وهو نظامٌ قديمٌ جدًّا قِدَم الزمان، ويُستعمل في آسيا كلها، إضافة إلى ذلك فعندنا مراسلاتٌ تجارية وشخصية بين الأفراد حيث كان اللواتية يتكاتبون فيما بينهم، وهناك تفاصيل أخرى حول الحوالات التي كانت تتم من بلدٍ إلى آخر، كما أنَّ تفاصيل أخرى تخص ألوان هذه الدفاتر وأشكالها وكيفية طيِّ صفحاتها.. إلخ، ليس محلها هُنا.
أمَّا عمَّا إذا كانت اللغة الخوجية شفهيَّة أم أنها تُكتب؟ فنَعم اللغة مكتوبة؛ فقد كتبها أهلها بالهجاء السندي، في الوقت الذي كانت تكتب فيه اللغة السندية ذاتها بالهجاء العربي بعد دخول الإسلام، وهو من الأهمية بمكان أنْ نقول إنَّ اللغة الأردية نشأتْ في الفترة التي نشأتْ فيها الخوجية تقريبًا أيام حُكم محمود الغزنوي عام 413هـ-1022م، إلا أنَّ الملاحظ أنَّ الأردية كُتبت بالرَّسم العربي الفارسي، بينما كُتبت السندية برسم النسخ العربي؛ مما يُشكِّل رُبَّما إشارة تاريخية ترجِّح كَوْن أهلها عربًا؛ إذ استأنسوا الحرف برسم النسخ العربي. وعُمومًا؛ فقد سُمِّيت بـ”الكهوجكي” كما ذَكرنا آنفا، إشارة إلى لفظ الخوجة المتحدِّثين بها، ويبدو لي -إذ إنَّنِي لم أجد لذلك مصدرًا- أنَّ اللفظ هو “كهوج-كي”. وحيث إنَّ اللفظ “كي” في الأردية -وبعض اللغات الهندية- يعني النسبة، كقولهم “ما-كي” أي تخص الأم، أو “باب-كي” أي تخص الأب، فهي على ظنِّي تعني “كهوج-كي” أي تخصُّ اللواتية؛ فهي لغة هؤلاء اللواتيّة.. والله أعلم.
واللغة لهَا ثمانِي تشكيلات مَكتُوبة؛ تتضمَّن اثنين وأربعين لفظا، ليُتخذ الحرف الأول منه كحرف هجاء، وكل حرف منه له ثماني حركات، كما أنَّ اللغة تحوي الجمع والمفرد والتذكير والتأنيث، وفيها ضَمَائِر الحاضر والغائب والمتكلِّم والمخاطب.. إلخ. واللغة أيضًا تُكتب بالهجاء السندي القديم، وكما يبدو من الهجاء أنَّ هناك ألفاظًا أُضِيفت لها بعد دخول الإسلام.. ولتوضيح ذلك مثلا: “أكَرآسَرْ” هذه التشكيلة يُؤخذ منها حرفها الأول وهو (أَ)، ونحن نجد تشكيلة (محمَّد) والتي يُؤحذ منها الحرف (مَ)، وتسمية الحرف بتشكيلة محمَّد تدلُّ على أنَّها دخلت بعد دخول الإسلام إلى ديار السند، وهكذا تجد “جمعة” للحرف (جَ).. وهكذا. أمَّا اليوم، فالجيلُ الجديدُ المستأنِس باللغة العربية يكتُبها -أي الخوجية- بالعربية، ويقرأ من المراثي تلك التي نقلها المرحوم الحاج عبدالخالق ناجواني اللواتي، وهي بالهجاء العربي التي سبق ذكرها، وهي مُتداولة لدى الشباب اليوم يقرأون منها المراثي، ولا يفهمون منها إلا أقلَّ من 30% لاختلاف المُفردات عمَّا يرطنُونه مع مرِّ الزمن.
هذا ما كان عن اللغة الخوجية اختصارًا، وإنَّني أدعو اليوم الجيلَ الجديدَ من أبناء الوطن أنْ يبحثوا ويقرأوا ويعلموا عن تاريخ وطنهم وأجدادهم؛ ففي هذا أثرٌ كبيرٌ على نفوسهم وأرواحهم التي ستظلُّ مُعتزَّة بإرثها الحضاري العُماني في إطاره العربي، الذي هو لِسان ديننا وقرآننا؛ كي نحمي ونحفظ سمْتَنا وعَادَاتنا وثَقَافتنا من عصر العولمة، الذي ما يبرح يُنسي الأجيال ماضيها ليجعلها نسخةً واحدة لا تعي إلا ما يُملى عليها، ولن نكون كذلك إن شاء الله. وبمناسبة ذلك، فإنَّني أهيبُ بالمؤسسات الثقافية في البلاد كذلك أنْ تتبنى مشروع كتابة اللغات المتنوعة بالهجاء العربي، قبل أن تمتدَّ لها يد الهجاء الأجنبي، وتنأى بالأجيال عن ثقافتها العربية، والتي هي المدخل لفهم الدين والقرآن والسنة،.. وأكرِّر بأنَّنِي مستعدٌ للمشاركة بخبرتي في هذا المجال في أي لغة كانت -الخَوجية أم غيرها؛ كالكمزارية أو الحرسوسية أو الجبالية.. إلخ- وفق الله أبناءنا.
هجاء السندية بالعربية تقابل أحرفها أحرف الهجاء بالسندية القديمة من كراس الابن الشاب الصغير ذي الأربعة عشر ربيعا محسن بن محمد بن مقبول اللواتي ، الذي تعلّم قراءة و كتابة اللغة الخوجية مؤخرا .
صفحة من كراس الحاج المرحوم عبد الخالق بن عبدالله بن حبيب ناجواني اللواتي ،
الخانة الأولى من اليسار تحوي الآتي :
1- الحروف السندية بالهجاء العربي .
2- الحروف السندية ذاتها .
3- نطقها بالانجليزبة نطقٌ تقريبي لعدم وجود الصوت بالضبط .
الخانة الثانية:تسمية الحروف بالانجليزية نطقا تقريبيا لاختلاف الأصوات بين اللغتين .
الخانة الثاالثة :تسمية الحروف باللغة العربية تقريبا ، لاختلاف الأصوات بين اللغتين كذلك .
الخانات الأخيرة :تتمات لما سبق .
* أديب وكاتب وباحث