Image Not Found

مال الله اللواتي.. مُخضرم في خدمة الوطن

الرؤية- مريم البادية

تزخر عُمان بالعديد من أصحاب الفكر النيِّر، والرؤى العميقة في مختلف مجالات الحياة، فأبناء السلطنة بارعون أينما حلوا أو ارتحلوا، ويحفل التاريخ العماني، وخاصة في مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين بنماذج مضيئة ممن أسهموا بقوة في دفع مسيرة التنمية ومؤازرة جهود النهضة في كل مكان.. ويُعد الدبلوماسي السابق والمُفكر مال الله بن علي حبيب اللواتي أحد أبرز هؤلاء الأفذاذ، الذين لم تمنعهم تحديات الحياة، وتقلباتها من مواصلة السير نحو الهدف المبتغى.

“الرُّؤية” التقت اللواتي في مُقابلة خاصة، تحدث خلالها عن مسيرته وأفكاره التي ساهم بها في دعم السياسات الوطنية على مختلف المستويات، وخاصة على مستوى العلاقات الخارجية بفضل دوره كأحد أبرز الدبلوماسيين العُمانيين.

ويقول مال الله بن علي حبيب اللواتي إنِّه ولد في مطرح في 10 ديسمبر 1926، وعاش سنين حياته الأولى في حارة “سور اللواتية” بعد أن توفي والده في صحار وهو ابن أربع سنوات وعادت به والدته من هناك. وتلقى تعليمه في الكتاتيب التي كانت الوحيدة المخصصة للتعليم من خلال قراءة القرآن الكريم وحفظه، ومع افتتاح المدرسة السعيدية في عام 1940 في عهد السلطان سعيد بن تيمور وكان نظام التعليم فيها قائماً على المناهج المصرية، وعندما بلغ سن الـ14 عاماً، التحق بالصف الرابع الإبتدائي، ودرس في هذه المدرسة لمدة 3 سنوات إذ إنَّ نظام الصفوف في تلك المدرسة لم يتجاوز الصف السادس، ثم تخرج مع أول دفعة في المدرسة السعيدية عام 1943.

ويُتابع مال الله حديثه قائلاً إنه سار إلى طريق العمل وهو ابن 16 ربيعًا، ليعمل موظفاً في الجمارك، فيقول: “كانت الجمارك تسمى في ذاك الوقت “الفرضة”، لقد استطعتُ الحصول على هذه الوظيفة لإتقاني اللغة الإنجليزية، وشيئاً من الأوردية والفارسية والبلوشية والكتشية، ثم بعدها بفترة قصيرة نقلتُ إلى قسم الخزينة؛ حيث كانت العملات المتداولة إلى جانب الريال السعيدي في تلك الفترة الروبية الهندية وثيلر ماريا تيريزا أو القرش الفرنسي، وبعدها انتقلت إلى نظارة الشؤون الداخلية التي كان مقرها “بيت البرزة”، وكانت مُهمتي الترجمة وكتابة الجوازات باللغة الإنجليزية”.

وبعد عام ونصف أي في عام 1944، ترك مال الله وظيفته، وقرر السفر إلى دبي ليزاول مُهمة مسك دفاتر الحسابات لدى أحد التجار العُمانيين (وهو الحاج جعفر بن علي)، وعن تلك المرحلة يسرد قائلاً: “سافرت بعد ذلك إلى بومباي (مومباي حاليًا) وكراتشي، ثم في عام 1945 عدت إلى السلطنة لأشغل وظيفة كاتب في بيت العلم أو “قصر العلم” بتوصية من المرحوم السيد حمد بن حمود فصرنا زملاء هناك، وهو المكان الذي اختاره السلطان سعيد بن تيمور مقرًا للحكم”. ويكشف مال الله جانباً من الحياة في ذلك القصر وتلك الحقبة التاريخية، فيقول: “في هذه المهنة كنتُ أتعامل يومياً مع المرحوم السلطان سعيد بن تيمور وشرائح مختلفة من الموظفين والناس، كما اشتغلت في طباعة الرسائل الداخلية والخارجية لمختلف الأطراف، وفي عام 1948 قرر السلطان سعيد بن تيمور الاستعانة بموظف إنجليزي الجنسية ليكون ناظراً للشؤون الخارجية، وكلفني بالعمل معه ما أدى إلى تحسن كبير في مقدرتي على التخاطب بالإنجليزية وإجادة أصول العمل المكتبي”.

ويضيف: “كان السلطان سعيد بن تيمور يتمتع بهيبة كبيرة، فقد كان يقضي وقتاً طويلاً في صلالة وفي فترة غيابه عن العاصمة كان يُدير مقاليد الحكم من هناك بالهاتف، لقد كانت المسافة بين مكتب سكرتير القصر علي الجمالي (رئيسي المُباشر)- رحمه الله- ومكتب السلطان لا تتعدى 10 أمتار، ما سمح لي بمتابعة كل ما يُمكن متابعته في برنامج السلطان اليومي”. ويزيد بالقول: “لقد كان السلطان يحب السينما ولديه بروجكتور يتابع من خلاله أفلاماً سينمائية (16 مليمتر)، وكان يطلبها بالاسم، من نوع الأفلام العلمية والثقافية والروائية. وكان يتقن الإنجليزية بطلاقة، حتى إنَّ أحد أفراد البعثة الإنجليزية كتب خطاباً لوالدته قال لها فيه إنّ سُلطان عُمان يتكلم الإنجليزية مثلك ومثلي، وعنما كان ربابنة البوارج التي تمر بمسقط يزورونه في قصره، كان يقيم لهم مأدبة غداء، وكنتُ واحدا من أولئك الذين يعدون تلك المأدبة، حيث كان الجلوس على الأرض لتناول الطعام”. ويضيف مال الله: “لقد كان السلطان سعيد متمكناً في العربية أيضًا وبليغاً فيها، وأذكر أنَّه مرة حكم على رجل من مشايخ الباطنة كان يفتعل الأزمات، بالسجن في الجلالي، إلا أنَّ قبيلته كتبت عريضة استرحام مُوجهة للسلطان، فما كان من السلطان إلا وكتب عليها بخط يده: “لقد حكمنا عليه بالحبس فإن عاش فهو قصره وإن مات فهو قبره”.

ويمضي قائلاً: “في عام 1953 قررتُ تقديم طلب الاستقالة للسفر للعلاج في الخارج، وعندما تسلَّم السلطان سعيد طلبي لم يقتنع بمبرري، وطلب مني شهادة طبية تدعم هذا المُبرر، ثم تركت الخدمة بعدها، لكن السلطان لم يكن راضياً عن تركي للخدمة”.

ويستطرد مال الله حبيب بالقول: “عندما ذهبتُ للعمل في القنصلية البريطانية بترحيب منهم في البداية فوجئت برفض طلبي في اليوم التالي وكذلك الحال للعمل في البنك البريطاني فانغلقت الأبواب في وجهي فقررت السفر إلى الخارج لعلي ابني مُستقبلاً أفضل ففوجئتُ بأنَّ ثمة تعليمات ليس بعدم تشغيلي في المصالح البريطانية أو الحكومية فحسب وإنما بمنع إصدارجواز لي، لكن بحكم قربي من الموظفين وعلاقتي بهم تمكنتُ من استخراج الجواز ثم السفر، وأنا في الـ25 من عمري، وصلت العراق وعملت في شركة تأمين بريطانية لمدة 3 سنوات حتى عام 1956، ثم انتقلت بعدها للعمل مديرا لمكتب “شاي سيلان” التابع لهيئة الدعاية لحكومة سريلانكا وكنت أتعامل مع تجار العراق و (السفارة السيرلانكية ببغداد)”. وفي الفترة المسائية كنت أعمل جزئياً لدى فرع شركة تاول ببغداد.

ومع بزوغ فجر جديد على السلطنة في عام 1970، وتولي المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- مقاليد الحكم، جاءت البشرى لكل المغتربين بأن السلطان وجه نداءه إلى العمانيين في الخارج يدعوهم للعودة إلى الوطن، كما يوضح مال الله اللواتي، فيقول إنَّ الخبر وصل إلى العراق سريعاً، لسببين؛ أولهما أنَّ عدد المغتربين العمانيين فيها لم يكن قليلاً، كما إن بغداد كانت واحدة من العواصم الحضرية والسياسية المُؤثرة في القرار العربي.

ويضيف اللواتي “إنه في عام 1971 تلقيت برقية كانت مُرسلة إليّ من مسقط، من رئيس وزراء عُمان آنذاك صاحب السُّمو السيد طارق بن تيمور آل سعيد، مفادها: “نرجو حضوركم للتشاور في بعض الأمور”،لكن طبيعة عملي في العراق حتمت عليّ تأجيل العودة حتى عام 1973”. ويزيد مال الله قائلاً: “عند وصولي مسقط التقيت وزير الخارجية آنذاك صاحب السُّمو السيد فهد بن محمود، ليدور النقاش حول المدى الذي يُمكن للسلطنة من خلاله الاستفادة من جهودي وخبراتي، وكيف يمكن للسلطنة استعادة أمجادها في المُحيط الدولي، ومن ثمَّ تقرر تعييني مستشارا بالسفارة العُمانية في واشنطن، ولكن سرعان ما تغيرالقرار بعد أن تفضل بمُقابلتي صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وتقرر تعييني قائماً بالأعمال بالسفارة العمانية في الهند في عهد أنديرا غاندي حتى يونيو 1974حيث كنت أجيد الأوردية أيضاً.

ويُكمل مال الله أنّه انتقل بعد ذلك إلى العاصمة المصرية القاهرة، ليكون ثاني سفير للسلطنة هناك وممثلاً للسلطنة في الجامعة العربية، ويشير إلى أن السلطنة ومصر تعاونتا في مجال التعليم، وتمكن أكثر من 300 طالب عُماني من الدراسة في المعاهد العلمية المصرية المُختلفة.

وكذلك أخذ مئات المدرسين المصريين للعمل في مدارس السلطنة وكانت القاهرة منارة للتعريف بالسلطنة والعهد الجديد للعالم وخصوصاً الدول العربية. ويضيف مال الله عن تلك الفترة فيقول: “عشتُ أحداث معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية؛ حيث ساهمت عُمان في تقريب وجهات النظر بين القاهرة وأشقائها العرب، وكنا نتعرض للتجريح من إخواننا العرب، اذ كانوا يقولون لنا أن ننضم لهم في مقاطعة القاهرة، وكان ردنا بأنَّ سياستنا الخارجية واضحة والمقاطعة ليست جزءا من آلياتنا، ونحن في عمان اخترنا أن نكون وسيطاً سياسياً ودبلوماسياً لكل الأطراف عند الضرورة. كنا نقول للسفراء العرب إذا اتخذ العرب قرارًا جماعياً بالحرب ضد إسرائيل فعُمان ستكون معكم وفيُ مقدمة الصفوف، ولكن أين هذا القرار الذي تريدوننا أن نلتف حوله؟ لقد كانت السياسة العامة آنذاك قد تبلورت ونضجت تمامًا، فجلالة السلطان قابوس كان سياسيًا عميق الفكر نير البصيرة ينطلق في مواقفه من مُعطيات على الأرض وليست خيالات أو أوهام”.

ويتذكر مال الله أنه وأثناء زيارة جلالة السُّلطان التاريخية لمصر، التقى بالطلبة العمانيين في الإسكندرية، وكان اللقاء عبر عنه جلالة السلطان بأنه لقاء الأب مع أبنائه، وكان أحد الطلبة قد ألقى كلمة ترحيبية بجلالته رائعة للغاية، وقد قرَّر جلالته أن يكتب هبة سخية للطلبة العُمانيين.

وشاءت الأقدار بعد ذلك أن ينتقل مال الله اللواتي إلى دولة إقليمية أخرى كبيرة ومُؤثرة، وهي إيران، فيقول: “انتقلت لأعمل سفيراً معتمداً لدى إيران، في الفترة من سبتمبر 1977 حتى يوليو 1979، وكانت إيران البلد الثالث التي اعترفت ورحبت رسمياً بحكومة صاحب الجلالة، فتعززت العلاقات بين الدولتين خاصة فيما يتعلق بضمان الأمن في مضيق هرمز، وعلى إثر هذه العلاقات جرى توقيع عدد من الاتفاقيات بين الطرفين”

ويستعيد مال الله ذكريات تلك المرحلة، وكم كان يتلقى في بداية الثورة الإسلامية من مكالمات هاتفية تقول إنِّه لا مكان لسفارة السلطنة على أرض إيران، إلا أنه سرعان ما تغير هذا الموقف، فيقول: “عندما طالبتنا وفود عربية بمقاطعة إيران، قلنا لهم إن سياستنا هي أن نكون جسراً بين مختلف الأطراف لتقريب وجهات النظر عند اللزوم وأن مصلحة الجميع تكمن في استقرار الأوضاع وليس في الحروب، فالسلطنة كانت من أوائل الدول التي بعثت برقية تهنئة للقيادة الإيرانية إبان نجاح الثورة”.

وعن تلك المرحلة يقول: “ساهمتُ بدور فاعل في تقوية العلاقات بين السلطنة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، قبل وبعد الثورة الإسلامية.

ويضيف مال الله “عُيّنت في عام 1978 سفيرا فوق العادة ومفوضاً للسلطنة غير مقيم لدى تركيا، وفي أغسطس من عام 1979 نقلت إلى ديوان عام وزارة الخارجية، وفي نهاية سبتمبر من ذات العام عُينت رئيساً للشؤون السياسية بالوزارة. وفي 26 من سبتمبر من ذات العام كلفت بالقيام بأعمال وكيل وزارة الخارجية بالوكالة، في فترة غياب – وقتذاك – سعادة الأستاذ يوسف بن علوي وكيل الوزارة بالخارج خلال تلك الفترة”.

ويضيف مال الله أنه في عام 1980 وأثناء حكم مارغريت تاتشر عُين سفيرًا فوق العادة ومفوضًا لدى بريطانيا، وسفيرا غير مقيم لعمان في لوكسمبورج، ثم بطلب منه للاستراحة من الغربة عاد إلى مسقط عام 1982 للعمل في ديوان عام وزارة الخارجية. ثم في يناير 1983 وحتى ديسمبر 1985 عُين وكيلا لوزارة التراث القومي والثقافة (سابقًا)، وفي عام 1986 عُين مستشارا لوزارة التراث القومي والثقافة ثم مساعداً للمرحوم سُّمو السيد الوزير فيصل بن علي وبقي في الوزارة لفترة قصيرة أثناء تولي سُّمو السيد هيثم بن طارق الوزارة – صاحب الجلالة السلطان الحالي- ويتابع مال الله أخباره حالياً ويدعو الله له بالسداد في قيادة البلاد نحو الرقي والعلى.

وأسهم مال الله حبيب في إثراء المكتبة العمانية بعدد من المؤلفات، منها كتاب “History of Oman” ليوفر للباحثين الأجانب مفاتيح البحث من خلال المراجع المثبتة في الكتاب، والذي ترجم إلى العربية بعنوان “ملامح من تاريخ عمان”، هذا إلى جانب العديد من المحاضرات الثقافية والتاريخية والمقالات الصحفية حول تاريخ عُمان وعلاقاتها الدولية. ويقول مال الله: “عملت على إعداد برنامج تلفزيوني بعنوان “من كنوز التراث”، وعملتُ على إحياء الفنون الشعبية، وكتبت كتابي “ملامح من تاريخ عمان”. ويضيف مال الله أنه أُوفد لإلقاء محاضرة عن تاريخ العلاقات بين السلطنة والولايات المتحدة، في حفل مهيب أقيم بجامعة جورج تاون بمناسبة مرور 150 عاماً على العلاقات بين البلدين، وساهم في التنظيم والمشاركة في العديد من المشاريع والأنشطة الثقافية كرحلة سفينة الشباب على طريق الحرير إلى الصين ومشروع السلطان قابوس للأسماء العربية.

ونال مال الله بن علي حبيب اللواتي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى بمصر، ووسام الجمهورية من ذات الدرجة من الرئيس الراحل محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية، وحصل على وسام همايون من الدرجة الأولى وتسلمه من شاه إيران محمد رضا بهلوي، ووسام من ملكة بريطانيا وكذلك وسام عُمان المدني من الدرجة الثالثة من السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه-، تكريماً لمسيرته الممتدة والحافلة بالعطاء الوطني والإنجاز في خدمة المصالح العمانية في الداخل والخارج، وهو الآن يُعد الشخص الوحيد الذي عمل مع ثلاثة سلاطين.