حيدر بن عبدالرضا اللواتي – عُمان
[email protected] –
أبدى عاهل البلاد جلالة السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله ورعاه- في أول خطاب له بعد أربعينية الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- اهتماما كبيرا بالعديد من القضايا التي تتطلب الوقوف عليها للمرحلة الجديدة للنهضة العمانية، ومنها الوقوف على القضايا المالية للدولة. فقد أشار جلالته في خطابه السامي إلى حرص الحكومة على توجيه الموارد المالية التوجيه الأمثل، بما يضمن خفض المديونية وزيادة الدخل، بجانب توجيه الحكومة بكافة قطاعاتها لانتهاج إدارة كفؤة وفاعلة، بهدف تحقيق التوازن المالي، وتعزيز التنويع الاقتصادي، واستدامة الاقتصاد الوطني، في أعلى سُلّم أولوياتها.
إن موضوع الدين العام أصبح اليوم يؤرق كاهل الكثير من الدول والمجتمعات، خاصة الدول العربية النفطية في ضوء التحديات الناجمة عن تراجع أسعار النفط العالمية منذ بداية عام 2014، مع غياب أو تضاءل سياسات التنويع الاقتصادي. فهذه الظروف الاقتصادية العصيبة اضطرت الكثير من الدول التوجه نحو الاستدانة ومنها السلطنة التي توجهت نحو الاقتراض الداخلي والخارجي خلال السنوات الخمس الماضية.
ونتيجة لاعتمادنا على النفط بصورة كبيرة، فإن إيرادات هذا القطاع ما زالت تمثّل حوالي 74% من الإيردات الكلية للسلطنة، في الوقت الذي يتم فيه تسجيل عجز سنوي في الموازنة المالية لمواجهة الالتزامات المصرفية السنوية، وبالتالي التوجه نحو الاقتراض والاستدانة من الداخل والخارج لمقابلة هذه الالتزامات، الأمر الذي يؤدي أيضا إلى ارتفاع المديونية وخدمتها (الفوائد). ففي موازنة العام الماضي 2019 اعتمدت الحكومة مبلغ 630 مليون ريال عماني لخدمة الدين الخارجي، فيما اعتمدت في موازنة العام الحالي 860 مليون ريال لهذه الخدمة بنسبة زيادة تقدّر بنحو 36.5% خلال عام واحد، وفق البيانات الصادرة عن الميزانية العامة للسلطنة لعام 2020.
كما أنه بمراجعة أرقام الدين الخارجي خلال السنوات الخمس الماضية، نجد أن المبلغ الإجمالي للديون العمانية ارتفعت من 1.4 مليار ريال عماني في عام 2014 (500 مليون ريال للدين الخارجي و900 مليون ريال للدين المحلي) إلى 3.6 مليار ريال في عام 2015 (900 مليون ريال للدين الخارجي و2.5 مليار ريال للدين المحلي). واستمر في عام 2016 ليصل إلى 7.5 مليار ريال (4.7 مليار ريال للدين الخارجي و2.8 مليار ريال للدين المحلي)، وواصل ارتفاعه ليصل في عام 2017 ليصل إلى 12.3 مليار ريال (8.8 مليار ريال للدين الخارجي و3.5 مليار ريال للدين المحلي)، وفي عام 2018 بلغ الدين نحو 14.7 مليار ريال (11.8 مليار ريال عبارة عن الدين الخارجي و2.9 مليار ريال للدين المحلي). أما في عام 2019 فقد بلغ الدين العام نحو 16.6 مليار ريال منها (13.4 للدين الخارجي و3.1 مليار ريال للدين المحلي)، حيث يشكّل الدين الخارجي حاليا ما نسبته 77% من إجمالي الدين العام وفق بيانات وزارة المالية والمجلس الأعلى للتخطيط.
لقد تضاعفت الديون السيادية للبلاد خلال السنوات الماضية، الأمر الذي يشكّل تحديا كبيرا ويتطلب النظر إليه بكل حذر، فالدين العام للسلطنة يزيد عن 55% للناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة لعام 2019م، الأمر الذي يتطلب تعزيز سياسات التنويع الاقتصادي وضرورة الإرشاد في النفقات بقدر الإمكان، مع الاستمرار في إنماء القطاعات غير النفطية وتعزيز العلاقات التجارية مع العالم للاستفادة من تجاربهم في تنمية تلك القطاعات.
ورغم أن توقعات معظم المؤسسات الدولية للتقييم المالي العالمي مثل الوكالة الدولية للطاقة، وبلومبرج، وفتش، والبنك الدولي، وستاندر اند بورز، وفيور ماركت، تشير إلى أن أسعار النفط العالمية (خام برنت) سوف تترواح ما بين 60 إلى 66 دولارا للبرميل خلال العام الحالي 2020، إلا أن هذه التوقعات تبدو اليوم مغايرة في ضوء انتشار وباء فيروس كورونا الذي يؤدى بأسعار النفط إلى التراجع إلى أقل من 50 دولاراً للبرميل، الأمر الذي يشكّل تحدياً جديداً للدول النفطية من جهة، وسيعمل على تصاعد مديونياتها من جهة أخرى. وهذا ما يجب إدراكه هنا في ضوء التوجيهات السامية لجلالته.
فالحكومة اعتمدت مبلغ 58 دولارا للبرميل في موازنة العام الحالي نتيجة لمتوسط أسعار النفط للعام الماضي 2019، حيث بلغ المتوسط 65 دولارا للبرميل بواقع زيادة 12%، وبالتالي فان إيرادات النفط الفعلية لعام 2019 بلغت حوالي 6.1 مليار ريال عماني، فيما كانت معتمدة 5.465 مليار ريال في بداية السنة الماضية، أي أن الزيادة في إيرادات النفط بلغت 635 مليون ريال. كما كانت هناك زيادة في إيرادات الغاز بنسبة 1% لتصل إلى 2 مليار ريال. والأمر الجيد أن الإيرادات غير النفطية سجلت هي الأخرى زيادة بنسبة 13% خلال العام 2019 وبلغت 3 مليارات ريال عماني، فيما كانت معتمدة 2.655 مليار ريال في بداية الموازنة للعام الماضي، وبلغت الزيادة 345 مليون ريال. ولكن مقابل ذلك ارتفع حجم الإنفاق الإجمالي للسلطنة في العام الماضي بنسبة 6%، حيث كان المقدّر 12.9 مليار ريال عماني، إلا أنه زاد ليصل إلى 13.7 مليار ريال بزيادة 800 مليون ريال عماني بسبب الزيادة في جميع البنود رغم بيانات الحكومة بالإقلال من المصروفات.
وبالتالي فإن الديون السيادية وخدمتها سوف تشكّل تحديا كبيرا للحكومة خلال السنوات المقبلة إذا لم تتخذ الإجراءات المناسبة في العمل الحكومي. وقد أشارت الحكومة في بيانها المالي للعام الحالي إلى أنها تعمل منذ عام 2014 على مجابهة هذه التحديات المالية التي تؤدي إلى انخفاض في الاحتياطات، وارتفاع العجز التراكمي، والدين العام، بجانب تراجع القدرة الائتمانية للبلاد وعدم الاستقرار في الميزان التجاري. وأمام ذلك نجد أن العجز التراكمي للسلطنة خلال السنوات الخمس الماضية سجّل هو الآخر زيادة بحيث ارتفع من 1.1 مليار ريال في عام 2014 إلى 5.7 مليار ريال في عام 2015، ثم إلى 10.9 مليار في عام 2016، وواصل ارتفاعه ليصل إلى 14.7 مليار ريال في عام 2017 ثم إلى 17.6 مليار ريال في عام 2018، ليصل العجز التراكمي في عام 2019 إلى 20.4 مليار ريال، إلا أن العجز السنوي للسلطنة بدأ يتراجع من 5.3 مليار ريال عماني في عام 2016 إلى 2.6 مليار ريال في عام 2019، وهذا ما يجب العمل به لخفض المزيد من العجز كل عام.
ويتطلب اليوم في ضوء التوجيهات السامية لجلالته- حفظه الله- بأن تتعامل الحكومة بكل حذر وشفافية مع هذه القضية، وتتخذ القرارات والإجراءات المناسبة التي يمكن أن تحد من وطأة الديون وخفضها وزيادة الدخل، واستحداث الأدوات التمويلية الجيدة لخفض العجز. والكل يضع يده في يد الحكومة بهدف تكثيف برامج التنويع الاقتصادي وتعزيز دور الشركات والمؤسسات الوطنية في القطاع الخاص بجانب مراجعة وتخفيض برامج الإنفاق العام، وخاصة الإنفاق الجاري، والمضي في تخصيص بعض الشركات الحكومية، التي أشار إليها جلالة السلطان بضرورة مراجعة أعمالها مراجعة شاملة بهدف تطوير أدائها ورفع كفاءتها وتمكينها من الإسهام الفاعل في المنظومة الاقتصادية. كما تتطلب المرحلة المقبلة تعزيز الإيرادات غير النفطية، والعمل على توفير بيئة استثمارية محفزة وجاذبة لاستثمارات القطاع الخاص، وتشجيع الشراكة بين القطاع العام والخاص.
المرحلة المقبلة تتطلب أيضا الحد من ارتفاع الدين العام وعدم تجاور السقف المحدد وإصدار القانون بهذا الشأن، بجانب التأكيد على ضرورة تطبيق إجراءات ترشيد الإنفاق، وإعادة ترتيب الأولويات بما ينسجم مع الموارد المالية المتاحة، بالإضافة إلى استمرار التحوط في احتساب سعر النفط لتقدير الإيرادات النفطية، وتوسيع مشاركة القطاع الخاص وتعزيز دوره، بالإضافة إلى رفع التصنيف الائتماني للسلطنة، وتنمية الإيرادات غير النفطية، مع العمل على تعزيز أداء المؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة، ومواصلة الدعم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. وهذه جميعها تمثّل الأسس القوية لتحفيز الاقتصاد الوطني وتعزيز مشروعات البنية الأساسية، وتعزيز استثمارات الشركات الحكومية، وتحسين بيئة الأعمال لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية التي يمكن خدمة الأهداف الاقتصادية والاجتماعية.