Image Not Found

ميس رضا تكتب: كنت واثقة من أن الأرض تعرفني

الوقوع على الذات مغامرة؛ أن نحصل على فرصة تَلَمّسِ ذواتنا فرصة كبيرة وحظ وفير، فى فبراير 2020 كتبت فى صحائف الغيب فرصة زيارتي إلى سلطنة عمان أرض السلام، وكانت الزيارة هي الأولى لى وكان يسبقها شغف وتطلع كبير لمعرفة البلد عن قرب، كنت أملك وقتها قسطا من المعلومات عن تاريخها وشعبها الطيب، استقيت تلك المعلومات من خلال مجموعة من الكتب كنت قد اقتنيتها عند زيارتي لمعرض الكتاب بالقاهرة 2020 والتي جاءت بمثابة شرفة أطل منها على السلطنة من بعيد رغم الحدود والمسافات.. لم أكن أعلم أن الزيارة سيظل أثرها ممتدًا في القلب والذاكرة إلى الأبد.

تفاصيل كثيرة ومذهلة مرت بسرعة فى زيارتى للسلطنة والتى كانت فى حدود الـ 72 ساعة “ثلاثة أيام” مرت وكأنها لحظات، أستطيع بثقة تذكر كل التفاصيل دون أن أقفز عن أصغرها، كنتُ أمشي يدًا بيدٍ والحماس يغمرني بمجرد وصولى إلى مطار العاصمة مسقط دبت إلى نفسي سعادة وارتياح غير طبيعي وكأن لأرض سحرا واقعيا كما قرأت فى بعض الروايات، كان لحسن الاستقبال والحفاوة من العمانيين أثر بالغ لا يمحوه الزمن ببشاشة وجوههم ودشداشتهم الناصعة البياض التى تضيء عتمة الليل، والمصر والكمة المنمقة فى تطريزها وألوانها المتناسقة مع الزي الأساسي.

أسرد بعض التفاصيل باختصار من الزيارة وأبدأها من العاصمة العُمانية مسقط، تلك المدينة الساحرة للوهلة الأولى تبدو طبيعية للغاية وتمتاز بهواء نقي منعش يجدد الأنفاس، ومرتفعات شاهقة متعرجة وكأنما رسم باحترافية بالغة الدقة ومنازل بيضاء اللون تعانق الجبال المكسوة بالخضرة، تعرف المدينة بـ ساحرة الخليج ذلك القلب النابض بالحركة والحياة الهادئة بعيدا عن صخب الحياة وضجيجها وشواغلها. وفى نهاية النهار تسدل الشمس أشعتها لتُغطي الجبال والمباني المُتشابكة لترسم لوحة حالمة تلتقطها عدسة الزوار والمقيمين. كما يميزها الكورنيش الساحر الذى يقع في ولاية مطرح فهي من المدن التاريخية العُمانية التي يرجع عمرها إلى آلاف السنوات قبل الميلاد، تقع بالجزء الشمالي الشرقي للسلطنة وتطل على عمان شاطئ بحر عُمان، بها أهم معالم السياحة في مسقط.

وبالانتقال إلى “مطرح” العتيقة شعرت فى لحظة بأن آلة الزمن عادت بي لـ ملايين السنين وكأنى أعيد حساب العمر مجددا لأرنو إلى حياة تراثية أتبحر فيها إلى درجة الامتزاج بعبق التاريخ العُمانى الممتدة جذوره عبر آلاف السنين. فعلى الجانب الأيمن من الطريق البحري يربض البحر مستكينا ببعده الأسطوري وتحت ظلال قلاع مطرح التي لا تزال جدرانها تحكي قصص البطولات العمانية في سنوات الحرب تقبع سوق قديمة لا تزال تشهر وجهها للبحر في تحد واضح، وتفوح من بين جنباتها رائحة لتاريخ ضارب في القدم ليشكلا السوق والبحر سيمفونية تعانق بحر عمان الهادئ وتعزفها أصوات الأمواج والبشر.

ويعد سوق مطرح نموذجًا للأسواق الشعبية القديمة التي تمتاز بالتصميم المعماري القديم بممراته الضيقة والمتعرجة وأسقفه الخشبية المنقوشة بألوان مبهرة تجمع بين زرقة البحر ولون الخشب الداكن ، كما يعد مطرح من أهم الوجهات السياحية التي يقصدها العُمانيون والسياح على حد سواء.

ويتصف هذا السوق بتصميمه التقليدي التراثي، بعيدًا عن صخب الأسواق الحديثة. ويضم سوق مطرح في جوانبه كل ما يحتاجه العُمانيين من السلع الغذائية أو الاستهلاكية ولعل أشهرها الحلوى العُمانية التى تشتهر بها السلطنة ولا يخلو منها أي بيت عمانى، وأيضا تجارة “اللبان”.

كما يحتوى سوق مطرح على العديد من المحلات التي تبيع مختلف السلع؛ كالتحف والهدايا والبخور والأنتيكات وغيرها من البضائع التي نادرًا ما تتوفر في الأسواق الحديثة.

كان السوق قديما في السابق مبنيًا من الطين وسعف النخيل، أما أسقفه فهي مزينة بزخارف مستوحاة من التراث العُماني العريق، وقد قامت بلدية مسقط بتطويره من خلال أعمال التجميل المختلفة وتبليط طرقاته وسككه وأزقته، لتوفير الراحة للمرتادين، وحتى يتماشى مع مجريات النهضة الشاملة التي تمر بها البلاد.

عُرف سوق مطرح قديما باسم “سوق الظلام” تسمية أخرى معروفة بين أهل البلد وهي سوق الظلام، ويرجع السبب لإطلاق هذه التسمية على سوق مطرح لكثرة الأزقة والسكك التي كانت تصطف عليها المتاجر، حيث تحجب عن هذه الأزقة أشعة الشمس خلال النهار وتتضاعف العتمة في الأيام الغائمة فيحتاج حينها السائر إلى ضوء مصباح لكي يحدد خطواته.

وفى آخر لحظات فى وقت الزيارة قبل المغادرة بساعات قليلة، قطعت بالسيارة الطريق المؤدي إلى قصر العلم العامر”القصر السلطاني” التقطت أمامه مجموعة من الصور دون أن يعترضني احد وفى الوقت نفسه ملأني الشغف لمعرفة تفاصيل القصر المبهر من الداخل ودهاليزه . كنت أخاله بعيدًا لكن المفاجأة الإضافية لى كانت عندما وقعت عينى على مبني فريد في طرازه شامخ ومتميز يقع أمام القصر، عالم مليء بالأسرار يفوح منه على بعد مسافات تاريخ الأجداد وهو المتحف الوطني العماني الذى دُشن فى العام 2014، بناء على توجيهات السلطان الراحل قابوس طيب الله ثراه.

يبدو المتحف من خارجه كـ أغلب المباني المحيطة به للتشابه إلى حد كبير بينهم، لا تكاد تعرف أين تبدأ هذه التحفة المعمارية؟ وأين تنتهي الأخرى؟، فعلى يمين المتحف تقع وزارة المالية، وأمامه ديوان البلاط السلطاني، وفي الأمام على بعد 300 متر يقع قصر العلم العامر، وهو قصر الحكم في عُمان، وإلى جواره من جهة الشمال تقع المدرسة السعيدية إحدى أقدم المدارس في عُمان وأكثرها شهرة.

ويعتبر المتحف أحد أكبر المتاحف في عُمان وبين أبرز المتاحف في منطقة الخليج العربي. إذ يضم فى جوانبه ما يقرب من 6000 قطعة أثرية بالإضافة إلى عدد كبير من المقتنيات والمنحوتات التى تبرز تاريخ سلطنة عُمان مختزلا عصورا مرت من قبل لا يعرفها الكثير.

ويمتلك المتحف أركانا وقاعات عرض ثابتة تغطي مساحة 4000 متر مربع، ويعد المتحف أول مركز تعليمي متحفي متكامل في السلطنة على طابقين توجد به فصول دراسية مرتبطة عبر التواصل بالأقمار الصناعية ومؤسسات متحفية ومدارس خارج السلطنة مع أجهزة حاسب آلي تعمل بتقنيات حديثة.

كما يحتوي المتحف على صناديق عرض متحفي بمعدل 166 صندوق عرض متحفي موزعة على قاعات المتحف وتشرف الشركة المنفذة على التفسيرات الرقمية من شاشات العرض التفاعلية والعرض المرئي فائق الدقة بتقنية (يو اتش دي) كما يمتلك المتحف أول قاعة سينمائية متخصصة في السلطنة.

وعند أول باحة من باحات المتحف في المدخل الرئيسي تواجهك شرفة عُمانية تقليدية تطل من الطابق الثاني، وهي تحاكي نظام الشرفات في المعمار العُماني. ومن الجهة الأخرى تطل دفة سفينة عُمانية هي أقرب إلى سفينة فتح الخير المعروفة في عُمان.

وعبر 12 قاعة، هي كل قاعات المتحف، يدخل الزائر في رحلة عبر الزمان والمكان يضمها المتحف بدءا من قاعة التاريخ البحري التي تواجهك فور الدخول سفينة من نوع البدن موجودة بحجمها الحقيقي، ثم قاعة السلاح، وقاعة المنجز الحضاري وقاعة الأفلاج وقاعة عظمة الإسلام وقاعة العملات وقاعة الأرض والإنسان وقاعة التراث غير المادي وقاعة المقتنيات ومرورا بقاعة الحقب الزمنية المبنية بشكل دائري تقليدا لقلعة نزوى العريقة. وكلها قاعات تنقلك عبر محتوياتها إلى عوالم وفضاءات أخرى تشعر فيها بعظمة المنجز الحضاري العُماني، وكيف عاش إنسان عُمان وأبدع وتفاعل مع مختلف الحضارات.

ولـ شاطئ القرم حكاية خاصة .. لم أنسَ صوت الأمواج المتلاطمة مع نسيم الهواء العليل وأشجار القرم المتراصة جنبًا إلى جنب والتى تشبه فى صورتها لوحة فنية امتزجت بمقومات الطبيعة الخلابة لتعزف سيمفونية تبدو للوهلة الأولى كأنها صورة رسمت باحترافية ولكنها ليست إلا نتاج عجائب الطبيعة بالبلاد كـ قطعة من الجنة على أرض العاصمة، كان يعج بالزوار فهو قريب من المراكز التجارية والمطاعم والمقاهي التي تقدم فيها القهوة والوجبات المختلفة، إضافة إلى مظلات الاستراحة والمسارات التي تخدم رياضة المشي، كما تقام فيه العديد من الأنشطة الترفيهية وتأجير القوارب ودروس الغوص. وثمة الكثير من الخدمات الأخرى التي تشجع السائح على ارتياده.

لن يتخيّل أحد حجم الطاقة الإيجايبة التى غمرتني حتى الأن إلا أنني كنت واثقة من أن الأرض تعرفني جيدًا، وأنها من أرسلت لي: “فرصة الزيارة” .

وللحديث بقية،،،