Image Not Found

قصة الكون في علوم الطبيعة (2): لحظات الخلق الأولى

Visits: 9

أ.د. حيدر أحمد اللواتي – الرؤية
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

ذكرنا في حديثنا السابق أن الطاقة والحرارة الناتجتين عندما بدأ الانفجار العظيم بلغتا أرقاما فلكية انهارت عندها القوانين الفيزيائية التي سطرها البشر عبر تاريخهم العلمي.

لكن ما الذي نعنيه بقولنا “عندما بدأ الانفجار العظيم”؟ ماذا نعني بـ”عندما”؟ هل نعني بها الثانية الأولى؟ أم الدقيقة الأولى؟ أم أقل من ذلك أم أكثر؟

إننا نعني بـ”عندما” لحظة الخلق عندما كان الزمن صفرا وامتد حتى وصل إلى (10 مرفوعا لأُس سالب 43 جزء من الثانية ويعني ذلك فاصلة عشرية تتبعها 42 صفرا ثم رقم ١)، فهذه المدة من لحظة الخلق غائبة عنا تماما وستظل غيبا إلا إذا توصلنا إلى فيزياء جديدة لم نتعرف عليها إلى يومنا هذا.

لكن الخبر الرائع أن بإمكاننا تخمين ما حدث بعد هذه اللحظات فلقد استطعنا في العقد الأخير أن نقوم بإنتاج طاقة رهيبة صاحبتها حرارة شديدة بلغت درجة حرارتها أربع تريليونات درجة مئوية على أقل تقدير وهذه الحرارة تشابه حرارة الكون عندما كان عمره (١٠مرفوعا لأس سالب١٣جزءًا من الثانية) وقد تم ذلك في أضخم جهاز تم صناعته في تاريخ البشرية، إنه مسرع الجسيمات والمعروف بالهاردون الكبير حيث يصل قطره نحو 27 كيلومتر ويقع تحت الأرض على عمق نحو ١٠٠ متر بين فرنسا وسويسرا بالقرب من مدينة جنيف.

إن إنتاجنا لهذه الطاقة الرهيبة مكننا من أن نحاكي الظروف الطبيعية التي كان عليها الكون آنذاك، ولهذا فإننا نعلم وبثقة عالية ما حدث في تلك الفترة الزمنية، أما قبل تلك الفترة الزمنية (أي قبل ١٠مرفوعا لأس سالب١٣جزءًا من الثانية) و لغاية ما كان عمر الكون (١٠مرفوعا لأس سالب٤٣جزءًا من الثانية)، فهناك فرضيات علمية تصور لنا ما حدث مع بعض التفسيرات المنطقية ولا توجد دلائل تجريبية واضحة تشير لنا لما حدث في تلك الفترة الزمنية وتشير تلك التصورات إلى أن الكون مر بفترة قصيرة للغاية بتمدد سريع للغاية، فقد تمدد بسرعة فاقت سرعة الضوء، وقد يعترض البعض بأن ذلك غير ممكن لأن المعروف بأن لا شيء يمكنه أن يصل لسرعة الضوء في هذا الكون، والجواب إن التمدد الذي نتحدث عنه لم يكن في الكون حتى نقول بعدم إمكانية ذلك بل الكون بذاته كان يتمدد!.

أين تمدد؟! لقد تمدد في اللامكان ولذا فلا مانع من أن يتمدد بأسرع من الضوء، فالمكان والزمان متواجدان في الكون لا خارجه!

ومع هذا التمدد الكوني الرهيب، انخفضت درجة حرارة الكون وهذا الانخفاض سمح للجسيمات الدون الذرية بالتكون فتكون البروتون والنيترون، وفي دقائق تلت التمدد الكوني اجتمعت هذه الجسيمات نتيجة لقوى معينة لتكون أنوية لعناصر كيميائية.

لكن المادة التي نعرفها في حياتنا اليومية لم تكن قد وجدت بعد فلم يكن أي عنصر من العناصر التي نعلمها قد تكون بعد، لقد كان الكون كله جسيمات دون ذرية ولا شيء غيره.

ويكمل العلم قصة الكون فيحدثنا بأنه وبعد مئات الآلاف من السنين بدأ جسيم الالكترون ينجذب باتجاه الأنوية التي كانت قد تكونت ليبدأ تكون أول عنصر من العناصر الكيميائية وهو الهيدروجين وتكون معه الهيليوم أيضا وكميات بسيطة جدا من الليثيوم والبريليوم وهذه العناصر تعد أبسط العناصر الكيميائية تركيبا.

وبتكون هذه العناصر ولد علم الكيمياء في هذا الكون، لأن قبل تكونهما لم يتواجد أي عنصر من عناصر المادة بعد، فلم يكن لعلم الكيمياء ما يدرسه، لقد كانت الفيزياء هي العلم الطبيعي الوحيد الذي يهيمن على الكون آنذاك، فهي أكبر العلوم سنا، إذ تكبر علم الكيمياء بمئات الآلاف من السنين *.

قد يتساءل البعض أنى لنا بكل هذه التفاصيل الدقيقة؟ وكيف توصلنا إليها؟

لقد وجدنا أن هذا الكون قد خلق بغاية الحكمة إذ صمم بطريقة ذكية تمكنه من الاحتفاظ بتاريخه مبثوثاً في أرجائه اللامتناهية، واستطاع الإنسان في عام ١٩٦٥ ميلادية أن يرصد أول صورة أثرية لهذا الكون عبر رصد أقدم أثر كوني نعرفه لغاية يومنا هذا ويعرف بإشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ، وبدون الخوض في التفاصيل العلمية، فإن هذا الأثر يصور لنا الكون عندما كان عمره لا يتجاوز الأربعة مائة ألف سنة، لذا أمكننا ذلك من أن نتعرف على تفاصيل كثيرة عن كوننا عندما كان “في المهد صبيا”.

يا لروعة هذا الكون وعظمة خالقه…


محاضرة للدكتور دون لينكولن (Don Lincoln) بعنوان “What happen before the Big Bang”.
The search for infinity by Gordon Fraser

  • الفكرة مقتبسة من كتاب “العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري” لنوح هراري. (بتصرف).

لقد اكتشفنا أخيرًا أن الماضي السحيق كتب ونقش على جدران هذا الكون، وأن الكون تعلم الكتابة والنقش في أولى لحظات حياته، تلك اللحظات التي لم تسبقها لحظات. وفي سلسلة من المقالات نلقي الضوء على قصة نشأة الكون كما توصلنا إليها عبر علوم الطبيعة.