د. فاطمة محمد اللواتي* التكوين
التاريخ: عشرةُ أيامٍ بعد اكتشاف أول حالات الكورونا في السلطنة..
اليوم: الخميس..
دخلتُ الى غرفة المناوبة التي لا يتجاوز طولها بضعة أمتار بعد يومٍ مضنٍ وطويلٍ جداً.. كانت إحدى المناوبَات الشاقة على النفس.. تلك المناوبَات التي أصل فيها لمرحلة الجوع والعطش واللاوقت لإشباعهما..
أمسكتُ بأقرب جدارٍ لأتكئ عليه وأصمد قليلاً، راجيةً من رأسي أن يتوقف عن دورانه.. وأستمرّ بعدها لإكمال المناوبة بسلام..
قلت: الحمدلله هدأ كل شئ..
فتحتُ قائمة الإحالات الطبية إلى قسم الباطنية لأتأكد من تصفيرها.. لا يوجد إحالة جديدة إليّ.. حسناً سأصلي العشاء وأسترخي قليلا ً..
وفجأة: رنّ “بليب المناوبة”
تلك الرّنة المفزعة، التي أكاد أجزم أنْ لا طبيبَ إلاّ وراودته في أحلام اليقظة وأحلام النصف منامْ كالكابوسِ الجاثم، خصوصاً في بدايات سنة الإمتياز أو التخصص..
أردّ على الهاتف وإذا به قسم العناية المركزة، يأتيني الصوت الخافت بنبرةِ تردد: دكتورة لدينا مريضةٌ في الستين من عمرها، دقّات قلبها متسارعةٌ جداً، هل لكِ أن تأتي؟
أدخلتُ الهاتف في جيبي، أخذت قنينةَ الماء، لففتُ سمّاعتي حول رقبتي، وخرجتُ وأنا أردد: حسناً ، السهرة صبّاحي!!
وصلتُ إلى المريضة مباشرةً، علمتُ من الطبيبة التي تُباشرها أنها دخلت اليوم عن طريق الطوارئ.. جاءت بنزيفٍ في الدماغ، ونزولٍ في منسوب الوعي مع نزول في الأوكسجين مما اضطرّهم الى إدخال أنبوب التنفس الصناعي..
اقتربتُ من المريضة التي كانت غائبةً عن الوعي بسبب أدوية التخدير التي أُعطيت إياها..
فحصتها اكلينيكياً من رأسها إلى أخمص قدميها ، وقرأت معدّل المؤشرات الحيوية، وبدأت أفكّر وأستجمع قوايَ الطبية كي أضع في مخيلتي مجموعة التشخيصات المحتملة للحالة..
بعدها طلبت الأهل لأسمعَ منهم التاريخ المرضيْ . وكأي روتينْ أمسكتُ بجهاز الحاسوب وبدأت أدوّن نتائج الفحوصات في قصاصتي الورقية، وأقرأ أشعة الصدر التي اجتاحتها تغيّراتٍ أصابت الرئتينْ..
وأنا بين زخمِ شاشة الحاسوب، ووريقتي الصغيرة، أحاول استجماع أفكاري ولملمتها.
ابتلعتُ ريقي وأخذتُ جرعةً من الماء وشهقتْ: كوفيد!!
نعمْ، كل المؤشرات تدلّ على أن لديها إلتهابٌ صدريّ ڤيروسي.. وبما أننا في خضمّ هذه الجائحة، فهو أول ما يتبادر للذهن ويجب أن أفكّر به..
بدأتها بالعلاجات المناسبة بعد أن أخبرتُ الطاقم التمريضي بضرورة نقلها إلى غرفة العزل، وإرسال عيّنة الڤايروسات للمختبر .
عدتُ إلى البيت صباحاً أجرّ جسدي متثاقلةً، بعد أربعٍ وعشرين ساعة من العمل المتواصل..
مرّت ثلاثة أيّام على تلك الحادثة، كأيامٍ عاديّة.. في اليوم الرابع: استيقظت من النوم على ألمٍ شديدٍ في البلعوم، وبعضٍ من حمى..
لمّعتُ دمعةً صارخةً من مقلتيّ!! ما عساني أفعل.. حملتُ نفسي دون علم أحد لأقرب مركزٍ صحيّ.. وأُخذتْ مني العيّنة!! واجبي الوطني حتم عليّ ذلك .
عدتُ إلى البيت، ليستقبلني طفلي الصغير كعادته ليرتمي بأحضاني، أبعدته عني وهربتُ إلى غرفتي وهو متسمّرٌ مكانه متعجباً من فعلتي.. أعلم أننا جميعاً رأينا هذا المشهد متكرراً في وسائل التواصل الإجتماعي، ولكن أن يحدثَ لك ومعك فوصفهُ أبعدُ من أيّ خيال..
بقيتُ حبيسة غرفتي منذ تلك اللحظة، أسمع بكاء طفلي بحثاً عني.. يطرق الباب ولا سبيل لتحقيق مناه ومرّت الدقائقُ بطيئة متثاقلة ،،
أفكاري أخذتْ في الإحتشاد.. لمتُ نفسي كثيراً لأنني لم أتخذ الإجراءات اللازمة ولم ألبس الملابس الواقية عند فحص تلك المريضة.. لأنني في البداية لم أتوقع الاشتباه بكوفيد ١٩ ..
كان جُلّ همّي إذا أُصبتُ بالمرض، أنْ لا أكون نقلته لمن هم حولي خصوصاً طفلي الصغير..
كلّ الأفكار السلبية تراكمت على مخيّلتني وحرمتني النوم.. كنت أنظر تارةً إلى الجدار والى هاتفي أخرى، ولا شئ آخر!!
أحكمتُ يديَّ حول أذني محاولةً التملص من تلك الأصوات الصارخة في فكري..
مرّت الدقائق والساعات، بل والأيام مخيفة ككهفٍ موحشْ يتمنى المرء أن يصلَ لنهايته ولا يستطيع، حتى جاءني الإتصالْ: أخذت الهاتف برجفة ويداي ترتعشان حتى كاد أن يسقط منهما: الدكتورة فاطمة، نتيجتكِ سلبية..
حينها علمتُ بأنّ مريضتي كانت تُعاني من ڤيروسٍ آخر أطاحَ برئتيها، شبيه بالكوڤيد وليس هو..
أحسست أنّ الأرض تتراقص من تحتي، خرجتُ من غرفتي بكلّ ما أوتيتُ من سعادة، لأحتضن طفلي ومقلتاي تنزفانِ حباً، وقلبي يلهج شكراً..
وبعد هذه الحادثة، أصبحتُ أكثر حذراً، وأكثرَ ثقةً بأن لن يصيبنا إلاّ خيرا..
النهاية: لمنْ التزمَ بحجره الصحيّ بعد عودته من السفر، ولمن التزم بالبقاء في منزله، ولكلّ مواطنٍ قدّر هذا الجهد: كلّنا خطّ دفاعٍ أولْ.. فلنكن بحجم الثقة..
*طبيبة باطنية