أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
من أكبر التَّحديات التي تُواجهنا ونحن نبحث عن الحياة وكيف نشأت على كوكبنا هو السؤال حول طبيعة الحياة وماهي هذه الحياة التي نبحث عنها؟ ماهي سماتها؟ ماهي مميزاتها؟ لماذا نطلق على أشياء معينة بأنها حية ونجزم بأنها كذلك وبالمقابل فإننا نصف مواد أخرى بأنها لا حياة فيها.
إنَّ الوسيلة التي يعتمد عليها الباحثون في هذا الشأن هي البحث عن المشتركات بين الكائنات الحية، فمن خلال الخصائص المشتركة بين الكائنات الحية نستطيع أن نصف الحياة ببعدها المادي، ومن أبرز الخصائص الواضحة التي تتميز بها الكائنات الحية هي أنَّ لديها القدرة الذاتية لمُعالجة كيمياويات معينة لإنتاج طاقة كافية لعمل الأنشطة اليومية التي تقوم بها هذه الكائنات ولذا لابد من توفير غذاء للكائن الحي يستطيع من خلاله إنتاج الطاقة، فهو بهذه الطاقة ينمو ويكبر ومن ثمَّ يصل لمرحلة معينة يفقد فيها خاصية الحياة ونصفه بأنَّه أصبح “ميتا”.
كما أنَّ الخاصية الأخرى المميزة للكائن الحي هي وجود أجهزة حساسة تخبر الخلايا الحية بالواقع المحيط حتى تتعامل معه أو ما يُمكن تسميته بالتغذية الراجعة، وهي خاصية مهمة للغاية إذ إنَّ أجسامنا مثلاً تتحسس درجات الحرارة في المحيط وعلى إثرها تقوم بردود فعل معينة كأن يزيد من إفراز العرق لتبريد الجسم.
وتعد خاصية التكاثر أيضاً من أوضح خواص الكائن الحي، فالكائنات الحية تتكاثر بينما لا نجد هذا النوع من التكاثر موجوداً في المادة التي لا حياة فيها، ولكن هل التكاثر صفة يختص بها الكائن الحي؟، والجواب كلا فهناك بعض المواد لا نصفها بأنَّها حية ولكنها تتكاثر كالنار على سبيل المثال، فهي تتكاثر وتنمو، وبالمقابل فإنَّ البغال مثلاً لا تتكاثر، فهل يُمكن أن نصف النار بأنها كائن حي؟ وهل يمكن أن نصف البغال بأنها كائنات غير حية لأنها لا تتكاثر؟
لقد وجد علماء الطبيعة أنَّ هناك ميزات خاصة في تكاثر الكائن الحي تميزه تماماً عن المادة غير الحية، ويكمن السر في أنَّ تكاثر الخلية الحية هو نتاج “لرسالة حياة” أو ما يعرف علمياً بالشفرة الوراثية وهي معلومات منقوشة بلغة كيميائية غاية في الجمال مكونة من أربعة مركبات كيميائية معروفة تمثل الحروف الأبجدية للغة التي كتبت بها هذه الشفرة الوراثية ومخزنة في مركب يعرف بـ”دي إن إي” وهذا المركب يتواجد في كل الكائنات الحية وعند فك رموز هذه اللغة والتي تتم بطريقة معينة نجدها تحوي على إرشادات توضح لمصنع الخلية الحيَّة والذي يسمى بالريبوزومات كيف يقوم بوظائفه.
إن مركب “دي إن إي” هو سر من أسرار الحياة فهو يوجد في الطبيعة في جميع الكائنات الحية ولكنه لا يُوجد في المادة التي لا حياة فيها ولذا فإنَّ تكاثر الكائنات الحية ينطلق من هذا المركب بينما المادة غير الحية لا تحوي هذا المركب وبالتالي فإنَّ تكاثرها لا يتم عبر نظام معلوماتي مُسبق كما هو الحال في الكائنات الحيَّة ومن هنا فلا مُقارنة بين تكاثر الكائن الحي وبين تكاثر المادة فتكاثر المادة لا يخضع لنظم معلوماتية مخزنة ومشفرة في مركب “دي إن إي” بل يخضع بشكل تام للعوامل الكيميائية المحيطة والقوى الفيزيائية التي تُؤثر في تلك العوامل.
إن نظم المعلوماتية الموضوعة في الـ”دي إن إي” تتميز بأنها نظم عشوائية ولا نعني بالعشوائية الفوضى بل بمعنى أنها لا يُمكن اختزالها إلى صيغ أكثر بساطة، ولكن على الرغم من عشوائيتها فهي ذات معنى ودلالة واضحة ونعبر عن هكذا نظم ونصفها بأنّها نظم معقدة بل شديدة التعقيد لأنَّ كل حرف منها اختير بدقة فائقة ولا يُمكن اختزاله أو استبداله بآخر.
أما من الناحية العملية فثمَّة فارق آخر في تكاثر الكائن الحي عن غيره، فتكاثر الأشياء غير الحية ينتج عنه تماثل تام فالنار لا تنتج إلا نارا تماثلها تماماً ولا تستطيع أن تفرق بين النار الوالدة والمتوالدة، أما الكائنات الحيَّة فمن ميزات تكاثرها التنوع في التكاثر وهو سر من أسرار مركب الـ”دي إن إي”، فوظيفة هذا المركب الحفاظ على الشفرة الوراثية التي نقشت فيه، ولكن للتكيف مع التغيرات البيئية فلابد من تغيير بعض أجزاء الشفرة من جيل إلى آخر، فهو من ناحية عليه أن يسعى للحفاظ على الشفرة الوراثية وعليه في الوقت نفسه أن يُغيرها سعياً للتأقلم مع المحيط الذي تنشأ فيه ولهذا لا يعد هذا المركب مخزناً للمعلومات الوراثية فحسب بل يقوم أيضاً بمعالجة هذه المعلومات ومن هنا فهو نظام تخزين ومعالجة للمعلومات الواردة في الشفرة الوراثية، وهذا التنقل من الحفظ والتغيير هو الذي ينتج تكاثرا متنوعا في الكائنات الحية بينما يختفي التنوع في تكاثر المادة التي لا حياة فيها فهي نسخة مطابقة للأصل تماماً.
لكن أبرز المميزات التي يتميز بها الكائن الحي هي النظم المادية المعقدة للغاية فهذه النظم المعقدة تتميز بالرغم من تعقيدها بتنظيم وتنسيق بينها بالغ الدقة، فهناك تنسيق عجيب بين المركبات الكيميائية في الخلية الحية وكأننا أمام مصنع متكامل لإنتاج خلايا حية هذا التنسيق الباهر يزداد ألقاً وتعقيداً عندما ننتقل إلى الكائنات متعددة الخلايا كالإنسان مثلا فجسم الإنسان يحتوي على ملايين الخلايا الحية إلا أن الملاحظ في هذه الخلايا هي أنها تعمل كوحدة واحدة وفي تناسق عجيب بينها بما يخدم مصلحة الكائن الحي.
إنَّ سر الحياة قد لا يكمن بمركباتها الكيميائية ولذا فتكوين خلية حيَّة من مادة لا حياة فيها ليس بالأمر المستغرب، لأنَّ هذا التكوين يقوم باستخدام نظام معلوماتي كيميائي موجود واستخدام مركبات كيميائية لإنتاج الحياة لن يقوم باختراع نظام معلوماتي جديد لينشأ خلية حية بل سيقوم باستخدام نفس النظام المعلوماتي الناشئ من تراكيب هذه المركبات الأربعة.
لذا فإنَّ سر الحياة ربما يكمن في نظم المعلومات المدهش الناتج من تلك المركبات الأربعة التي كتبت بها الشفرة الوراثية، وهي بلا شك سر كل هذا التنوع الذي نشاهده والجمال الذي نعيشه، أربعة حروف يدرك جمالها من له شغف بلغة الكيمياء، الغريب في الأمر أنَّ كلمة “حياة” باللغة العربية و (Life) باللغة الإنجليزية أيضاً تتكون من أربع حروف، أليس من المصادفات العجيبة أن تتفق لغة كتابتنا مع لغة الكيمياء التي كتبت بها الشفرة الوراثية!
وللحديث بقية…
مصادر للتوسع في الموضوع:
The Cell’s Design (Reasons to Believe), How Chemistry Reveals the Creator’s Artistry – Fazale Rana
“سرنا في الأرض ونظرنا لنعرف كيف بدأ الخلق”، عمرو شريف
