الوطن: د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية*
مطرح يا جدائل الزمن العتيق، يا سور من الحب القديم، يا شرفات وداع الراحلين، ومرفأ العشاق، وميناء العائدين. مدينتي التي أهرب إلى مينائها لكي أنسى، وأجد فيها متنفسًا ومرسى ووجهة لروحي ومنفى. حكاياتك المنسية بين أهل الحارة وإلقاء التحية بين الجيران والمارة، كنت أتوه في ضجة السوق القديم ومحلات الهدايا والتحف والعطور، تسلب قلبي أساورك المشغولة بالياقوت ومنظر الحي والبحر والبيوت.
عند عزل مطرح ألقي غطاء على وجه النور وانطفأت لمعة مياه بحرها المتلألئة كالبلور.. هذه المدينة التي مهما غادرتها لا تغادرني، تسكنني تفاصيلها وخريطة ممراتها الضيقة، وتنبعث منها رائحة البن والهيل، وتحمل في طياتها فوانيس تضاء بها عتمة الليل، تحلق بها النوارس عاليًا، تغزل قصائد كتبت بماء من ذهب وفضة لتتكسر الأمواج على الشاطئ بقوة، وتنحت بتضاريسها الفاتنة الصخور، وتصنع من الحب والياسمين بابًا للسور.
مطرح.. الحي القديم، مطرح.. الأسواق العريقة ورائحة الأيادي الكادحة بشمس الصباح، لطالما كانت تضج بالبائعين والسواعد العاملة، توشَّحت مدينتي بسكون حزين يكتسحها هدوءًا وصمتًا لا يشبه ضوضاءها الشجية، أصبحت شاحبة طلتها البهية، غاب التجار والباعة من الطريق، بالفعل كورونا أفقدها البريق.
الحفاظ على الأرواح في زمن الوباء دفع ثمنه الكثير من الطبقة الكادحة الذين يعيشون على تأمين لقمة العيش لعوائلهم، والأعباء التي خلَّفتها الجائحة كانت منهكة للبعض؛ فالطبقة العاملة لا تملك ترف العزل، ولا رفاهية الانهيار، مجبرة على تأمين كسرة الرغيف.
لم يكن الخوف فقط من الفيروس، بل الخوف من التداعيات الاقتصادية للإغلاق، وخوف العمال على مصدر رزقهم، وخوف التجار على كساد بضائعهم.
عزل المنطقة لم يثر فقط حفيظة التجار، بل أيقظ أنين البسطاء ممن يترزقون بـ”يومية”، حل الاضطراب على مقومات المعيشة، ها هنا مريض وافد لا يملك مالًا لشراء دواء، والآخر يشتكي من أنه لا يملك حق الغداء، وعائلة أخرى انقطع رزق الأب وصعب عليه شراء مستلزمات الأطفال، وما زال يناضل عامل آخر ليرسل ما يستطيع جمعه لعائلته في موطنه، ويسقط الآخر بين مرضه وعوزه وغربته.
في حب الوطن لمسنا التكاتف الإنساني من مختلف الجهات؛ لتبدأ من الأفراد ممن يبادرون بتقاسم قطعة الخبز مع جيرانهم، وأصحاب المؤسسات والمبادرات بسخاء غير محدود، كنت أستبسل بأبناء وطني فخرًا ونخوة وشهامة ورثت من دماء العمانيين، لا بل كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة من الأخيار. عندما كان يصلني بلاغ مخالف للعزل من مطرح كنت أربت على قلبي تارة، وأدعو أن تتيسر الأمور تارةً أخرى، كنت أخشى من أن تتعافى المنطقة صحيًّا في شهر أو شهرين، ولكن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية قد تأخذ وقتًا أطول، فقد البعض مصادر رزقهم، عاد بعض الوافدين إلى بلادهم، وخسر البعض في تجارتهم، وها قد مرت الأيام، وتكفلها الله بواسع رحمته.
مطرح يا رئة تتنفس فيها البلاد، يا سرمد أزلي برائحة الأجداد، ستظلين موطن الحنين بجدران من طين ونوافذ الأرابيسك العتيق المحفور بنقوشات من الحب وعبق من بيلسان وزهور، سيفتح باب مدينتا البهية كما كان، وستعود الواجهة البحرية كما كانت، وسيمسح الحزن عن أروقة الطرقات، سلام على مآذنك الشامخة الشجية، سلام مع كل يد تمتد إلى السماء، يا قبلة على جبين الأرض لأجلك سنكثف الدعاء.
* طبيبة مختصة في قانون وأخلاقيات مهنة الطب