بدأت تُطالعنا وتصل إلى أسماعنا نداءات متكررة بصورة يومية لمواطنين تم الحكم عليهم بالسجن بعد ثبوت أنهم لم يدفعوا التزاماتهم، وذلك يثير عواطف بقية المواطنين، فلا هم يصدقون وهم مندهشين كيف يتم الحكم على امرأة وعلى رجل هرم وشاب فقد عمله وصاحب أسرة أحيل للتقاعد؛ أغلبهم لم يتمكنوا من دفع أقساط للبنوك وشركات التمويل، وهي حالات في تزايد مستمر، فهل معقول أنْ يتم الزج بهؤلاء في السجون؟ هل سيجد المحبوس في السجن ذلك المال ليدفع ما عليه ليخرج؟! ألن يسبب إبعاد هؤلاء المسجونين عن أهاليهم وأسرهم أزمات جديدة لا حدَّ لها، ستقع على أسرهم بعد فقدانهم من يعيلهم؟ ألن يولِّد ذلك السجن والابتعاد أسى عميقًا في نفوس أسرهم؟!
في المقابل، الجهات القضائية المعنية قامت بواجبها وطبَّقت القانون عليهم. لكن لنسأل أنفسنا: أليست هناك فسحة من الحلول البديلة تحفظ حقوق المطالبين ولا تسجن المعوزين؟
وقبل الخوص بعمق وطرح الحلول المتعددة؛ فإنني أسجل وقفة شكر واعتزاز لجميع الجمعيات والفرق الخيرية ومبادرة “فك كربة” على وقفتهم الإنسانية الصادقة النبيلة لتخليص هؤلاء من قسوة السجون.
إن جائحة كورونا التي أدت إلى الإغلاقات المتكررة خلال العام 2020 وما زالت مستمرة إلى هذه السنة، قد ألقت بتأثيرها السلبي على أغلب الشركات التي اضطرت لتسريح العمالة الوطنية، وكذلك التقاعد الإجباري القانوني لمن أكمل 30 سنة خدمة، فضلا عن زيادة رسوم جميع الخدمات في كل اتجاه، فكل ذلك عطل قدرات اغلب تلك الفئات من الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه شركات التمويل والبنوك؛ فأصبحت بين كماشة الوفاء بالتزامات الأسرة التي لم تتقاعد ولا سُرِّحت من الحياة العملية، وبين الوفاء بالالتزامات المالية لجهات الإقراض؛ فامتلأت أروقة المحاكم، واكتظت السجون بهم، وخيم البؤس على العائلات.
بالتاكيد.. هناك حلول يمكن أن توفِّر توازنًا لكل الأطراف، نستعرض بعضها ونتترك البعض الآخر للأخوة الفضلاء أصحاب القرار في المحاكم، يقينًا منا بروحهم المؤمنة بأنَّ القانون له وجهة تتكفل بحماية المجتمع والأسر، مثلما له وجهة بتحقيق تسديد الحقوق.
ونقترح ما يلي:
أن يلجأ صاحب القرار بعد أن تُعرض عليه قضايا من هذا الطابع، أن يحيل ملف المدعى عليه إلى وزارة التنمية الاجتماعية، والعمل على إجراء بحث اجتماعي دقيق؛ فترفع تقريرها عنه توضح إذا كان المدعى عليه حالة متعسرة فعلا أم لا؟! وما هو مدى تأثير ضرر اتخاذ قرار حبس المدعى عليه على أسرته؟!
أن تتم تسوية بتسديد الالتزامات المالية للمدعى عليه بنظام التقسيط، يراعى فيها حجم إمكانيات المدعى عليه.
أن يتم تحويل الجزء الأكبر من تلك الالتزامات إلى شركات التأمين لتتكفل فيها، لأن الأنظمة المالية بالأصل لا توقع توافر الائتمان المالي للمقترضين دون توقيع المقترض على وثيقة تأمين على جميع أنواع المخاطر، ومن ضمنها التأمين في حالة فقدان مصادر الدخل والتوقف عن السداد لأسباب قاهرة، وما التسريح من العمل والتقاعد الإجباري لمن أكمل 30 سنة خدمة فانخفض دخله الشهري بغير ‘رادته، سوى من الأسباب القاهرة للمدين.
أن تحال تلك القضايا بعد التأكد والتحقق من وجود العسر وعدم وجود النية المبيتة لعدم الدفع إلى الهيئة العمانية للأعمال الخيرية؛ لتقوم مشكورة بدفع تلك الالتزامات المالية بالتقسيط للمدعى عليه، بعد خصم جزء كضريبة تسديد إلى الدولة.
أن تقوم جهة إصدار القرار بمخاطبة جميع أقارب المدعى عليه من الدرجة الأولى للتكاتف لدفع مبلغ الالتزامات المالية على المدعى عليه بالأقساط، وإذا تبيَّن أنهم غير قادرين، تتم مخاطبة الجمعيات والفرق الخيرية لمنطقة سكن المدعى عليه بالتكاتف مع هذه الحالة.
أيضا كحل إضافي، يمكن للمحكمة الموقرة إصدار أمر قضائي مُلزم بأن يقوم جهاز الضرائب بدفع كامل المبلغ للمدعى عليه، من خلال التحويل المباشر لصندوق المحكمة التي بدورها تدفعه إلى المُدعي، بعد استلام تقرير وزارة التنمية الاجتماعية الذي يُثبت أن المدعى عليه حالته المالية متعسرة، وهذا يعد مشاركة اجتماعية إنسانية من دافعي الضرائب الذين دفعوا من أموالهم الضرائب، مثل ضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل.
ويُمكن أيضا للجهات المعنية الخاصة بإصدار الأحكام القضائية، المواءمة بين جميع الحلول أعلاه، لتدمج الحلول أو تأخذ بأحدها بعد أن تتحقق من تعسر المدعى عليه من خلال البحث الاجتماعي. وأن تنظر فقط في أصل القرض وتسقط الفوائد المترتبة عليه؛ لأن القرض بنفسه مغطى تأمينيا.
ومن الإجراءات المهمة قبل اتخاذ القرارات أنْ يتم الاطلاع المعمق على بنود وثائق التأمين الموقعة من الطرفين لتغطية مخاطر الإقراض، فلعل بها باب فرج وحلًّا لمُعسِر. وإذا كانت وثائق التأمين الحالية لا تغطي كل مخاطر التعسر، فإنَّه من واجب الهيئة العامة لسوق المال المسؤولة عن تنظيم شؤون شركات التمويل أن تُصدر إلزامًا بإضافة بند يغطي تلك الظروف المتقلبة، خاصة في ظروف جائحة كورونا، وقرارات التسريح والتقاعد الالزامي، التي قلبت الطاولة على الكثير من الأسر، حتى لو تطلب ذلك إضافة رسوم تأمين إضافية، فذلك البند سيكون عامًا، والعائد المتحصل منه من جميع وثائق التأمين الجديدة سيكفي لتغطية مخاطر التعسر التي لن تتجاوز 15% من كل وثائق التأمين الجديدة الموقعة بين الطرفين.
إنني كمواطن في هذا البلد العزيز أؤمن بعُمق بأن الحفاظ على تماسك الأسر في المجتمع هدف أسمى من مجرد استرداد شركات التمويل لأموالها التي أقرضتها للأفراد الذين لم يقوموا بخطوة الإقراض هذه إلا لوجود حاجة رئيسية إنسانية لديهم، وتلك الشركات إذا كان همها فقط إرجاع أموالها بقوة القانون، فإنها ستخسر ثقة كل العملاء الحاليين لديها، ومستقبلًا سيغادرون أبوابها ولن يطرقوها ثانية. هذا بلا شك أمر لا تقبله تلك الشركات على نفسها التي صممت نظامها المالي على الاستمرار في الإقراض لتحقق أرباحها.
وختامًا.. أوجِّه ندائي لكل مسؤول في الدولة بأن يُسارعوا بطرح الحلول الكفيلة للقضاء على هذه الظاهرة الأليمة، لأن مجتمعنا يستحق المزيد من التقدم والرقي، وهو قادر على ذلك.