علي بن داود اللواتي – شؤون عُمانية
إنّ العملية الحضارية The process of Civilization هي عملية مستمرة ومتغيرة بتغير الأدوات والاستخدامات والابتكارات، وقد لعب الاستغلال المختلف والمتغير للطاقة المتوفرة على كوكب الأرض دورا مهمّا في هذه العملية المعقدة. إن الإنسان العاقل يتميز عن بقية الأحياء على هذا الكوكب باستمداده الطاقة ليس من الطعام فحسب بل من ’الوقود‘ أيضا. لم يكن الوضع هكذا دائما بطبيعة الحال، إذ يذهب الباحثون إلى أنّ الإنسان بدأ يتميز على هذه الطريقة منذ أن اكتشف النار وتعلّم كيفية احتوائها أو السيطرة عليها منذ حوالي 250 ألف سنة. أما قبل ذلك فكان الإنسان مجرد باحث عن الطاقة في شكلها الأولي، أي صيد الحيوانات وجمع الثمار. لقد كان اكتشاف النار أول استغلال مفيد لمصدر طاقة جديد، هي الطاقة الشمسية المخزّنة في الأخشاب الميتة المتوفرة بكثرة، ومع اكتشاف النار تقدّمت الحضارة البشرية خطوة عملاقة للأمام مازال أثرها مستمر إلى اليوم، إذ توفرت على الإضاءة وطبخ الطعام والأمان من الأعداء، رغم ما يمكن أن يكون قد صاحب ذلك من قوة تدميرية تمثلت في حرق مساحات شاسعة من الغابات.
الخطوة التالية والمهمة كانت في اكتشاف الزراعة، ويرى بعض الباحثين أنّ البشرية أمضت فترة طويلة نسبيا لتشقّ طريقها نحو تكثيف الزراعة وذلك بسبب كون عائد الطاقة منها في البداية قليلا جدا بحيث لا يبرر بذل جهد كبير، ولعل ما شجّع على اعتماد نظام الزراعة في البداية – رغم هذا العائد القليل من الطاقة – هو كونها أفضل من نظام ’التنقل للبحث عن الطعام‘ من حيث القدرة على تكوين دفاعات أكثر قوة لمواجهة الأعداء وتوفر مصدر غذاء مستقر نسبيا لأعداد متزايدة من الأفراد، وقد أدت بعض الابتكارات مثل الأسمدة المتوفرة على النيتروجين دورا محوريا إلى جانب زيادة عدد السكان في دعم تكثيف الزراعة وانتشارها منذ ما يقارب 10 ألاف سنة، وخلال نفس هذه الفترة أيضا ابتكرت المجتمعات المتقدمة زراعيا أنظمة جديدة لاستغلال طاقة الرياح والمياه عبر الطواحين وصناعة السفن للإبحار، وكما هو الوضع مع اكتشاف النار لم يكن التقدم دائما إيجابيا من كل النواحي، فقد أدى اكتشاف الزراعة إلى تأسيس مدن ودول مستقرة وزاد من استغلال البشر بعضهم لبعض وظهر نظام جديد لاستغلال الطاقة ألا وهو نظام الرق. لقد كان الرق وحتى وقت قريب نظاما اجتماعيا الهدف الجذري منه هو استغلال الطاقة المخزنة في إنسانٍ لأداء أعمال شاقة لا يريد إنسانٌ آخر القيام بها.
أما الخطوة الأخيرة والحالية هي استغلال طاقة الوقود الأحفوري Fossil Fuels، التي هي من حيث الأصل طاقة شمسية تم تخزينها بشكل مكثف عبر ملايين السنوات في طبقات الأرض. لقد لعب ’الفحم‘ كأول وقود أحفوري يتم استغلاله دورا حيويا في دفع عجلة الحضارة البشرية ولا سيما في أوروبا في الثلاث أو الأربع قرون الماضية، ومكّن أوربا على وجه التحديد من البروز كقوة استعمارية اجتاحت العالّم. يعتبر بعض الباحثين أن استبدال الفحم المُصنع من الأخشاب بفحم الكوك في عملية صهر الحديد بإنجلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر أهم ابتكار تقني في العصر الحديث، إذ أنهى اعتماد إنجلترا غير المستقر على الفحم الخشبي وأسس لمرحلة تصنيع الصُلب Steel، وبالتالي وفّر أهم معدن لعصر التصنيع Industrialization Era الذي نعيشه، يوازيه في ذلك اختراع المُحرك البُخاري (والذي تطور لاحقا إلى محرك الاحتراق الداخليInternal Combustion Engine )، والقدرة على تحويل طاقة الوقود الأحفوري إلى كهرباء.
إنّ الوقود الأحفوري هو الطاقة التي تدير الحضارة البشرية في مرحلتها الحالية بإيجابياتها وسلبياتها، ولن يكون مُنصفا النظر إليه بمعزل عن هذه الحقيقة. إذ بلغت نسبة الاستهلاك العالّمي للوقود الأحفوري من إجمالي الطاقة المستهلَكة في سنة 2018 حوالي 80% حسب إحصائيات الإدارة الأمريكية لمعلومات الطاقة ، كما تشير التقديرات إلى أنه سيظل مصدر الطاقة الأكثر استهلاكا حتى في سنة 2050 بنسبة تصل إلى حوالي 69%. لقد ارتفع متوسط العمر الافتراضي والدخل الفردي بشكل لا مثيل له في العقود الأخيرة في دول ذات كثافة سكانية عالية مثل الهند والصين والولايات المتحدة الأميركية، ولا يمكن إهمال دور طاقة الوقود الأحفوري في تحقيق ذلك.
يحتوي هذا الوقود على ميزتين أساسيتين جعلتاه يستمر في الصدارة مقارنة بغيره من مصادر الطاقة، وهما: التكلفة المنخفضة وضمان التوفر. فرغم انخفاض تكلفة بعض مصادر الطاقة الأخرى في الآونة الأخيرة – وبشكل منافس للوقود الأحفوري – خاصة بسبب الدعم الممنوح لها إلا أن الوقود الأحفوري مازال الأرخص مقارنة بالكثير منها. أما من ناحية ضمان التوفّر فالوقود الأحفوري مازال الأكثر ضماناً على الإطلاق وذلك بسبب المشاكل التقنية التي تواجهها المصادر الأخرى في تخزين الطاقة، والتي مازالت تعتمد على الوقود الأحفوري كوقود بديل Backup Fuel للتعويض عن أي نقص في الإمدادات. إن مسألة كون هذا النوع من الوقود محدودا لم تعد اليوم بتلك الأهمية المعهودة، فلا يتم الحديث اليوم عن نضوب النفط مثلا بقدر ما يتم الحديث عن ذروة الطلب عليه. كما أنّ الجهود الفعّالة التي تبذلها شركات النفط والغاز مثلا في الاستكشافات الجديدة وأعمال الصيانة وتحسين الإنتاج وتخفيض التكلفة تزيد من حدة وصعوبة التنافس.
لا يعني ذلك كله أنه ينبغي الحفاظ أو الاستمرار في استهلاك هذا النوع من مصادر الطاقة مهما كلّف الأمر، ففي يوم من الأيام قد يصبح أكثر تكلفة وأقل كفاءة وأكثر ضررا، وعندما يحصل ذلك لابد من استبداله تبعا لقانون استمرار الحضارة البشرية. إنّ شيطنة شركات النفط والغاز أو الوقود الأحفوري بشكل عام دون استيعاب الطريقة التي يعمل بها عالّم البشر منذ بداية التاريخ ودون استيعاب المشاكل التقنية والاقتصادية التي تواجه مصادر الطاقة الأخرى لهو أمرٌ غير عقلاني. صحيحٌ أنّه ثمة أضرار ولكن ينبغي دائما النظر إلى الصورة الكبيرة للواقع Big Picture والتي تؤكد أن فوائد هذا النوع من الوقود – حتى اليوم – تفوق أضراره، وللتقليل من هذه الأضرار ينبغي اتخاذ تدابير معيّنة كالانتقال إلى نوع وقود أحفوري أقل ضررا كالغاز الطبيعي واعتماد سياسة صارمة في الحد من حرق الغاز المصاحب للنفط والاستثمار لتطوير مصادر طاقة بديلة أقل ضررا في المستقبل كمصادر الطاقة المتجددة.
إن التغيير المعقول هو التغيير المُتدرج والمدروس، وهو حاصلٌ لا محالة، فبحلول شهر يونيو 2020 أكملت المملكة المتحدة مثلا شهرين كاملين من دون استهلاك طاقة الفحم، وذلك لأول مرة منذ 230 سنة، وفي أغسطس 2020 أعلنت شركة بريتيش بتروليوم BP البالغة من العمر 111 سنة أنها ستوقف التنقيب عن النفط والغاز في بلدان جديدة، وستخفض إنتاج النفط والغاز بنسبة 40%، وستزيد الإنفاق الرأسمالي على الطاقة منخفضة الكربون عشرة أضعاف. أضف إلى ذلك الزيادة المستمرة لاستثمارات شركات نفط وغاز عالمية ووطنية خارج نطاق صناعة الوقود، فقد ارتفعت نسبة هذا الاستثمار إلى الضعف من إجمالي الإنفاق بين 2015 و 2019 وإن كانت من حيث الحجم الفعلي بحاجة إلى المزيد من الاهتمام. عربيا ووطنيا، تٌعد شركة تنمية نفط عٌمان PDO شركة رائدة في مجال دعم مصادر الطاقة البديلة والحفاظ على البيئة سواء من حيث خطتها للتحول إلى شركة طاقة عامة تحت مسمى شركة تنمية طاقة عُمان أو استثمارها الاجتماعي لغرس ثقافة الابتكار في مجال الطاقة البديلة كمسابقتها السنوية المدرسية لأفضل مشروع في الطاقة المتجددة أو تركيبها آلاف الألواح الشمسية في مواقف السيارات في مقرها الرئيسي بميناء الفحل لتوفير الطاقة للمكاتب الرئيسية وضخ الفائض لتغذية الشبكة الوطنية خارج أوقات الدوام الرسمي أو بناءها إحدى أكبر محطات توليد البخار بالطاقة الشمسية في العالم (مرآة) لاستخدامها في عمليات انتاج النفط.
أخيرا، عند الحديث عن أضرار الوقود الأحفوري ينبغي أن يكون المعيار واضحا، فهل المعيار هو الإنسان وحضارته على هذا الكوكب أم شيء آخر؟ وعند الحديث عن البيئة، هل نعتبرها مسرحا مفتوحا لحضارة البشر أم شيئا عنصرا مقدّسا ومستقلا عنها؟ إذ ليس من الصعب ملاحظة معاملة الكثير من حُماة البيئة لها معاملة مقدسة من دون وضع اعتبار كبير للبشر إزاءها. وينبغي، أيضا، عدم نسيان حقيقة أنّ لا أحد يستطيع الجزم بأن مصادر الطاقة البديلة في حال احتلت الصدارة لن تكون لها أية أضرار، إذا لم تكن أضرار بيئية فقد تكون أضرار سياسية أو اقتصادية (احتكارية) أو غيرها، فالحضارة البشرية ليست ملائكية، وينبغي عدم الخلط بين الطريقة التي تُدار بها الأمور في عالَم البشر وبين الوقود الأحفوري، فهو في النهاية خام ميت يعمل البشر على إحيائه.
المراجع:
1- Rutherford, J., 2018. Review Of “Energy And Civilization” By Vaclav Smil | Stanford Energy Journal. [online] Sej.stanford.edu. Available at: https://sej.stanford.edu/review-energy-and-civilization-vaclav-smil [Accessed 10 August 2020].
2- Goudsblom, J., 2012. Energy And Civilisation. [online] Quod.lib.umich.edu. Available at: https://quod.lib.umich.edu/h/humfig/11217607.0001.107/–energy-and-civilisation?rgn=main;view=fulltext [Accessed 10 August 2020].
3- Eia.gov. 2019. TODAY IN ENERGY. [online] Available at: https://www.eia.gov/todayinenergy/detail.php?id=41433 [Accessed 13 August 2020].
4- الحجي, أ., 2019. ما لا يفهمه المتطرفون من حماة البيئة. [online] إندبندنت عربية. Available at: https://bit.ly/3iHISM6 [Accessed 14 August 2020].
5- Bostock, B., 2020. The UK Has Gone 2 Months Without Burning Coal, The Longest Period Since The Dawn Of The Industrial Revolution. [online] Business Insider. Available at: https://www.businessinsider.com/britain-no-coal-burning-first-time-since-industrial-revolution-2020-6 [Accessed 14 August 2020].
6- Grandoni, D., 2020. The Energy 202. [online] Washington Post. Available at: https://www.washingtonpost.com/politics/2020/08/05/energy-202-bp-lays-out-plan-slash-oil-gas-production-meet-climate-goals/ [Accessed 14 August 2020].
7- Pdo.co.om. 2018. شركة تنمية نفط عُمان تبشر بعهد جديد في إمكانيات الطاقة الشمسية في السلطنة. [online] Available at: [Accessed 14 August 2020].
8- 2018. عُمان تفتتح أحد أكبر مشاريع الطاقة الشمسية بالعالم. [online] Available at: https://bit.ly/31T5a6T [Accessed 14 August 2020].
9- الموقع الرسمي لجريدة عُمان. 2017. التربية تدشن جائزة «تنمية عمان» للطاقة المتجددة لتعزيز الابتكار الموقع الرسمي لجريدة عُمان. [online] Available at: https://www.omandaily.om/?p=476175 [Accessed 14 August 2020].
10- Epstein, A., 2014. The Moral Case For Fossil Fuels. New York: Penguin Group.