صادق حسن اللواتي
(7)
تحدثت في الحلقة (6) إن سلوك العباد يعكس نظرته لفهم الدين ، وهذا الفهم ليس من أصل الدين. سنكمل بحثنا في البعد العقائدي.
إنطلاقا من سلوك العباد في فهم الدين ونصوصه التي اشتغل عليها الإنسان واعتبرها نتاجه الخاص ، وهذا الفهم لاعلاقة له بجوهرالنص من حيث القراءة والفهم. إذن نحن أمام نقتطين مهمتين (الأولى النص والثانية المعرفة في فهم النص) الذي هو نتاج أو سلوك بشري والذي يتأثر بالخلفية الفكرية والنفسية والثقافية والعقيدية سواء كان هذا الإنسان فقيها أو مفكرا أو مثقفا أوعالما.
فيسقط عليه ما ترسب في لا وعيه من رؤى وأفكار وعقائد بل وحتى العادات الظرفية والمكانية والتقاليد والأعراف والمستوى الثقافي والعلمي التي تؤثر أيضا في فهم النص ، وما دامت نتاجا بشريا فإنها تحتمل الخطأ والصواب ، وليس هناك قراءة بريئة أو موضوعية لا يشوبها التأثيرات الفكرية والخلفية العقائدية.
وخلال مراحل التاريخ نجد مع تطورالزمن زاد وعي الناس في دراسة صحة المفاهيم واهتمامهم بما تعنيه هذه المفاهيم من معاني وهو ما يعرف بالتعامل العقلي مع النص.
ونحن نعرف أن الدين اهتم بالشعائر والطقوس في التعامل مع الإنسان وهي التي يمكن تعريفها (بالنشاط العضوي الزائد عن الحد والذي ليس ضروريا لكنه يشعرالقائم به بالسرور والراحة وتكراره يشعره بالإنجاز والنجاح)
وهذا الإهتمام طغى على جوانب عديده في التعامل مع الآخرين في تطوير العلاقات معهم. فالمجتمع الديني عابرللحدود لا ينحصر ضمن قوميات أوتجمع شعبي أو مذهبي.
إن المشكلة التي يواجهها الدين وتحديدا الشريعة الإسلامية هي ذوات جذور عقائدية ، فافتقارالعالم الإسلامي إلى العقيدة الحنيفية في شخص رسول الله (ص) سبب الإندفاع إلى نسج معتقدات لا تمت إلى كتاب الله بصلة ،
فلو رجعنا إلى الوراء قليلا سنجد أن الآية 55 من سورة المائدة (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) بمعزل عن القرائن والنصوص الدينية من المسلمين ، من استفاد أنها نزلت في علي بن أبي طالب(ع) فاستحق منصب الولاية بعد الله ورسوله ومنهم من استفاد بإيتاء الزكاة لولاة الأمرمن المؤمنين وهناك من يرى غيرذلك.
هذا التعامل لايقتصرعلى الخلفية المذهبية بل يتعداه إلى ثقافة وفكرينسجم مع البيئة التي يعيش فيها الفرد ويصل به في بعض الأحيان إلى الرفض والتشكيك بها والتقليل من قيمتها المعرفية واتخاذها ذريعة في الطعن بالآخر وبمصداقيته ،
علما أنه لا توجد هناك معرفة دينية ثابتة أو جزمية أو إنتهائية أو مطلقة أو مقدسة أو مجردة عن تاريخيتها وتتعالى على النقد والمراجعة.
مثال : عقيدة الرجعة عند المسلمين منهم من قال برجعة أئمة أهل البيت(ع) وأولهم الحسين بن علي(ع) واختلفوا حولها هل الرجعة قبل ظهورالمهدي(ع) أم بعده ، ومنهم من أنكرعقيدة الرجعة ومنهم من قال أن الرجعة في عالم البرزخ وليس في عالم الدنيا ومنهم غيرذلك.
سؤال : هل نستطيع نحن كمسلمون تقديم هذه الرؤية (الرجعة) حول القيادة السياسية الإسلامية المرتقبة إلى العالم اليوم أو لا ؟ الجواب لا نستطيع. لأن الشخص أدى دوره في حياته ، ماهوالمبررلقدومه مرة أخرى إلى عالم الدنيا ، سيأتيك الجواب أنه سيقتل أعداء الله وأعدائه.
إذن المسألة مسألة قتل وعنف وسفك الدماء ، وهذه الثقافة ليست ضمن عقيدة حنيفية لمحمد بن عبدالله (ص) رسول الإسلام الذي وعد بسيادة الإسلام الأخلاقي العالم.
سؤال : بالله عليكم هل سيقبل العالم قيادة شخص كالحسن بن علي (ع) المزواج وأباه يطلب من الناس عدم تزويج ابنه ، إضافة أن القرآن الكريم كما مر سابقا يذم علي بن أبي طالب (ع). ناهيك أن الشيعة بأنفسهم لن يقبلوا بقيادة المهدي (ع) وسيقولون له يإبن فاطمة إرجع لاحاجة لنا بك.
هذا تراث المسلمين إرجعوا إليه فهل عقيدة الرجعة تتوافق مع المعايير السياسية والدينية الحديثة أو لا تتوافق ؟ مؤكد لا تتوافق.
خلاصة الحديث أن البعد العقائدي لا يتبادر إلى أذهانكم أنه مشروع يسمح لأي أحد التلاعب في مضمونه الإصطلاحي ومن ظن ذلك فهو واهم ، بل هومشروع يتطلب تمهيدا محوريا في تأصيل العلاقات مع الأديان والمذاهب والدول من أجل تسكين النظرة الحضارية للإسلام ورسالته العالمية حيث تتداخل المفاهيم لإستخراج الأطرالجديدة للتعامل البشري مع المنظومة الإسلامية العالمية.
(8)
انتهينا من البعد العقائدي في الحلقة (7) . طلبت مني إحدى المؤمنات مشكورة البدء في الحديث عن ظاهرة الالحاد دون التطرق إلى أبعاد الدين. واقعا لا يمنع من تلبية هذا الطلب ولكن البحث سيكون ناقصا لسببين الأول لن نستطيع تمييزمسار التفكيرعند الملحدين.
والثاني سنلغي القاعدة الفكرية في التحليل المنطقي للخطاب سواء كان الخطاب الديني كان أوغيره. مثال: أنا وأنت نسمع المحاضرات هنا وهناك ثم نريد مناقشة المتحدث وراء الميكروفون حول موضوع حديثه هذا وفي أي بعد من أبعاد الدين يقع ، فإذا لم تكن لدينا هذه القاعدة الفكرية سنقع في فخ هذا المتحدث. لهذا كان ضروريا البدء بالدين وأبعاده أولا قبل الدخول في
الحديث عن ظاهرة الإلحاد والله مع الصابرين.
نبدأ بالبعد الثاني من أبعاد الدين وهو (البعد المؤسسي أو الأسطوري).
في عام 2018م دعيت للمشاركة في الاحتفال بعيد إستقلال الهند أقامته الجالية الهندية في سلطنة عمان وتعرفت على راهب هندوسي ثم دار بيننا حديث حول الهندوسية على هامش الاحتفال ، قلت له أريدك أن تخبرني عن الحكيم كريشنا وهو إله يعبده الهندوس كتجسيد للإله فيشنوا وله تمثال على شكل راعي يعزف الناي قال : سأحدثك بقصة حصلت معه قلت له : تفضل ،
قال : (جاءت إمرأة مشاكسة إلى كريشنا قائلة له : أنا لا أجد طريقة تجعلني أحب الله ، سألها كريشنا أما يوجد شيء تحبينه ، أجابت المرأة بلى يوجد وهو إبن أخي الصغير، قال كريشنا حبك لله يكمن في حبك وخدمتك لهذا الطفل).
هذه الصورة للإله يختفي خلفها وجه العظمة للإله كريشنا ، هو كان يريد أن يعرف كيف يتجلى شكل الإله في الثقافة الهندوسية ، وهذه الصورة تشيرإلى حقيقة واحدة ونهائية ما هي سوى قناع يتناغم مع الصورة المجازية في الدعوة إلى المعرفة العميقة للحدث ، والأسطورة لا تخلتف عن هذا الوصف فهي قناع أيضا.
ماهو تعريف الأسطورة من خلال هذه القصة ” فإن الأسطورة هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود والحياة والانسان ” ، وهناك تعريف آخر للأسطورة (إنها حكاية تقليدية تلعب الكائنات أدوارها الرئيسية في الما ورائية) ( قاموس كمبريدج).
من خلال هذه التعريفات نستطيع الجمع والتدقيق لمقارنة الجهود في التمييز بين جنس الأسطورة عن غيرها من الأجناس. وكلما تعمقنا أكثرفي دراسة الأسطورة إقتربنا أكثرلنجد إنها تمثل ظاهرة ثقافية ذات خصوصية متميزة. هنا يثارسؤال مهم ، ماذا سنستفيد من البحث في أمورقديمة لا نفع يرجى منها ؟
الجواب : إننا كثيرا نقرأ نصوص نعتبرها عبادية دون التمييزبين النص الأسطوري وغيرالأسطوري ، لهذا وجب وضع علامة إستفهام حول هذه النصوص وما يعتقده الكثيرون من خلال قصص يسردونها أصبحت في حكم المعروف والموصوف من دون اختبارالمادة على أي معيارمن شأنه أن يفرزلنا النص الأسطوري واختلطت بأدبيات الأجناس الآخرى.
مثال : قصة الملكان نكير ومنكر عند المسلمين البعض يقول يأتي هذين الملكين للميت في القبر ويسألانه عن ربه ونبيه وإمامه وعند البعض يسألانه فقط عن نبيه وفي الأديان الأخرى لا يوجد هذا المشهد. مثال أخر أن الله خلق السماء والأرض والبحاروالأفلاك والشمس والقمر لأجل فئة معينة من البشر.
إذن المشكلة تبدأ في حالة غياب تمييزالنص الأسطوري عن غيره ، فإذا بحثنا عن هذه النصوص ومن على شاكلتها سنجد إنها كانت مبعثرة هنا وهناك وجمعت في زمرة واحدة وحفظت مع النصوص الأخرى دون الإشارة إلى أسطورية هذا النص أو ذاك ، فأصبحت في حكم الوصايا في الصلوات وفي الممارسات الطقوسية الأخرى.
وقد عمد كل واحد حصل على نص أسطوري فإختزنه مع أدبية مختلفة وأعاد صياغته في أسلوب أدبي خاص به ، ثم جمع حوله مجموعات في مؤسسة لتمارس تطبيق هذه النصوص في مسجد أو مأتم أو معبد أو كنيسة ، وهذا ما نسميه بالبعد المؤسسي والذي أخذ بعدا ثقافيا في نشرالأساطيربإمتياز.
نتوقف هنا منعا للملل لنكمل البعد المؤسسي أو الأسطوري في حلقة (9) ….إلى اللقاء
(9)
تحدثت في الحلقة (8) عن مفهوم الأسطورة كأحد أبعاد الدين، نكمل بحثنا حوله.
العالم يعيش في وقتنا الحاضر إبتلاء فريد من نوعه وهو تفشي فيروس كورونا – كوفيد 19 ، ماذا قال الدين على لسان علمائه عن هذا الفيروس وعلاجه ؟
(الشيخ علي الكوراني) عالم شيعي قال (مقامات الأئمة هي عقارلمرضى كورونا) وعلى أثره تهافت الناس على لعق مزارات الأئمة ،
والقس المسيحي (كينيث كوبلاند) تحدث في الكنيسة وأمام الحاضرين في أمريكا قائلا لهم : (لقد قبضت على كورونا وانتهى أمره وقد تعافت إمريكا الآن) وعلى أثره ألغى الناس الخطوات الإحترازية من هذا الفيروس فزاد فيهم عدد المصابين ،
والمرجع الديني الشيعي (هادي المدرسي ) قال : (بأن هذا المرض بلا شك أمر من الله ضد الصينيين بسبب معاملتهم السيئة واستهزائهم وعدم احترامهم للمسلمين والاسلام ) وبعد مدة أصيب بنفسه بهذا الوباء.
حاخام يهودي قال : (كورونا لن يصيب الإسرائيليين) وعلى أثره فتحت مرافق الترفيه وزاد فيهم عدد المصابين أيضا ،
والخطيب الشيعي (الشيخ واثق الشمري) قال : ( فيروس كورونا عرضت عليه ولاية علي بن أبي طالب فرفضها فعاث في الأرض الفساد) وعلى أثره تجمع الناس في مأتم ليقرأ فيهم رادود لطمية(نوحة) يحرض الناس فيها على تحدي القرارات الإحترازية من الفيروس وباسم الإمام علي ، وخطيب مسجد الأزهر في مصر قال : (جاء كورونا ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) ،
ومعمم شيعي قام بزيارة مستشفى يرقد فيه المصابون بهذا الفيروس في إيران وخلع الكمامات عنهم وأعطاهم قطرة من عطر في أنوفهم وقال لهم (جاءني رسول الله (ص) في المنام وأعطاني هذا العطر وقال هوعقار كورونا) ،
وفي جنوب الهند قام راهب هندوسي قال للناس : (أن الإله شيفا هوعقار كورونا) على أثره خرج الناس يرقصون في الشوراع للإله شيفا ،
وغيرها من مظاهر التمرد على هذا الفيروس تارة بطقوس دينية وتارة بوصفات طبية وتارة بإستغفال العامة.
سؤال : لماذا أستخدم الدين في نشرالأساطير والخرافات ؟ وماذا تعني الخرافة ؟ ومن تصدى لهم هل الإعلام أم المؤسسات الدينية أم الفقيه أم الجهات الأمنية أم لم يتصدى لهم أحد ؟
سأجيب عليها تباعا خلال الحديث ، ركزوا معي رجاء لئلا يسأ فهمي. سأتحدث عن مكامن الخطرفي الدين والتي تتركز في فهمه السيئ وتوظيفه الخاطئ ، وإلا فإن الدين من المفترض أن يكون مجموعة أنظمة أخلاقية وقيم تدعو إلى السمو والرفعة. لذا يجب علينا مقارنة ما لدينا من إدراك نظري للدين وإعتباراته.
وهوالمنهج الذي سنسيرعليه ضمن هذه التصورات التي ذكرناها عن علماء الدين في الأديان والمذاهب المختلفة والتي تتقاطع بينها مناهج علم الأصول في الفقه والعلوم الاجتماعية من أجل تحليل هذه التصورات كخطاب أسطوري وخرافي لتحديد البناء المعرفي الذي استند عليه وبرهنة سياقه الفكري الديني لنصل إلى نتيجة أنه لا يتطابق مع تلك العلوم والمناهج.
قلنا أن تعريف الأسطورة : هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود والحياة والإنسان ،
بينما تعريف الخرافة تقول الدكتورة (فضيلة الكبير) في كتابها (دورالأسطورة الدينية في بناء النظام الاجتماعي) ص 67 (هي حكاية ملائ بالمبالغات والخوارق وتجري أحداثها بعيد عن الواقع حيث تتحرك شخصياتها بسهولة بين المستوى الواقع المتطور والمستوى الخيالي).
من هنا نجد أن الدين مازال مصدرالأفكار والمعتقدات وأي مساعي في الإقلال من شأنه ولو جزئيا فإنه يؤدي إلى بروز دين بديل
للأديان السماوية ومذهب جديد من المذاهب ،
وقد ذهب (جون بول) في كتابه (الأديان في علم الاجتماع) ص163 حول تفسير بروز دين بديل قائلا هو (تفكيك العصرية في قدرتها الفلسفية والسياسية على إنتاج مفاهيم بديلة للإنسان للعالم يشكل تجذيرا للتمدين).
وباعتبار هذا التجذير للتمدين بديلا للأديان ، استفاد منه الليبراليون حيث قالوا (إن العالم يتحررالآن من التصورات الدينية) إلا أن الواقع أفشل نظرة الليبراليين ، حيث وجدنا إن عالم ديني يسود الدين بحكم تصوراته وتصديق الناس له ،
مما جعلنا نستنتج من ذلك أن هيمنة السلطة الدينية لمؤسساتها لم تمنع من إعادة استثمارالدين لصنع هوية جديدة وجماعية.
بالنتيجة هناك أصل الدين و دين بديل ، بعبارة أخرى الدين أصبح الآن سلاح ذو حدين وخطير فهو من ناحية قادرعلى بناء حياة الإنسان وفي المقابل يملك إمكانية هدمه وتدميره.
نتوقف هنا منعا للمل لنكمل بحثنا حول البعد الأسطوري في الحلقة (10)… إلى اللقاء.