Image Not Found

محاصرة ناعمة لفلسطين

محمد بن رضا اللواتي – الرؤية

صورة رجل الإطفاء الفلسطيني حسن العطار وهو ينتشل جثة ابنته وأطفاله الذين تفحّموا بين حطام منزله في شمال غزة جراء القصف الأعمى للبلدة الأبية من قبل الكيان الغاصب، كفيلةٌ لأن توقظ حتى المشاعر التي ابتلعها سُبات شتاءٍ قارسٍ، إلا أنها لم تُحّرِك العالم بما يكفي لأن يُعلن عن سخطه على الاحتلال الغاشم الذي شرّد شعبًا وأذّل من بقي صامدًا على أرضه، وفتك بأطفاله فضلًا عن رجاله ونسائه، إلّا ربما بمقدار تأثره في اللحظات الأولى التي شاهد فيها الطفل مُحمد الدُّرة يرقد بجوار والده صريع رصاصات الغدر الصهيونية.

واحد من أسباب الزوال السريع لتأثير مثل هذه المناظر هو أن الاستكبار الصهيوني قد نقل المعركة إلى الأدوات الناعمة التي يُجيد التعامل معها ببراعة فائقة، وإذا بمواقع التواصل العالمي نراها قد كشّرت عن أنيابها، فها هو “فيسبوك” يُعلن حربه على كل محتوى يدعم فلسطين، ويحظر تطبيق إنستجرام وسم “#الأقصى”.

بداية انطلاقة أعمال الصهاينة على مستوى الإعلام العالمي للسيطرة عليه قد بدأت أول ما بدأت في الولايات المتحدة، فلقد هيمنوا على الآلة الإعلامية هناك إلى درجة أنها بلغت من الوقاحة أن لا يُمانع معها الصهاينة بأن يصرحوا جهارا أمام الرأي العام الأمريكي بذلك، كما ينقل لنا البحث المعنون بإمبريالية الفن السابع عن جوئي استين في مقال نشر بصحيفة “لوس أنجليس تايم” يقول فيه: “كشخص يهودي أقول وبرفعة رأس وأريد أن يطلع الأمريكيون على ذلك: نعم نحنُ اليهود نسيطر على هوليوود ولا يهمني ما هي وجهة نظر الأمريكيين حول سيطرتنا على وسائل الإعلام والذي يهمنا هو وجوب واستمرار سيطرتنا على هذه المراكز”.

هذه النتيجة يخلص إليها باحث آخر، وهو الدكتور خضر حيدر في بحثه بعنوان “الميديا اليهودية ملحمة التضليل الكبرى في السيطرة على العالم”، المنشور في العدد 11 من مجلة “الاستغراب” يقول فيه: “لقد ظل نفوذ اللوبي اليهودي لسنوات عديدة غير مُكتشف بل ظل متجاهلاً أو متخفياً بفضل وسائل الإعلام التي كان يُسيطر عليها، وبفضل غالبية المعلقين إلا أنّه في 10 مارس عام 2006 نشر اختصاصيان أمريكيان محترمان هما البروفيسور استيفان والت من جامعة هارفارد وجون مير شيمر من جامعة شيكاغو دراسة في مجلة لندنية تحت عنوان “اللوبي الإسرائيلي وأمن الولايات المتحدة” وهذه الدراسة تتركز حول موضوع التأثير اللا متكافئ الذي يملكه لوبي المصالح الخاصة هذا على السياسة الخارجية للولايات المتحدة وتقول بأنّ “إيباك” هي المنظمة الأكثر قوة والأكثر شهرة للوبي الإسرائيلي والتي تفسد بصورة منهجيّة السياسة الأمريكية الخارجية”.

ألم يقل ثعلب الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر ذات يوم أنَّ تنفيذ السياسة الخارجية يجب أن يرتبط بأجهزة الإعلام على نحو لم يسبق له مثيل؟ فعبر 13 ألف محطة إذاعية وأكثر من 2600 شبكة بث تلفزيوني، تمكن اللوبي الصهيوني من أن يجعل الأمريكي ضحل المعرفة، عبر برامج تستند على الترفيه، وتُقدم صورة مغلوطة عن العالم الخارجي وعن الصراعات القائمة في العالم وأسبابها.

ولنا أن نتخيل أنَّ قناة عالمية بحجم CNN لديها نسخة مُخصصة لداخل الولايات المتحدة، تختلف جذرياً في محتواها عن تلك التي تبث عالميًا ما نجم عنه، كما يعرض كتاب “الصراع العربي الإسرائيلي” وفق نتائج استطلاعات تناولت رؤية الأمريكان لهذا الصراع، مقدار عظيم من التعاطف الأمريكي مع الكيان واعتبار الفلسطينيين على أنَّهم إرهابيون. (ثامر عبد الغني سباعنة: صورة النضال الفلسطيني في الإعلام الأمريكي: مجلة البيان الصادر بتاريخ 17 مايو 2021).

لقد عملت، ولا تزال، الميديا الأمريكية، متمثلة، ليس فحسب بالقنوات التلفزيونية الترفيهية، وإنما عبر أدواتها في العالم العربي، ومواقع التواصل الاجتماعي، بوصفها أداة للإخضاع والسيطرة وتغيير الأفكار، عملت على شن حرب ناعمة وقذرة على فلسطين، تتسق مع حربها بالأدوات الحادة التي تتنزه يومياً على أجساد أطفال فلسطين، ويجري الآن العمل على قدم وساق لإعداد استراتيجية لإدارة “التوحش” عبر حروب “الجيل الرابع” كما يصفها عامر عبد زيد الوائلي في بحثه بعنوان “الميديا بين التصنيع والتصنيم: رهانية التسلّط الأمريكي والإرهاب” المنشور في العدد ذاته من مجلة “الاستغراب”.

وهل من معلم أوضح للتوحش عندما يتم رفض التنديد بوأد الطفولة البريئة؟

عندما ألقت رشيدة طليب كلمتها في الكونجرس الأمريكي مرتدية الكوفية الفلسطينية، وعرضت صورًا بشعة لجرائم الاحتلال، قرأت رسالة لامرأة فلسطينية تقول: “الليلة وضعت أطفالي للنوم كي نموت معاً وحتى لا يحزن أحد منِّا على فقدان الآخر” علقت على الرسالة قائلة إنَّ إدارة الرئيس جو بايدن في تصريحاتها لم تتضمن أدنى إشارة لمُعاناة غزّة، وأن الخارجية الأمريكية رفضت التنديد بقتل الأطفال الفلسطينيين!

بالأمس، ما كان مناسباً الهيمان في حُب هذه المواقع إلى درجة لا نرى ذواتنا إلا من خلالها، أما اليوم فليس من المُناسب التَّعامل معها كما تريد هي منِّا، بعيدًا عن قضيتنا الحقيقية، وتعاطفنا التام مع إخوتنا الذين هم الآن تحت الحصار والنار.