Image Not Found

طبيبةٌ تواجه الأمومة في زمن كورونا

فاطمة بنت محمد اللواتية – أثير

أتقلّبُ ذاتَ اليمينِ وذات اليسارِ..
حاملةً في أحشائي بذرة نبتت منذ أشهرٍ تسعة..
النومُ يهجرني، وأحدهم يسألني: ما بالكِ الليلة؟
أردّ عليه: بطني متقلّب، والنوم يجافيني، آلامي تأتي وتروح! هل تُراها الليلة؟ الموعدُ الذي انتظرته لسنواتْ، كابدتُ فيها بين زياراتِ أطباء العقم، وأخذ الأدوية التي تصفها أمي عن جاراتها وعن جاراتِ جاراتها من أعشابٍ وأشياءَ أُخرْ.. التسمياتُ بحدّ ذاتها أصعبُ من تهجّئ كلمة: Corynebacterium diphtheriae في أول يومٍ لك في كلية الطب، وأمام الكمّ الهائل من المصطلحات الإغريقيّة..

نعم أنا طبيبة! لكن عندما أُحرمُ من لذّة الأمومة، قد أفعل ما لا يتقبّله العقل، بحثًا عن بصيصٍ من أمل..

كنت أنتظرُ تلك الصرخةَ التي اعتدنا سماعها في المسلسلات الخليجية: آه ، وفجأة: مشهدُ الطفل في حضن أمه وهي تبتسم!! هل يا تراها بتلك السهولة؟!!دخلتُ إلى المستشفى أتوكأ على يدِ زوجي، كشفت عليّ طبيبة الطوارئ بعد أنْ أخذَت التاريخ المرضيّ، ثم قالت: أعتقد إنه موعد ولادتك..

لم أصدّق ذلك، كنت في شعورٍ يتقاسمه الخوف والسعادة.. خوف من القادم، خوف من المستشفى في أيام جائحةِ الكورونا، وخوفٌ على طفلتي التي ستأتي إلى العالم في هذا الوضع..

دخلتُ إلى غرفة الولادة، كانت القابلة المشرفةُ على ولادتي بشوشة وجميلة في تعاملها..

جاءتني وعرّفت بنفسها: أنا اسمي سيستر سعاد، سأكون معك حتى تلدين بالسلامة.. إذا احتجتِ أيّة مساعدة، فقط اضغطي على الزرّ وسآتيك حالا..

فوجئتُ بدخول زميلتي التي درسنا معًا الطب، ودخلتْ هي لتتخصص في طب النساء والولادة، حيّتني برحابة وعرّفت القابلاتْ عليّ..

بعد سويعات لم تكن بالسهلة حتما، جاء دوري لأتقمّص دور الممثلة الخليجية، وأمسك ابنتي في أحضاني.. أخذتها برجفة، والقابلة تعطيني إيّاها وهي مبتسمة قائلة: لا تخافي هذه ابنتك.. رأيتُ عينيها لؤلؤتين تلمعان، فبكيتْ!!!

بعد يومٍ قضيته في المشفى، عدتُ إلى البيت بكل ما أوتيتُ من فرح.. نعم، سميتُها فرح!! فهي فرحتي الأولى التي انتظرتها لسنوات..

نمتُ تلك الليلة بقوى خائرة وتركتُ أمي تأخذ دورَ الأم، فقد كنت منهكةً حدّ الموت..

يومٌ آخر مرّ مع ابنتي، بين مباركات الأهل الهاتفية، واعتذاراتهم بعدم مقدرتهم على زيارتي بسبب هذه الفترة والحجر.. عذرتهم جميعا وقدّرت لهم ذلك.. رنّ الهاتف، رقمٌ غريب، لكنني حسبته أحدًا من معارفي أراد المباركة لا غيرْ..

-ألو ، معي الدكتورة أحلام
-نعم، من معي؟
-أنتِ ولدتِ قبل يومين في مستشفى….
-نعم
-القابلة التي أشرفت على ولادتكِ كان اسمها سعاد؟
بدأت دقات قلبي تتسارع، فأجبت:
-نعم
-للأسف يا دكتورة، اتصلت أخبرك أنها مُصابة بـ(الكورونا)، والآن قمنا بالاتصال بجميع الذين احتكوا بها في الأيام الماضية، وأنتِ إحداهنّ.. أنتِ دكتورة وتعرفين الإجراءات الاحترازية.. يجب أن تبقين في الحجر الصحي مع ابنتكِ لمدة ١٤ يومًا، وفي حال ظهور الأعراض تتواصلين على الخط الساخن.. سنأتي لزيارتك في المنزل بعد أيام..

لم أفهم أي شيء قاله المتحدث بعدَ كلمة (كورونا)..
فقط كان يتردد في مسامعي : كورونا، كورونا، كورونا..
ما فعلته فقط أنني بدّلت وضع الهاتف من أذني اليمين إلى الأذن اليسار، علّني أسمعُ شيئًا آخر..

طوال الأشهر الفائتة ومنذ معرفتي بخبر الحمل، وجنس المولود، بدأتُ بالتجهيز.. توزيعاتٌ بهذا الشكل، صالةُ استقبال مَن سيأتي لزيارتي بذاك الشكل.. اهتممت بكلّ التفاصيل الدقيقة كونه أول مولود لي بعد صبرْ..

كنت أتخيّل نفسي وأنا أستقبل المُباركين، من الأهل والصديقات وأنا مسرورةٌ بذلك..

وبعدَ أن بدأ الوباء، أوقفتُ كلّ تلك التخيّلات، و(صبّرت نفسي): أمي وأُختاي معي في البيت، وسوف يقمنَ بالواجب..

أما الآنْ، فعليّ تحمّل كل شيء بمفردي!!
صدمت.. لم أتمالك نفسي.. انهمرت دموعي.. مرّت خمسُ دقائق وأنا متجمّدةٌ كجبلٍ جليدي يأبى التحرّك..

اتصلتُ بأمي وأخبرتها.. كانت صدمتها أكبر، فتجاربها السابقة قد أخبرتها الكثير.. كيف لابنتها في أول أيام أولى ولاداتها أن تعتني بطفلتها ونفسها في الوقت ذاته.. قالت وهي تصرخ: إنتِ حتى لا تعرفين كيف تغيرين الحفاظ!!!
رددت عليها بكلّ هدوء: سأستطيع..

كان يعتريني إحساسٌ بالضيق لم أعهدهُ قبلًا.. لا أستطيع النوم ، فابنتي توقظني كلّ ساعتين لأخذ الحليب، ثم لتبديلها.. كنت أبحث في مواقع البحث عن كيفية ذلك وأبدأ بالتطبيق.. ازداد السواد تحت عينيّ ، فأمي ليست معي لمساعدتي بالرغم من محاولاتها.. لم أشتهِ الأكل، ولم أشته ِابنتي بعدها.. كنت ألومها على هذا العذاب، وكانت تنظر إليّ بكل حب وبراءة.. يومان وثلاثة وأربعة وخمسة.. كانت كل ليلة أتعس من الأخرى..

في إحدى تلك الليالي التي لم أنمْ فيها حتى الفجر، كانت ابنتي تبكي ، أعطيتها الحليب، بدلتها، فعلت كل شيء تستطيعُ أمٌ مبتدئةٌ فعله، لكنّها أصرّت على البكاء.. لم أدرِ ما أفعل !!؟ صرختُ معها باكيةً وأنا أردد: أنتِ السبب! أنت السبب!

سمعتُ نشيجًا عند الباب، ذهبتُ لأتأكد.. كانت أمي على الأرضِ خارجا ، تتقاطرُ دموعها شلالات، تسمعنا وليس بيدها أيّ حيلة..
مضت تلك الليلة عصيبةً كـ دمار..
انتظار أن ينتهي الأمر، هو موتٌ بحدّ ذاته..

أمسكتُ ابنتي صباحًا لتبديلها بعد أن هدأت موجات البكاء، وأنا أغالبُ النعاس، وأغالب النوم، وأغالب الأمومة وأغالب كل شيء دفعني لما أنا عليه.. حدّقتُ في وجهها ، تأملتها بعين القلب ثم احتضنتها: آسفة حبيبتي ، أنتِ أبرأُ من لومكِ وعتابك.. سامحيني..

استجمعتُ قواي التي خارت بفعل الإرهاق، وقررت أن أعيش ما تبقى من أيام براحة بال.. قد لا تكون راحة جسد، لكن الراحة النفسية هي الأهم..
بدأت أبتسم لابنتي كل لحظة، أناغيها، أتلو القرآن بجانبها وهي تسمعني.

وأقرأ لها قصصًا كل ليلة، أشكي لها همومي،. تغيّر كل شيء ، وأصبحت أحبها أكثر، وأحب الحجر المنزلي الذي جعلني أعرفها عن كثب.. صرتُ أفهم حركاتها وما تعنيه … أقرأ نظرات عينيها بل وابتسامتها أيضا .. مرت أربعة عشر يوما على الحجر المنزلي بدون أية أعراض تُذكر ولله الحمد .. خرجتُ منها أمّا قوية.. قوية جدًا ومُحبّةً جدًا.