ولد المُفكر صادق جواد سليمان (1936- 2021) في مطرح حسب بعض المصادر المقربة منه، ونال التعليم التقليدي كغيره من أفراد جيله ثم التحق بالتعليم النظامي وأكمل دراسته حتى حصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية، عمل في بداية مشواره في الكويت كمحرر صحفي.
صدمني خبر وفاته فجر هذا اليوم في جمهورية الهند في رحلة علاج لم يكتب لها النجاح، وأجدني مجبرًا على أن أكتب كلمة لتعريف القارئ العُماني والمثقف العربي بهذا الرجل المفكر الذي تعلمت منه أشياء كثيرة بالرغم من قلة ارتباطي به، فهو من ذلك النوع من الناس الذين بإمكانك أن تكسب منهم من المعرفة والتأثير ما لا يمكن أن تكسبه من أناس تعاشرهم طوال حياتك.
وعلى الرغم من أنه اشتغل في العمل الدبلوماسي وعين سفيرا في أهم دولتين متصارعتين في فترة السبعينيات إيران ثم سفيرا في الولايات المتحدة الأمريكية ثم دول أمريكا الجنوبية، إلا أنني لم أعرفه إلا مثقفا ومفكرا ومناضلا من أجل التعليم والتثقيف ونشر الوعي والمعارف في عُمان والوطن العربي؛ إذ إنه اختار أن يترك العمل السياسي عام 1983 أي في نفس العام الذي ولدت فيه، ليتفرغ للقراءة والبحث والتدريس والاهتمام بالقضايا المعاصرة والتعمق في دراسة الأديان والفلسفات والثقافات، أثمر ذلك عن مشاركته في تأسيس مركز الحوار العربي في واشنطن عام 1994.
بدأت علاقتي به في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في عام 2010، حين انتخب كرئيس للجمعية، وكنت قبل ذلك أقرأ له في الصحف والتقي به أحياناً في النادي الثقافي، عرفني أكثر في الجمعية وأيضاً عرفته أكثر فيها، حيث ساعدنا بخبرته وجلال قدره في الوسط السياسي والاقتصادي وقوة علاقاته المحلية على تجاوز العديد من العقبات والقيود التي تحد من توسع المناشط الثقافية وتفعيل بعض البرامج وزيادة الفعاليات، وساعدنا أيضًا على تنويع مجالات جائزة أفضل إصدار عُماني بدعم رأس مال الجائزة، الجائزة السنوية المعروفة والتي تشرف عليها الجمعية، التقيته مرة أخرى في أحداث تظاهرات 2011، كنت يومها منخرطًا مع المنظمين كمتطوع، ولكوني شخصًا مجهول الهوية ومشبوهاً لدى الشباب المنظمين آنذاك عدا الأستاذ العزيز سعيد الهاشمي فقد أوكل إليَّ مهمة توزيع قناني الماء على المعتصمين فترة تقديم الخطب والبرامج، وكنت أمر بين الصفوف الحاضرة المفترشة للأرض أمام مبنى مجلس الشورى القديم بشكل سريع كي أتمكن من توزيع أكبر قدر من قناني الماء.. حتى شعرت فجأة بيد أحد الجالسين تقبض معصمي، وجهت نظري إليه قال لي: جمال.
وكانت فرحتي كبيرة، واستغرابي وحيائي أيضًا كان كبيرا، ليس حياءً من توزيع الماء ولكن حياءً من أن الأستاذ صادق جواد بجلال قدره وشعره الأبيض الذي يضيء في الظلام كالقمر وهو المُفكر والمعلم والدبلوماسي القدير يجلس فوق حصير وسط المعتصمين، عندها شعرت برغبة شديدة في الجلوس معه، شعور الخضوع بعد الحماس والهيجان، الشعور الذي يشعر به الطالب النجيب عندما يجد معلمه المحب في غير مكانه المُعتاد، وسألته لماذا أنت هنا؟ إن أمثالك يكونون الآن في المقاعد الوثيرة خلف أستوديوهات الإذاعات أو في التلفزيون ليلقوا النصائح والخطب الوعظية عن مساوئ التظاهر ضد الحكومة.
قال لي: يا جمال لا أستطيع أن أفوت هذه اللحظات التي كنَّا نحلم بها منذ سنوات، اللحظات التي يخرج الشعب بكل رقي وتنظيم معبراً بصوت واحد عن رفضه لأمر ما أو عن رغبته في شيء ما.
تحدثنا قرابة الخمس أو العشر دقائق حدثني خلالها بكل حماس وحيوية عن دور المثقف كفرد من المجتمع يعيش معه يتألم لألمه ويبتهج لابتهاجه، ثم كدوره حاملاً شعلة التنوير والتغيير.
لم يسعفني الوقت لأكمل الاستماع إليه، كان عليّ أن أقوم بتوزيع الماء، وهكذا صرت أحرص أن ألتقيه هناك أعطيه الماء أو الميكرفون عندما تسمح له ظروفه بالمشاركة والحضور.
ثم بعد سنوات صرنا نلتقي لمامًا في فعاليات النادي الثقافي التي يقدم فيها أبحاثاً أو يشارك فيها بالحضور، وفي كل مرة يراني أطالع الصحف في مقعد منزو في النادي الثقافي يبادرني بالتحية والسلام وابتسامة تملأ محياه دون أن نتبادل الحديث، مؤكدا بمبادرته على عمق المحبة والمشاعر التي أبادله إياها.
سألته مرة: هل تتذكرني؟! (لأنني في الحقيقة شعرت أن سلامه عليّ هي عادة وليست معرفة)
قال: كيف لا أتذكرك جمال.
آسف على السؤال إذن.
للأستاذ المفكر صادق جواد العديد من الأصدقاء المقربين من الدبلوماسيين والمثقفين، على أنه يفضل العزلة للقراءة والكتابة دائمًا، وهؤلاء الأصدقاء هم أجدر مني بالكتابة عنه، لكني ارتأيت أن يتعرف من يقرأ لي من عمان وخارجها على هذا المفكر الذي يجهله الكثيرون من جيل الشباب العماني، كجهلهم بكثير من كبار الشعراء والرواة والصحفيين والفنانين والمناضلين.
رحل المفكر المتواضع ولم يترك لنا ولا كتاباً واحدًا، ولكنه كان خلف إصدار العديد من الكتب والأفكار التنويرية والمدارسات العلمية والندوات والمؤسسات الثقافية في عمان والوطن العربي وفي أمريكا.