مرتضى بن حسن بن علي – الرؤية
وضع موازنة عامة للدولة نظام قديم؛ فالأمم القديمة كانت تقوم بجباية الأموال الآتية من المحاصيل الزراعية والأملاك العامة، وتطوَّرت مع مرور الأزمنة، ووصلت إلى وضعها الحاضر.
ضبط كِفتي الموازنة، ومراقبتها من الجهات البرلمانية، هو حديث نسبيًّا، وبدأ في بريطانيا عام 1733، عندما طالب برلمانها بالحصول على موافقته المسبقة قبل فرض الضرائب “الإيرادات”، وبعد فترة طلب موافقته المسبقة أيضًا على أوجه الصرف ومحاسبتها، وقد التحقت الدول الأخرى تدريجيا بهذا المسار، ولكن بعد مخاضات طويلة، اتَّبعت فرنسا مبدأ الموازنة العامة في العام 1820م، والولايات المتحدة في العام 1921م، وبعد ذلك بدأ ينتشر عالميًّا. ومع تعقد الحياة وتعدد مصادر الدخل وأوجه الانفاق، لم تعد الموازنة مجرد أرقام صماء، بل قائمة على تقديرات وحسابات دقيقة، ومع التغيُّرات التي تشهدها المجتمعات الحديثة أصبحت الموازنة محلَّ نِقاشات حَامية، لا سيما في موضوع التصرف بالإيرادات وتوجيهها الوجهة الصحيحة حسب الأولويات الموجودة، ومنها: زيادة القدرة التشغيلية للاقتصاد والاهتمام بالخطط الاستثمارية.
نظام موازنتنا الحالي يُعاني من خَلل هيكلي مُتراكم، يكمن في بنيته المعتمدة على نظام موازنة “البنود والاعتمادات”، وهو نظام تهجُره دول عديدة لأوجه الضعف فيه؛ منها:
1- صعوبة قياس كفاءة الوحدات الحكومية المختلفة، أو التعرُّف بدقة على برامج العمل والمشروعات التي تنوي تنفيذها؛ إذ تقتصر الرقابة على كيفية صرف الاعتمادات المالية حسابيا، أو تحديد الانحرافات الشكلية، وليست رقابة الأداء؛ فالوزارة تحدد الاعتمادات المالية للمشاريع وأثمانها المستلمة من الوزارات الأخرى بغض النظر عن الأولويات، الرقابة وبهذه الطريقة تكون تقليدية وليست مراقبة أداء الأعمال المنجزة، وتقوم بتحديد الانحراف الحسابي فقط، ووزارة المالية تحدد الأموال المخصصة دون أن تكون الأهداف واضحة، ودون أن تقوم هي أو الجهات الرقابية الأخرى بمتابعة المخرجات، كل ذلك قد يسبب عدم فاعلية الصرف حسب الأولويات.
٢- تضع وزارة المالية تقديرات لكل وحدة على أساس متوسط السنوات المالية السابقة، وفي ضوء الإنفاق الفعلي للسنة المالية السابقة، والتي لم تَكُن بالضرورة تُعبِّر عن الاحتياجات الفعلية للإنفاق، وعلى سبيل المثال، فإن وجود أعداد الموظفين لا يُعبِّر عن الاحتياجات الفعلية للدوائر المختلفة أو إنتاجيتهم، وليس من اختصاصات الرقابة التقليدية مراقبة ذلك.
٣- الرقابة التقليدية تحاول التأكد من عدم تجاوز الصرف عن المبالغ المعتمدة، غير مُكترثة بتحقيق الأهداف؛ الأمر الذي قد يُعطي مساحة واسعة لنمو الفساد من خلال تأمين مستندات قانونية للنفقات دون أن تقابلها إنجازات متحققة.
٤- صعوبة متابعة تنفيذ المشروعات وتكلفتها الحقيقة أو تحقيقها لأهداف الإنفاق، وقد تتم مشاريع لا تحقق أهداف التنمية، بسبب عدم ربط أجهزة الموازنة بأهداف التخطيط، وغياب معايير لقياس الأداء وعدم تعبير الأجهزة الحكومية المختلفة عن وحدة الجهاز المركزي للحكومة، وافتقاد الوزارات للوحدة المتكاملة في الوظائف المختلفة التي تقوم بها، كما تفتقد للتنسيق وتعمل بمعزل عن بعضها البعض، وتكون النتيجة عدم تحقق التنمية التي استهدفتها خطة التنمية الاقتصادية الاجتماعية.
٥- اختلاف الوحدة التنظيمية التي تُعِد كلًّا من الخطة والموازنة، وعدم مراعاة السياسة المالية لأهداف الخطة، وبذلك تعاني الموازنة مشاكل عديدة لإنجاز الأهداف.
كل ذلك يدعو للتحول إلى نظام موازنة الأداء الذي يكفل الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، بما يحقق فاعلية الإنفاق العام، وينقل التركيز إلى أداء العمل المنجز، وفائدة موازنة “الأداء” تكفل استخداما أفضل لموارد المجتمع المتاحة؛ بما يُحقق فاعلية الإنفاق العام عن طريق نقل التركيز من وسائل القيام بالعمل إلى العمل المنجز نفسه، ويُتيح المجال للتأكُّد من إنجاز المشروع حسب الأهداف التي خُصِّصت له الاعتمادات عن طريق وضع برامج مُخطَّطة تُسهِّل متابعة ومراقبة التنفيذ وتقلل الانحرافات.
التجارب السابقة وخطورة الوضع المالي الحالي تتطلبان ضرورة التحول من النظام الحسابي في إعداد موازنة الإنفاق إلى نظام موازنة “الأداء” التي من إيجابياتها:
أ- التركيز على تحقيق الأهداف الرئيسية وتقسيمها إلى أهداف فرعية، وبعد ذلك إلى أنشطة ومهام وتحديد متطلبات تحقيق كل منها، ووضع البرمجة الزمنية للأنشطة والمهام، وتبني العوامل المحفزة لتحقيقها وتحجيم العوامل المثبطة لها.
ب- مراقبة التقدم الحاصل من خلال مؤشرات الأداء، وإيجاد العلاقة بين المدخلات والمخرجات وقياس الفاعلية؛ من خلال علاقة النتائج المحققة بالأهداف المخططة، وتوفير المرونات اللازمة لتعبئة الموارد المتاحة وتركيز الرقابة ومتابعة النتائج.
ج- تركيز الرقابة على فاعلية برامج الأنشطة المصاحبة لتنفيذ الموازنة في تحقيق الأهداف المنوطة.
د- الاستثمار الأمثل للموارد المادية والبشرية المتاحة، والكشف عن الطاقات المعطلة بمراكز المسؤولية المختلفة.
هـ – الكشف عن المراكز المسؤولة التي تتضاءل جدواها، لإدماجها أو إلغائها، وترشيد تكاليف إنجاز برامج النشاط الجاري وتكاليف المشروعات الاستثمارية، واختيار أفضل بدائل التنفيذ والأقل تكلفة والأعلى فاعلية.
و- تحليل أسباب الانحرافات في تنفيذ برامج النشاط وفي معدلات الأداء المصاحبة.
ز- تحسين فاعلية الإنفاق العام وتعظيم آثاره لتأمين جدواه المالية والاقتصادية والاجتماعية على الناتج القومي والمجتمع.
ح- وضع نُظُم متكاملة للمعلومات بما يكفل إمكانية إعداد تقارير دورية تحدد حجم الخدمات العامة المؤداة بواسطة الجهة بالمقارنة وتكلفتها الحقيقية.
ط- وضع برامج زمنية للأنشطة لتحقيق الاهداف المستهدفة مع نظم ومؤشرات للقياس وتحقيق متطلبات السيولة وتحقيق الشفافية، وتعميق المحاسبة.
ك- فاعلية الإنفاق على الرواتب والتوسع في تطبيقات المحاسبة الإدارية، ومحاسبة المسؤولية للكشف عن مراكز المسؤولية التي يمكن توفير أعبائها، وتعميق علاقة الأجور المتغيرة والمكافآت والحوافز للموظفين بمعايير الإنتاجية وكفاءة الأداء، وتعميق فاعلية الصيانة، والتي تؤدي نتيجة القصور في القيام بها إلى أعطال المرافق والمعدات.
ل- تعميق فاعلية الإنفاق على المشروعات الاستثمارية؛ من خلال تعميق دراسات الجدوي الفنية والاقتصادية للمشروعات الاستثمارية التي تتضمنها الخطة والموازنة، وتحديد معايير أولوياتها والبدائل الاقتصادية لتنفيذها، ويشمل ذلك: استثمارات الجهاز الإداري والهيئات الخدمية والهيئات الاقتصادية، وتوفير نظام معلومات متكامل للمشروعات الاستثمارية بالأجهزة الحكومية لحصر الأصول والاستثمارات القائمة والطاقات العاطلة مع تحليل أسباب القصور.
م- ترشيد أعباء الحكومة على ميزان المدفوعات.
من كلِّ ما ورد أعلاه يتَّضح ضرورة إيجاد برنامج عمل وخطة مكتملة الجوانب للتحول إلى موازنة البرامج والأداء، وتكلفة التأخر في إنجاز ذلك التحول الضروري أكثر من ذلك؛ لدرجة لا يمكن للاقتصاد العماني تحمُّله، خاصة بعدما أخذت الحكومة قرارات اقتصادية عديدة، بعضها أثار ردود فعل من الشارع؛ أهمها: تقليص دعم المحروقات، وفرض الضرائب والرسوم المختلفة، وتجميد الترقيات، ووقف التعيينات، وإحالة من أكمل الثلاثين سنة من الخدمة إلى التقاعد، كل ذلك بهدف تقليل عجز الموازنة العامة المتنامي من عام لآخر.
… إنَّ إدارة المال العام بكفاءة وفاعلية تتطلب تغيُّرا جذريا في السياسات المالية والنقدية للاقتصاد، وفي القلب منها الموازنة العامة؛ باعتبارها حجر الزاوية في أي نظام سياسي اقتصادي اجتماعي حديث.