الشيخ هلال بن حسن اللواتي
(21)
معرفة الله تبارك وتعالى بناء على المنهج الطولي الترابطي: إن هذا المنهج يوضح لنا – وكما بينا سابقاً- وجود ترابط وثيق بين “المرسِل” و “الرسالة” و “الرسول”، وإن هذه العلقة معللة لما تفرضها أحكام الخلافة والاستخلاف – وبتعبيرنا العصري.. أحكام الممثلية العليا لله تعالى في أرضه وبين عباده – ولم نبن أنفسنا أو البحث على الدخول إلى المسائل المتعلقة بــ”الله” تعالى، أو بما يُعرف بمسائل “واجب الوجود”، ولكن الذي يهمنا هو ما عنونا به الكتاب، فهو يتعلق بالكيفية التي يتعامل بها الباري سبحانه وتعالى مع عباده ومخلوقاته ومصنوعاته، ومن خلال معرفة هذا المطلب سوف تتحدد لنا طريقة تعامل الأنبياء والرسل والأوصياء مع العباد، ومنه سوف نتعرف على طريقة تعامل النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين مع كافة الناس، ومن خلال هذا الأمر سوف ستضح لنا أهم أبعاد شخصيته صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وكل هذا هو من خلال الاعتماد على المنهج الطولي في الرؤية.
تحديد دائرة البحث في المعارف الإلهية: ولكن وقبل الدخول إلى “معرفة الله” تعالى، نود أن نوضح امراً مهماً ذكرناه في ضمن الفقرات السابقة، ولكن الآن نود أن نذكره مستقلاً للتنبيه، وهو: ماذا نريد في المعرفة الإلهية لهذا البحث؟، فإن المعارف الإلهية كثيرةٌ جداً، وقد صنفت في هذا الباب كتبٌ كثيرةٌ جداً، ومن الطبيعي أننا لا نريد إدراج كل تلكم البحوث هنا، فلذا سوف يكون كلامنا منصباً على مورد الحاجة لهذا البحث بالخصوص؛ والذي سينتزع في مرحلة لاحقة من بيان معرفةٍ إجماليةٍ شاملةٍ جامعةٍ إن شاء الله تعالى.
“الله” تبارك وتعالى الكمال المطلق: لقد انتهت الأبحاث العقلية والنقلية فيما يتعلق بواجب الوجود إلى نتيجة واحدة وهي بأن “الله” تبارك وتعالى خالق الخلق ورازقهم ومدبر أمورهم وهاديهم ومعلمهم …إلخ، وهو الواجد لجميع “الكمالات” على الإطلاق، ولا يمكن سلبها عنه لأن السلب سيخرجه عن كماله المطلق، ولازمه أن يدخله في الكمال النسبي، وهذا مرجعه إلى النقص، وهو سبحانه وتعالى منزه عنه.
ومن ينظر إلى أسمائه سبحانه وتعالى وإلى صفاته فإنه سيقف على تلكم الكمالات المطلقة، فكل اسم يحمل دلالة كمالية، وهو سبحانه وتعالى واجد لها بلا أي حد، فكمالاته سبحانه وتعالى لا متناهية، ولا نريد الحديث عن صفات الله تعالى وأسمائه نظراً إلى أن هذا البحث موكول إلى محله من أبحاث معارف التوحيد، وليس هنا الآن محله سوى أن نعلم أنه سبحانه وتعالى الكمال المطلق، ولا أحد في الوجود من هو كمال مطلق سواه، وأن هذه الصفات الكمالية لله سبحانه وتعالى تنقسم إلى صفات جمالية وإلى صفات جلالية، فـ”الجمالية” التي يتصف بها سبحانه، وأما “الجلالية” فالتي لا تليق به تعالى ذكره، والتي يُجَلّ عنها تقدست أسماؤه، وهي التي تعبر بـ”الصفات السلبية”، وهي تعود إلى النقص.
فمن أهم ميزات هذا المنهج الطولي أنه يسبغ على ما يصدر من الخالق أحكام أسمائه وصفاته وكمالاته، فيكون ما يصدر منه حاكٍ عنه، ومبين لإرادته، ونجد وجود نصوص شريفة تؤكد على هذه الرؤية وعلى هذا المنهج، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:”لقد تجلى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون”.
وينبغي أن ننوه إلى أمر مهم في المقام، وهو: إننا عندما نصف العلاقة بين “الله” تبارك وتعالى وبين “الرسالة” بوصف “السنخية” فإن ما عليه المبادئ الحكمية والوجدانية وما عليه النصوص القرآنية بأن ” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ “، فإذا ذكر اصطلاح “السنخية” فإنه منطلق من بالنظر إلى مقام “الفاعلية”، وهو لا شك منتزع من مقام الذات، وبينهما علاقة السنخية الأكيدة، وما سوف يكون مظهراً للفيض الإلهي لا شك أنه سيكون حاملاً لتلكم الصفات مع الفارق الرتبي، وهذا الفارق الرتبي ليس بالأمر الهين عندما ينظر إليه قياساً إلى المقام الفاعلي وننظر إلى المقام الفاعلي قياساً إلى مقام الذات، فانتبه إلى عظمة الرسالة السماوية وإلى ما تتضمنه من الفيض الأجل في المقام الفاعلي.
(22)
قاعدة النظام الأحسن: ومن هنا نجد تجلي هذه الحقيقة في آيات الله وسوره المباركة، قال تعالى:”الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ “{السجدة/7}، قال العلامة الطباطبائي:” قال تعالى: ( الله خالق كل شئ). تكرر مضمون هذه الآية الكريمة في أربعة مواضع من القرآن، وبحسب هذا المضمون جميع المخلوقات الموجودة في الكون هي من خلق الله تعالى وصنعه، ويجب أن لا تغرب عنا هذه النكتة أن في مئات من الآيات صدق موضوع العلية والمعلولية، ونسب فيها فعل كل فاعل إليه، واعتبر الأفعال الاختيارية من أفعال الإنسان نفسه وخصت الآثار بالمؤثرات كالإحراق بالنار إلى الأرض والمطر وغيرها، والنتيجة أن صانع كل شئ وفاعله ينسب فعله وصنعه اليه إلا أن مفيض الوجود والموجد الحقيقي للفعل هو الله تعالى ليس غيره.
ومن هنا نعرف التعميم الذي نجده في قوله تعالى ( الذي أحسن كل شئ خلقه )، فلو انضمت هذه الآية السابقة لرأينا الجمال والخلقة قرينان، فكلما وجد في عالم المخلوقات من خلق كان موصوفا بالجمال”، وقال في تفسيره للآية المباركة:” فتبين أن كل شئ كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلاً…”.
“الرحمة الإلهية” نبض النظام الأحسن وهي زينته: إنه بناء على ما تقدم من عرض مجمل وموجز لما عليه الذات المقدسة من الكمالات غير المتناهية، يرد هذا التساؤل المهم: بعدما خلق الله تعالى العباد وسائر الكائنات؛ فإن هذا يقتضي نحواً من التعامل معهم جميعاً .. 1- فهل “الله” تبارك وتعالى يتعامل معهم من منطلق “الغضب” و “السخط”، وبتعبير آخر نقول: أهل الأصل الأولي لله تعالى في تعامله مع عباده هو “العقاب” و “النقمة” و “استعمال العنف” و “الإرهاب” وووو إلخ، أم أن الأصل الأولي لله تعالى في تعامله مع عباده هو أمر آخر، وما هو؟!!، 2- ومن أين يمكننا معرفة هذا الأمر؟!!
الجواب: لا شك ولا ريب أن أفضل مصدر لمعرفة هذه المسألة هو “كتاب الله” تبارك وتعالى، الذي صدر منه سبحانه، فهو البينات والقرارات والأحكام والمعارف والقوانين التي اعتمدها الله تعالى لهذا الوجود، فهو بمثابة دستور الوجود، فالقرآن الكريم “كاشف” عن جميع ما يريده الله تعالى، وما يحكم به، وما يختاره، وما يأمر به وما ينهى عنه، وما يحدده من المصالح والمفاسد، وكل هذا ضمن قاعدة “النظام الأحسن”، وقد مر ذكر هذا المعنى.
إن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يستطيع إخبارنا عن هذا الأصل الأولي الذي عليه يتعامل الله سبحانه وتعالى مع العباد، وذلك لأنه كتاب الله تبارك وتعالى، وهو الذي جاء من قبله تبارك وتعالى، فهو الكتاب الرسمي عن علم الله وعن قدرة الله وعن إرادة الله وعن صراط الله وعن هداية الله … إلخ، فكل ما تود البحث عنه عن الله تبارك وتعالى فإن أول كتاب يقودك إلى ذلك هو القرآن الكريم، وهو يحدد لك المفاتيح التي من خلالها تستطيع أن تبحث عن مفاهيمه بعمق، والحديث في هذا المجال طويل جداً وسيخرجنا عن محور بحثنا، فللوقوف على جواب هذا السؤال ينبغي أن نستنطق القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم قد تعرض لهذه المسألة وبكل وضوح، فإلى استنطاق هذا الكتاب العزيز.
الأصل الإلهي الأولي في تعامله سبحانه مع العباد: فعلى ما تقدم فإن ما تفرضه المنهجية المنطقية أن نبدأ من الحديث حول الباري سبحانه وتعالى –حسبما تقرر بما مر ذكره – ، بحيث لو وقفنا على ما كتبه سبحانه وتعالى على نفسه من طريقة التعامل مع العباد وجعله اصلا أولياً، سيتضح لنا بعد ذلك المنهج الذي سيكون عليه الأنبياء والرسل وما جاءت به الكتب السماوية من تشريعات وقوانين، فالى معرفة ما كتبه الله تبارك وتعالى على نفسه.
(23)
والآن .. لنقرا القرآن الكريم كي نتعرف من خلاله على ماذا اعتمده الله تبارك وتعالى في اسلوب التعامل مع العباد!.
إن القرآن الكريم لم يذكر في أية آية من سوره المباركة ما يبين بما كتبه الله على نفسه سوى في آيتين؛ وكلتاهما في سورة الأنعام: الآية الأولى: فالآية الأولى الآية (12)، فقال تعالى:”كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ”، وقد جاءت هذه العبارة في سياق بيان ملكية الله تعالى، قال تعالى :” قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ “، وهذه الآية المباركة في سياق بيان الحجج الإلهية على العباد الذين يكفرون بالله تعالى، وعلى من يعصيه جلت قدرته، ببيان وهو .. أن الذي يملك الوجود كله بما فيه ما يصنع هؤلاء الكفار من أصنام ويتخذونها آلهة، وهو القادر على التصرف فيها كيفما يشاء، لأنه مالكها، والمالك يحق له التصرف في ملكه كيفما شاء وأنى شاء.
إلا أنه سبحانه وتعالى بين بأنه على رغم ذلك وعلى رغم ما يقوم به العباد من أنواع التصرف غير الموافق مع مقتضيات الألوهية والملكية الحقيقية التي هي لله تعالى، فيعبدون غيره سبحانه، ويطيعون غيره سبحانه، فإنه سبحانه وتعالى مع ما يملك من الحق في التصرف المطلق فيهم لا يستعمل هذا الحق أبداً، بل إن الآية الكريمة بينت بأنه تعالى ذكره قد قضى وحتم وكتب على نفسه أن يكون تعامله مع العباد وفق “قانون ومبدأ رحمته”.
الآية الثانية: وأما الآية الثانية التي تبين ما كتبه الباري على نفسه هي الآية (54)، قال تعالى : ” كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ “، وهي في سياق خاص بالمؤمنين حيث نجد فيه بيان الاهتمام والرعاية والرفق بهم، قال تعالى:” وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام/54}، وفي هذه الآية بيان آخر صريحٍ جداً في كيفية التعامل مع الذين يرتكبون الأخطاء في حياتهم، ويتصرفون بجهالتهم فإن القرآن الكريم يبين بأن الله تبارك وتعالى يتعامل معهم وفق منهج الرحمة، لا وفق ما ترسمه النقمة والعذاب من رسم للخطأ، وبما أنه سبحانه وتعالى قد كتب على نفسه الرحمة فإنه جل جلاله قد ابتدأها، ولم يشترط في أصل تفعليها وشمولها للعباد والكائنات إلى صدور ما يوجب الاستنزال من قبلهم، نعم قد يختص مراتباً منها لخصوص عباده الذي يطيعونه ويعملون وفق أوامره تعالى، فإن مقتضى العدالة الإلهية هو الفيض وفق ما يقدمه العبد من عمل يوجب لمزيد من فيوضاته تعالى ضمن النظام الأحسن القائم والذي من أهم أركانه “العدالة” وإعطاء كل ذي حق حقه.
النتيجة المستخلصة من الاستنطاق: فننتهي باستنطاق القرآن الكريم إلى أن المنهج الذي كتبه الله على نفسه في التعامل مع مخلوقاته جميعاً بما فيهم الإنسان هو: “منهج الرحمة”.
(24)
يرد فيما تقدم هذا التساؤل: 1- فإذا قلنا بأن المنهج الذي كتبه الله على نفسه هو “منهج الرحمة” فهل نستطيع أن نعتبره “الأصل الأولي” في تعاملات الباري جلت قدرته مع عباده والكائنات أم لا؟، 2- وهل يمكننا أن نقول أن الأصالة هي “أصالة الرحمة الإلهية” أم لا؟، ونرجع ونؤكد بأن الوقوف على الأصل الأولي الذي وضعه الله تبارك وتعالى لنفسه سيجري وبشكل طبيعي على رسله وفي كتبه، لتسلمينا بتبعية الانبياء والرسل والكتب لله تبارك وتعالى، ووفق ما رسمه لنا منهج الرؤية الطولية الهرمية، كما أن هذا من شانه أن يوقفنا على اللوازم لهذا الأصل الأولي إن شاء الله تعالى.
تأصيل الأصل الأولي: إننا لو نرجع إلى القرآن الكريم مرة أخرى فلن نجد ما جاء في سورة الأنعام مما كتبه الله على نفسه في آية أخرى أبداً، نعم هناك آية في سورة المجادلة تقول:” كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {المجادلة/21}، وهذا القضاء أيضاً قضاءٌ حتمي الحدوث، إلا أنها لم تقرنه بالنفس المقدسة جلت قدرته كما كان الحال في سورة الأنعام، وهذا القرن وعدمه من الطبيعي أن يؤثر في النتائج التي سوف تترتب على فهم الآيات المباركة، فلما أن يقول الباري سبحانه وتعالى:” كتب ربكم على نفسه الرحمة ” فإن دلالته تختلف عن قوله تعالى:”كتب الله لأغلبن أنا ورسلي”، فإضافة النفس الى ذاته المقدسة توحي بمجموعة من الدلالات، منها هذه الدلالات الثلاث: الدلالة الاولى: وجود عناية خاصة في الرحمة، إذ اختصت بالنفس المقدسة، الدلالة الثانية: أن الوسائط بين الذات المقدسة والرحمة الإلهية مرتفعة، الدلالة الثالثة: إذا بلغ الإنسان بأن الله تبارك وتعالى يمكن أن يسخط على العبد إذا ما ارتكب من أسباب وموجبات الغضب الإلهي فإنه لا ييأس من روح الله تعالى أبداً، لأن هناك رحمة قد كتبها الله تعالى على نفسه، وبهذه اللفتة القرآنية تجعل الإنسان في أملٍ دائم ٍمن ربه، وفي إقبال عليه سبحانه.
إذن .. ففي الآية الأولى يتبين وجود نحو من تأصيل لأمر الرحمة الإلهية في الوجود من خلال الذات وما كتبه المولى تبارك وتعالى على نفسه المباركة، وأما في الآية الكريمة في قوله تعالى:” كتب الله لأغلبن أنا ورسلي”، فلا يوجد هذا المعنى، نعم يوجد المعنى المشترك بينهما هو أن هذان القضاءان حتميان واقعان؛ إلا أنهما لا يشتركان في التأصيل، ولا يمكن أن يكونا معاً أصلان أوليان، وذلك لقرن الكتابة على النفس في الآية الأولى، وعدمها في الآية الثانية، وسيتبين الفرق بإذن الله تعالى خلال البحث بشكل أوضح وأجلى .. ولكن نقول هنا إجمالاً أن يمكن فهم المطلب هنا بما للفظ الجلالة من مظاهر وتجليات، وهذا لا شك لا يكون بمرتبة آية الرحمة التي نسبت الرحمة إلى “الذات المقدسة” مباشرة.
ولو نظرنا إلى ما جاء في سورة الأعراف الآية 156، في قوله تعالى:”وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ”، وما جاء في سورة غافر الآية ( 7 ) هو نفس المعنى قال تعالى:”الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا” فسننتهي فيها إلى نتيجةٍ واحدةٍ وهي: أن التأصيل الذي يسير وفقه القرآن الكريم هو:”للرحمة الإلهية”، وهذا يعني أن الأصل الأولي الذي ينهج المنهج الإلهي إليه في التعامل مع العباد هو: “الرحمة”، ويؤكد على هذا التأصيل ما جاء في الأخبار الشريفة: فقد ورد عن النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المنتجبين:”ما خلق الله من شئ إلا وقد خلق له ما يغلبه، وخلق رحمته تغلب غضبه”.
(25)
المحصلة النهائية .. “الرحمة” هي “الأصل الأولي”: فالمحصلة النهائية التي نستخلصها من إيراد الآيات والروايات الشريفة هي: أن المنهج الذي رسمه الله تبارك وتعالى بكتابته وإيجابه على نفسه هو منهج “الرحمة”، وبقانون ومبدأ السنخية والتناسب فإن كل ما سوف يتعامل الله تعالى به مع العباد سيكون منطلقاً من هذا المنهج، وهو يؤكد لنا استحالة الحيادة عنه، فبناء عليه ننتهي إلى أن الأصل الأولي الذي يعتمده الله تبارك وتعالى في هذه المسألة هو: “الرحمة”، فالأصالة هي “أصالة الرحمة” في الوجود.
إذن .. فكتاب الله تبارك وتعالى يصرح لنا بأن الله تبارك وتعالى لا يتعامل مع العباد إلا من منطلق “الرحمة”، ولازم هذا الأصل هو الرفق، والعطف، والحنان، والشفقة، والغفران، والتوبة، والإحسان، والسكينة، التجاوز، والبشارة، الأمن، السلم، السلام، اللطف، الهداية، التربية، سرعة الرضا، الحلم، الجود، الكرم، الرزق، الرأفة، النصح والنصيحة، والموعظة، والجدال الحسن، والإصلاح … إلخ من مظاهر الرحمة، وقد بين القرآن الكريم بأن هذه الرحمة التي يتعامل بها الله تعالى مع العباد ليست مختصة بالإنسان فقط بل أنها أصل في التعامل مع كل الكائنات على الإطلاق، قال تعالى:”وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ” {الأعراف/156}.
تساؤل حول ما إذا كان “الرسول” على نفس منهج “المرسِل” ورؤيته: وهنا يرد هذا التساؤل المهم: فبما أننا انتهينا إلى أن الأصل الأولي الذي يعتمده الله تعالى في تعامله مع سائر عباده ومنهم هذا الإنسان هو :”الرحمة”، وأن لهذا الأصل لوازم عديدة، فمنه سيرد هذا السؤال وبهذه الصيغة الاعتيادية التي لو طرح فإنه سيطرح بهذه الكيفية، ويصاغ بهذه الصيغة وهي: 1- هل أنبياء الله تعالى يعتمدون نفس منهجه سبحانه أم لا؟!!، 2- هل رسل الله تعالى يسيرون على ذات الأصل الأولي؟!!.
إلا أننا نجد ضرورة استبدال الصيغة بصياغة أخرى، لعلتين: الأولى: كي يُحافظ التسلسل الهرمي على نسقه ورتابته المنطقية، فإننا نجد أن طرح مثل تلكم الصيغة قفزة على التسلل الفكري المنطقي الذي يفرضه منطق البحث، وهو مشعر بجهوزية النتيجة قبل استكمال مقدماتها الضرورية، ومثل هذا العمل قد لا يقبله العقل ولا المنطق، وقد يمجه العقلاء، الثانية: إن ما تصنعه الصياغة من انطباع تبادري في الذهن يؤثر على تصور المطلب، ومنه تتأثر القناعة التي تُعتمد عادة في صناعة الرؤية المعرفية، وصناعة الإيديولوجية العقدية لدى المرء، وهو يفرز بطبيعته على السلوك تعاملاً نوعياً.
وأما الصياغة التي سنختارها هي الآتية: فبما أن الله تعالى بين من خلال كتابه العزيز بأنه لا يتعامل مع العباد إلا من منطلق الرحمة، فإن هذا الكتاب العزيز ليس كتاباً متجسداً كي يتمكن من ترجمة ذلك في العالم الخارجي، ويظهر هذه الرحمة الإلهية في العالم التطبيقي، وفي العالم الاجتماعي، وفي عالم الطبيعة، فضرورة ظهور هذه الرحمة في الحيز الوجودي أمر يفرض وجوده، فإن مجرد وجود كتابة غير كافية لأقناع المقابل بأن الله تبارك تعالى يعتمد المنهج الرحموي في تعاملاته مع العباد، فلابد من ترجمة هذه الحقيقة في الحيز الخارجي، 1- فكيف ترجمت هذه الحقيقة في العالم الخارجي؟!، 2- وكيف يمكن لهذه “الرسالة الإلهية” أن تتحقق في الحيز الاجتماعي؟!!، 3- وكيف يمكن لها أن تنزل إلى ساحة الإنسان لعلاج مشكلته الاجتماعية؟!!.
(26)
الأنبياء والرسل والمعتمد لديهم للأصل الأولي
لقد تبين بأن الله تبارك وتعالى قد كتب على نفسه الرحمة لعباده، وأنه سبحانه وتعالى قد قدم الرحمة على العذاب والنقمة، وقد طرحنا مجموعة من التساؤلات، وأجبنا عليها، والتي منها: 1- فهل أنبياءه سبحانه وتعالى ورسله سيكونون على نفس المنهج الإلهي أم لا؟!، 2- وهل كتبه سبحانه وتعالى ورسائله ستكون على نفس المنهج الإلهي أم لا؟!.
النماذج العملية للمنهج الإلهي: فبعد أن عرفنا بأن “الله” تبارك وتعالى قد كتب على نفسه الرحمة، نذكر الآن آيات قرآنية أخرى وهم تتضمن نفس هذا المعنى، وهي في سياقات عديدة، فمنها في سياق تعامل الله تعالى مع العباد وهو يتولون عنه ويعصونه، مع أن مقتضى فعلهم هو المعاملة بالمثل، إلا أن الله تبارك وتعالى لا يتعامل معهم على مبدأ المثلية أبداً، وستجد عزيز القارئ مظاهراً كثيرة من الآيات التي تتضمن مثل هذه المضامين العالية الجميلة، فإليك بعضها: قال تعالى:” بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الفاتحة/1} الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {الفاتحة/2} الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ “{الفاتحة/3}، وقال تعالى:” ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ” {البقرة/64}، وقال تعالى:” وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً “{النساء/83}، وقال تعالى:” فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا “{النساء/175}، وقال تعالى:” وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ “{الأنعام/133}.
فإذا كان “الله” تعالى قد كتب على نفسه التعامل وفق “منهج الرحمة”، وأن الأصل الأولي في التعامل مع العباد هو “الرحمة”؛ فسنجد تأثيره على من سيحتل موقع التمثيل للسماء، وبتعبير أدق .. من سيكون “خليفة الله” في أرضه، وهذا ما سوف نتعرف عليه بعد قليل إن شاء الله تعالى، فسوف نقوم بتقديم النماذج الواقعية التي وردت في القرآن الكريم وهي تؤكد على أن “الرسول” و “النبي” لا يخرجان عن المنهج الإلهي، ولا يعرفان غير المنهج المرسوم لهما من قبله سبحانه وتعالى، وهو ما يؤكد أن الأصل الأولي هو الحاكم على كل ما / من ينتمي إلى ساحة القدس الإلهية.
منهج رسل الله وأنبيائه: إن القرآن الكريم أكد أن “الأنبياء” و “الرسل” هم واسطة بين “الله” تعالى وبين “الخلق”، يخبرون عنه سبحانه، وينقلون أحكامه إلى العباد، وأن هذا الإخبار والنقل ليس كنقل “الرسول العرفي”؛ كلا، لإن العلاقة التي تربطهم بـ”المُرسِل” وبـ”الرسالة” علاقة وطيدة، ورابطة وجودية حقيقية لا اعتبارية – وكل هذا قد تقدم ذكره-، فبناء عليه .. فإن كل ما سيصدر عنهم سلام الله عليهم سيكون عاكساً للمنهج الإلهي، ولا يخالفه أبداً، وهكذا هو الحال بالنسبة إلى كتبه سبحانه وتعالى ..
إذن ننتهي إلى هذه النتيجة وهي: بما أن الله تبارك وتعالى يتعامل مع العباد وفق المنهج الرحماني، وبما أن أنبياءه ورسله سبحانه وتعالى وكتبه ترجمان لإرادته سبحانه وتعالى، إذن .. فإن الأنبياء والرسل والكتب كل منهم سيمشي وفق المنهج “الرحماني”، أي وفق هذا الأصل الأولي الذي رسمه الباري سبحانه وتعالى لنفسه، وقد تقدم ذكر هذا المطلب سابقاً.
(27)
استنطاق القرآن الكريم في معرفة الأصل الأولي المعتمد: ولإثبات هذه الحقيقة وهي “أصالة الرحمة” في منهج الأنبياء والرسل فلنستنطق القرآن الكريم، وفي السياق الاستنطاقي سنقسم الآيات القرآنية إلى أربعة أقسام أساسية وهي:
القسم الأول: المنهج الدستوري الذي تأسس عليه القرآن الكريم وبقية الكتب السماوية، فإن هناك مبادئ بقوة الأحكام الدستورية في القرآن الكريم، وهي مؤسسة من قبل الله تعالى، والتي عليها صبغة “كتب ربكم على نفسه”، وهي ثابتة، ولا تعرف في عالمها “الخُلف” أو “التخلف”.
القسم الثاني: ماهية “الرسالة” التي سلمت إلى “الرسول” وعلى ما بعث النبي به، وفي هذا القسم نجد أن ما ستكون عليه ماهية الرسالة، وبما سيبعث عليه الرسول الإلهي سوف لن يحيد عن ذلك المبدئ الدستوري الأزلي الثابت.
القسم الثالث: تكوين شخصية النبي والرسول؛ وهذا سيجرنا الى البحث في القسم الرابع إن شاء الله تعالى، فإن تكوين شخصية “النبي” أو “الرسول” ينبغي أن يكون وفق متطلبات المنهج الدستوري الأزلي الثابت، ولا يحيد عنه قيد أنملة، وإلا لوقع ما يمكن أن يطلق عليه بــ”الخلف”،.
القسم الرابع: تكوين شخصية أهل الدعوة والتبليغ وأتباع الرسالات السماوية وأصحاب خلفاء الله تعالى، ويمكن تصور هذا القسم الرابع بتصورين أساسيين، وهما: التصور الأول: ما ينبغي أن يكون عليه داعي الله تعالى، التصور الثاني: ما هو كائن اليوم من حال الداعية في دعوته إلى الله تعالى.
فبناء على هذا التقسيم المتقدم، سنتحدث عن كل قسم وبشكل مختصر إن شاء الله تعالى، وسنبدأ بالكتب السماوية ومنهجيتها، والذي نريده هنا هو إثبات أن ما في الكتب السماوية هو عين ما عليه البناء الذاتي الذي بنى الله تبارك وتعالى ذاته عليها، وإليك بعض الآيات المباركة:
توراة النبي موسى عليه السلام: قال تعالى :” ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ “{الأنعام/154}.
إنجيل النبي عيسى عليه السلام: قال تعالى : ” وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ” {الزخرف/63}
قرآن النبي محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين: وقال تعالى مخاطباً لنبيه الأكرم محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين:” قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “{الأعراف/203}.
القسم الثاني: آيات في ماهية “الرسالة” التي سلمت إلى “الرسول” وعلى ما بعث “النبي”.
والآن لنتحدث في القسم الثاني، أي عن ماهية الرسالة السماوية التي كلف الانبياء والرسل بتبليغها وإيصالها من الله تبارك وتعالى إلى الناس، فسيتبين أن الرسالة السماوية لا تحوي سوى الرحمة ومظاهرها، وإذا كان هناك ما يحمل من لغة الشدة، بحيث قد تفهم وتفسر بالتهديد؛ فهذا ليس إلا بيانٌ لواقع حال الفعل، ونتيجة العمل، حسبما النظام الأحسن عليه، ويكفي ذكر الأنموذج القرآني، قال تعالى:” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ {الدخان/3} فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ {الدخان/4} أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ {الدخان/5} رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” {الدخان/6}.
القسم الأول: آيات المنهج الدستوري الذي تأسس عليه القرآن الكريم وبقية الكتب السماوية.
إن الكتب السماوية لا يمكنها أن تكون في طرف وإرادة الله تعالى في طرف آخر، فهو أمر محال، والكتب السماوية تحكي عن الله تعالى، وتبين إرادته سبحانه، وتظهر جلاله وجماله، وإليك بعض هذه النماذج التي جاء ذكرها في القرآن الكريم:
(28)
القسم الثالث: آيات في بيان تكوين شخصية النبي والرسول، والآن لنتحدث عن القسم الثالث وهو: تكوين الشخصية التي عليها شخصية الأنبياء والرسل، فقد جاء في حق النبي عيسى عليه السلام فقال تعالى:” قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ” {مريم/21}، وقال عن وليه الذي نعته القرآن الكريم بالعبد في قصة النبي موسى عليه السلام، فقال تعالى:” فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا “{الكهف/65}، وقال في حق النبي صالح عليه السلام:” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ “{هود/63}، وقال تعالى في حق نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين:” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ” {الأنبياء/107}.
القسم الرابع: تكوين شخصية أهل الدعوة والتبليغ وأتباع الرسالات السماوية وأصحاب خلفاء الله تعالى، فإننا نجد القرآن الكريم حينما يتحدث عن التربية الإيمانية التي كان يتحلى بها أتباع الرسالة السماوية يصفهم بأنهم لا يفارقون المنهج الإلهي الذي تربوا عليه، فإذا بهم يمشون عليه بكل مضامينه، فهذا هو القرآن الكريم وهو يتحدث عن أصحاب الكهف الذين خرجوا من قريتهم أو مدينتهم، فإن القرآن الكريم يبين بأنهم إنما خرجوا طالبين للأمان وللسلم وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بالرحمة، قال تعالى: ” ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً “.{الحديد/27}.
النتيجة المستخلصة من استنطاق القرآن الكريم: فبملاحظة الآيات القرآنية سننتهي إلى نتيجةٍ مهمةٍ جداً وهي: أن الأصالة التي اعتمدها القرآن الكريم في تعامله مع العباد لم تكن سوى :الرحمة: ولغة “السلم”، ولم يكن منطق التشنج والعنف والحرب والقتال والحروب هو الأصل الأولي لديه، وبما أن “النبي” و “الرسول” ليست لديه أجندة مغايرة عن القرآن الكريم، ولا عن المنهج الإلهي؛ فإن الأصل الأولي الذي يعتمده هو عين ما أعتمده القرآن الكريم، وما فيهما هو عين ما كتبه الله تعالى على نفسه.
ومن هنا ينبغي على المسلم الباحث إذا أراد ان يفهم فلسفة المعركة والحرب في الإسلام أن يدرس أولاً وقبل كل شئ المبنى الذي يعتمده الإسلام، وما هو الأصل الأولي الذي يراه، فسيتبين له أنه هو ليس إلا “الرحمة”، وكل ما يتعلق بها من المظاهر واللوازم، حينها سينتهي الى نتائج مختلفة عما لو انطلق إلى دراسة تاريخ الأنبياء والرسل وجعل الأصل الأولي هو القتال والحروب، بل ولن أعدوا الحقيقة إن قلت بأن أي إنسان إذا انطلق في دراسته للإسلام والقرآن والنبي على النحو الثاني فإن النتائج التي سوف تتنتهي به إلى طريق مسدود في فهم المنهج السماوي، ولن أكون مبالغاً إن قلت أنها ستقوده إلى فهم متناقض لشخصياته ومفاهميه، وإلى فهم سلبي عنه، وهو أمر طبيعي لمسلك هكذا هو منهجه ورؤيته، بكعس ما لو انطلاق من مبنى “الرحمة” التي هي ليست إلا “الاصل الاولي”، ففي هذه الحالة سيدرس كل ما سيقع تحت نظره وفكره وتدبره وتفسيره واستلهامه، من آيات وسيرة وقصص وكلمات وخطب ومواقف وسلوك، على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو الطبيعي؛ فإنها ستظلل بظلال الأصل الأولي، فبعينها سينظر إليها، وبروحها سيشاهدها، وبفكرها سيحيط بها، فحينئذٍ .. سيفهم كل ما في الإسلام بطريقةٍ مختلفةٍ تماماً.
فلا بد من الرجوع الى البناء القرآني ككله لنظر إلى أجزاء بياناته، وليس فقط إلى بعض الآيات الكريمة، فإن النظرة الشمولية إلى القرآن الكريم، والانطلاقة من أصلٍ أوليٍ؛ سيساعد في فهم الآيات القرآنية كثيراً جداً، بل وسيساعد على فهو القرآن الكريم كله، وإني على يقين فإن قراءة القرآن الكريم ستختلف تماماً.
(29)
رسول الله محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين تحت مجهر المنهج الإلهي: لو رجعنا إلى قصص القرآن الكريم والتي تتحدث عن الأنبياء عليهم السلام لوجدنا أنها تؤصل المنهج الإلهي في التعامل مع العباد، ورسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ليس بدعاً من الرسل، فهو ينتمي إلى اسرة واحدة، وإلى فريق عمل واحد، لا يخرج عن الإطار الذي رسمه لهم المُرسِل، فإليك النبي موسى عليه السلام أنموذجاً، قال تعالى:” اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى “{النازعات/17} فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى {النازعات/18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى”{النازعات/19}، فهذا هو المبنى العام الذي مشى عليه جميع الأنبياء والرسل والأوصياء.
ورسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين لم يختلف عما كان عليه سائر الأنبياء والرسل، فهو كما قال الله تعالى فيه:” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ “{الأنبياء/107}، وورد عنه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين:” أنا أديب الله”، ” أيها الناس إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ”، وطبيعة الرحمة المحمدية هي تجلٍ للرحمة الإلهي لا تخلف فيها ولا خُلف، وعلى حد تعبير علماء الحكمة والمعرفة فإن رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين مرآة لأسماء الله وصفاته، وبما أن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، ومشى عليها سائر الأنبياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين يمشي على ذات المنهج والدرب.
يبقى الكلام فيما ورد في التاريخ، فنقول وباختصار جداً، أولاً: إن ما خاضه رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين من الحروب لم تكن استباقية ولا ابتدائية بل كانت دفاعية، والدليل أن جميع الحروب كانت هجوماً عليه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتبجين في دار هجرته، ولم يسجل التاريخ أنه هجم على قريش في دارهم، ثانياً: لو رجعنا إلى سيرته المباركة سنجد ما يؤكد على شخصيته التي لم تتغير عما كانت عليه قبل البعثة وما بعد البعثة، فهي هي في كامل أخلاقها وسمو روحها وحسن معاملتها وعظيم رحمتها، فقد كان الشخصية البارزة في حلف الفضول، وكان هو من أوقف خلافاً أوشك أن يصل إلى الدم في موضوع وضع حجر الأسود في مكانه، وهو من كانت قريش ترجع إليه للمحاكمة والقضاء والفصل، وهو من تحمل ما تحمل في سبيل الدعوة الإسلامية في مكة من الصعاب والأذية ولم يبادلهم بالسوء أبداً، وعندما هاجر إلى المدينة المنورة عقد صلحاً مع أهل الكتاب، ولم يبادلهم بالأذية ولا بالحروب والفتن، ولما خرج لاعتراض قافلة مكة لاسترداد الحقوق التي نهبت فيها ما خرج محارباً أبداً، نعم قريش خرجت لإبادته، ولكن الله تعالى قلب الطاولة عليهم، وما كان صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنجبين يجبر أحداً للخروج معه إلى الدفاع، وعند فتح مكة ما قام بإبادة أعدائه كما يصنعه الكثير من الأعداء، بل حررهم فقال ما ورد عنه:”إذهبوا فأنتم الطلقاء”.
لقد حاولت الأيدي المغرضة وحاول الأعداء وساعدهم الجهال على تشويه صورة رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وما تزال تلك المحاولات مستمرة إلا أن الشمس تبقى ساطعة على رغم المعاندين وتشع بأشعتها الوضاءة لتنير درب المستضعفين، وترفع من شأنهم عزة ورفعة، ليصبحوا أحراراً في دنياهم، وأعزة في دينهم.
إن رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين التجلي الأعظم لله تعالى، ولهذا كان لزاماً الدخول إلى شخصيته المباركة للتعرف على ما تحويه من معارف إلهية عظيمة، والتعرف على ما كان يهدفه في حياته وفيما صنعه، وخلاصة القول: إنه جاء لأجل تحقيق التوحيد في الحياة، ليس توحيداً نظرياً بل التوحيد العملي، التوحيد التحققي، ليصبح كل إنسان يسعى ليتحقق باسم من أسماء الله تعالى، فهذا هو المشروع الإلهي العظيم الذي كان يحمله رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
(30)
التجلي الأعظم
إن رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين مرآة الله تعالى، وهو التجلي الأعظم، ومن أهم ما يعكسه هو صفة الرحمة الإلهية”، ومن كان هكذا فإن صدور تصرفات على خلاف تلك الرحمة يكون أمراً غير ممكن، بل وكما أثبت في محله في علم النفس الفلسفي يكون أمراً من المستحيلات الذاتية القطعية، والقرآن الكريم أكد على هذه الحقيقة في آياته وسوره، من قبيل عندما نعت رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين بــ” إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” {الزخرف/43}، وهذا الوصف يدل على أن صراطية الرسول صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين صراطية التحقق والاتحاد، وهو الذي يعرف في وسط الحكماء باتحاد الصفة والموصوف.
إن مثل هذه الأبحاث والمسائل تفتح لنا بعداً جديداً في القرآن الكريم حول ما جاء عن هذه الشخصية العملاقة العظيمة وهو رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، فإن هذا يدعونا إلى البحث عن الآيات التي صبغها “المحكمات” فنبحث عن “المحكمات المحمدية”، فإذا تعرفنا عليها جيداً فعندئذ ستكشف لنا “المتشابهات المحمدية”، ومن هنا نستطيع أن دفع التوهمات والشبهات التي يقع في شباكها الكثير، وتلك المحكمات سوف توقفنا على الأصل الأولي الذي ينبغي التعامل عليه مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
وهذا البحث بطبيعته سوف يظلل بظلاله على سيرته وتاريخه وما ورد عنه، فإن التعامل مع شخصيته المباركة قد فقد عند الكثيرين البوصلة الصحيحة، فلم ينطلق من خلال المحكمات والأصول الموضوعية الأولية، وهذا بطبيعة الحال سوف يوقعه بالاشتباهات والأخطاء، وسوف لن يتمكن من معرفة المتشابهات والمحكمات، فضلاً عن عدم قدرته على التمييز بين الوارد وبين الموضوع.
وختاماً ينبغي أن يكون المرء واعياً عند دخوله إلى ساحة معرفة النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين للأصول الموضوعية وللمحكمات، فالتثبت منها، والتحقق بها سوف يوضعه على ما لاقته هذه الشخصية الإلهية من الظلامات في كل شيء تعلق بها، فحورب صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين في كل شيء، في زوجاته، وفي آبائه، وفي أسرته، وفي ذريته، وفي أصحابه، وفي رسالته، وفي نبوته، وفي الدين الذي كلف صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين بحمله ونشره بين العباد، فلا تكاد تجد شيئاً يمت إلى إليه بصلة إلى وتجد العدو قد حمل أدوات حقده وحسده وبغضه ليفتك به، وما زالت هذه الحرب مستعرة، ونجدها في أولئك الذين جندوا الاجناد ونسبوهم إلى الدين الإسلامي وفعلوا في الدين الأفاعيل، فاخترعوا الفتاوى، ونسبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين أموراً ومسائل ما أنزل الله بها من سلطان، وعمدوا إلى صناعة شخصيات تتكلم باسم الدين، وتفتي باسم النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وتسلك مسالك الظلمة والفراعنة باسم الله تعالى، كل هذا لأجل إبعاد الناس عن الدين الإسلامي، وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، إلا أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، والشمس لا يحجبها السحاب، والكذاب قد كتب عليه أن يفضح نفسه، وهذا ما حدث وما يحدث، وعلى المسلمين أن يكونوا حقاً دعاة رساليين بالمنهج الإلهي المحمدي، فيدحضوا الباطل بسلوكه قبل قولهم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.