فاطمة عبد الرضا محمد اللواتية – الرؤية
الاعتذار سلوك حضاري وفن ومهارة اجتماعية وخلق أصيل وعلامة من علامات الرقي، لا يتقنه إلا “الكبار” الذين هم أصحاب النفوس الأبية والشجاعة والتي لها القدرة على كبح جماح النفس والمُواجهة والاعتراف بالخطأ؛ نعم إنهم كبار في الأخلاق وكبار في المُراعاة لمشاعر الآخرين، ويمكن اعتبارها مصدر قوة وثقة، وليس ضعفا أوانكسارا، والاعتذار لديهم وسيلة للتواصل ومهارة من مهارات الحوار المرن والسهل، عكس الآخرين الذين هم بعيدون عن ثقافة الاعتذار، ويحاولون تقديم التبريرات والأعذار حتى لا يتحملوا المسؤولية، والاعتذار باعتقادهم مذلة ومهانة ودليل ضعف وفشل وأنه يُنْقص من قيمتهم ويحط من قدرهم، ومجتمعنا الشرقي لا يخلو من هذه النماذج في مختلف المواقف الأسرية والاجتماعية والعملية ويمكن أن نطلق على هؤلاء “صغار العقول وضعاف النفوس” .
نعيش في مجتمعات تضم عدداً كبيرًا من الأفراد ويحصل الاحتكاك نتيجة التعايش والترابط والعلاقات الاجتماعية “كالأهل والصداقات والجوار والنسب والزمالة في العمل”، وطبيعي أن نرتكب أخطاء في حق الآخرين سواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة، وهذا ليس عيبًا حيث يمكن إصلاحه بالاعتذار والتسامح مع الأخذ في الاعتبار بعدم التمادي والاستمرار بالخطأ وعدم المجادلة في الاعتراف والاعتذار، فتهدأ النفوس ويكسبهم المحبة والتعاطف، وتزيد المودة والألفة بينهم، إن الاعتذار دليل النبل والنقاء في القلب، قد أخطئ أنا أو تخطئ أنت ولكن خيرنا وأفضلنا من بدأ بالاعتذار وإذا اعتذر وجب علينا قبول الأعذار.
توجد أسباب يمكن أن نطلق عليها “عوائق أوموانع” تصّعبُ على الفرد الاعتذار منها:
الجهل والذي يعتبر آفة خطيرة؛ لأنَّ الجاهل وما يمتلكه من صفات إضافية “كالعناد والغرور والتعالي والمكابرة” تحول بينه وبين الاعتذار، وكثيرا ما يصنف نفسه من طبقة مثالية لا تخطئ، وأن الخطأ غير وارد لديه وإن أخطأ فالاعتذار ليس من شيمه، هؤلاء مجردون من العاطفة والإحساس بمشاعر الآخرين.
الاعتذار كلمة بسيطة ولكن تحتوي على الكم الهائل من الأثر المعنوي، ويكمن مفتاح الاعتذار الحقيقي بكلمتين لهما سحر عجيب على المعتذر له وهما “أنا آسف” “أنا أعتذر” بالإضافة لبعض التلميحات التي تدل على صدق الاعتذار مثل تعبيرات الوجه والأسلوب الراقي في تقديم الاعتذار ويمكن معرفة الاعتذار الذي قمنا به ناجحًا من خلال الانطباع الإيجابي الذي ترك على الطرف الآخر.
الاعتذار الصادق يُغير الكثير من المواقف ويقضي على المشاحنات والتوترات بين أفراد المجتمع، ويساعد في التغلب على تأنيب الضمير ويعيد الاحترام للذين أسأنا إليهم ويفتح آفاق الوصال والتواصل، وفي حياتنا العامة نحن كأفراد إذا صدر منِّا خطأ نشعر بالتوتر والقلق والأرق وسرعة الانفعال والتفكير إلى أن نعترف أننا أخطأنا وبمجرد الاعتذار نشعر بالراحة النفسية وزوال الهم وكأن جبلا أزيح عن كاهلنا- “تجربة شخصية”- وأعتقد معظمنا مر بهذه التجارب.
لا بد لنا أن نكون على علم ومعرفة بثقافة الاعتذار من حيث السلوك والأسلوب السليم الذي نسلكه في تقديم الاعتذار مع النية الصادقة لعدم التكرار والتمادي، واختيار الكلمات والألفاظ الرقيقة والمهذبة التي لها تأثير على النفس البشرية والابتعاد عن الألفاظ الباردة والجافة، والكثيرون يعتبرون الاعتذار بمثابة هدية تُقدم للشخص الذي وقع عليه أثر الخطأ والتي تُعبّر عن التقدير والاحترام، ولكي يكون الاعتذار حقيقياً وصادقاً ونابعاً من القلب لابد من وجود بعض الشروط الأساسية وهي: السرعة في المبادرة للاعتذار، والنية الصادقة، والبعد عن تقديم التبريرات للخطأ الذي صدر، والبعد عن التلاعب بالكلمات والتعالي أثناء الاعتذار، واختيار الوقت المُناسب، والتعويض عن طريق تقديم المساعدة للشخص الذي أخطأ في حقه.
والاعتذار يتوقف حسب سيكولوجية الأفراد وله أنواع متعددة مثل الاعتذار “الشكلي”؛ ويكون سطحيا مجردا من رفع العتب ويكون غير صادق في النية. والنوع الثاني “مجاملة”؛ وفيه يعتذر لجلب الانتباه والظهور بشكل لائق للآخرين ومن داخل نفسه لا يعترف بذنبه. واعتذار “مجادلة”؛ والذي يجادل في تبرير الخطأ ويعتبر اعتذاراً غير حقيقي. والنوع الأخير يسمى باعتذار “المُكره”؛ حيث يعتذر خوفاً من السلطة والقضاء أوتلافيا للعقوبة، وانتشر هذا النوع كثيرا في الوقت الحاضر في مُجتمعنا نتيجة لاتجاه الكثيرين لأخذ رد اعتبارهم عن طريق القضاء “الادعاء العام”.
والنوع الأهم الذي يصنف باعتذار حقيقي هو “الصريح” وهو يكون واضحًا ويعتذر الشخص عن قناعة لكسب الود وإصلاح الخطأ.
الاعتذار ليس مرتبطاً بالصغير والكبير أوالقوي والضعيف أو الرئيس والمرؤوس كل من أخطأ في حق الآخر وجب عليه الاعتذار، ولابد من التنويه كما أن الاعتذار واجب كذلك قبول الاعتذار أيضا واجب وإذا لم يقبل الطرف الآخر الاعتذار “برأيي” يحاول إظهار الود والمحبة وإصلاح الأمور وإذا قوبل التصدي ترك ذلك للأيام فإنِّها كفيلة بإصلاح النفوس.
الاعتذار ثقافة لابد من غرسها في نفوس الأطفال منذ الصغر من خلال التربية الأسرية “الوالدين” حيث يكونان قدوة لهم في التوجيه والإرشاد عند ارتكابهم للخطأ ومن ثمَّ الكيفية السليمة والحكيمة لطلب الاعتذار.
للأسف في مجتمعنا الشرقي بعض الآباء يقومون بتقديم التبريرات عن الأخطاء التي تصدر من أطفالهم ولا تتم محاسبتهم؛ وتكون لها آثار سلبية عليهم تمتد بهم للمستقبل، وبعض الآباء يستخدمون أساليب تشجيعية لتعزيز أبنائهم حسب وجهة نظرهم بأنَّهم أفضل من غيرهم ولا يصدر منهم أخطاء وبالتالي ينمو الطفل وقد غرس فيه الأنانية وحب الذات.
المؤسسات التعليمية “المدارس” تلعب دورًا في غرس ثقافة الاعتذار لدى الطلاب من قبل المعلمين عندما يكونون هم القدوة في الاعتذار، وحيث إنني تربوية ولي علاقة بهذه المؤسسات ألاحظ كثيرًا أنَّ بعض المعلمين وإن أخطأوا بحق الطالب لا يتنازل ولا يعترف، بالرغم من أننا بشر كلنا نرتكب أخطاء سواء من الإداريين أو من المعلمين أو من الطلاب لهذا يتوجب الاعتذار مهما كانت مناصبنا.
الدنيا قصيرة والأيام تمر بنا سريعًا والأزمات تزداد يوماً بعد يوم فلنسمو ونكبر في أعين أنفسنا قبل أعين الآخرين فليكن شعارنا التسامح والصفاء ولنجعل الاعتذار من ثقافتنا ونعمق غرسها في مجتمعنا وبيوتنا إذا أردنا التطور والرقي للوطن فلابد من التمسك بهذه الأخلاقيات التي أتحفنا بها ديننا الإسلامي الحنيف والذي يحثنا على الاعتذار والاستغفار والتوبة وقد ورد ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم ولا ننسى السنة النبوية الشريفة وما تتضمنه من أحاديث عن الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.