حيدر بن عبدالرضا اللواتي – عُمان
[email protected]
الكثير من الساسة والاقتصاديين والمصرفيين يذهبون من الدنيا دون أن يؤرخوا الأحداث التي واجهتهم في مسيرتهم الحياتية، وتلك التي تتحدث عن حياتهم وتجاربهم وأنشطتهم وإنجازاتهم أثناء فترة عملهم. فمعروف عن هؤلاء أنهم بحكم مسؤولياتهم يدخلون في مشاريع ومبادرات وأعمال يومية متواصلة، الأمر الذي يؤدي إلى نسيان فكرة تأريخ تلك الأحداث والتحديات التي واجهتهم في الحياة، نظرا لقلة ما لديهم من الوقت الذي يمكن القيام بها في إعداد أو إجراء بحث علمي أو كتابة سيرتهم الذاتية والأعمال والخدمات التي قدموها لمجتمعهم سواء بشكل شخصي أو من خلال المؤسسات التي ترأسوا مجالس إداراتها.
ولكن من بين هؤلاء الأشخاص الذين نجحوا في جمع وتأريخ وتقديم تلك الأعمال والإنجازات من خلال كتاب علمي رصين يرصد جميع التجارب والأنشطة والأحداث التي عاصرها أثناء فترة عمله طوال الـ57 عاما، هو الأستاذ/ عبد القادر عسقلان الرئيس التنفيذي السابق لبنك عمان العربي، والرجل المصرفي الذي دخل عالم المصارف في مقتبل عمره وهو في السن العشرين، وتركه بعد ستة عقود متواصلة من عمل مضن ومتواصل بدءا بمتدرب مصرفي ومرورا بمختلف الإدارات، ليحتل لاحقاً مراتب مرموقة في بنك عربي أسس في وقت كانت السيطرة فيه للمؤسسات المالية والمصرفية الأجنبية التي لم تحبذ أن ترى مؤسسة مصرفية عربية تأتي لتتنافس معهم في العمل المصرفي والمالي.
من خلال كتابه القيم “عبد القادر عسقلان… مسيرة من الإنجاز والعطاء” يتناول المؤلف أهم أحداث مسيرته التي بدأها من مسقط رأسه مدينة “نابلس” الفلسطينية ليحط بها الرحال إلى “مسقط” عاصمة السلطنة، حيث بدأ عمله كموظف متدرب بالبنك العربي الذي أسسه المرحوم عبدالمجيد شومان ليحتل لاحقا مراكز عديدة، ويصبح عضواً بمجلس الإدارة المنتدب في (بنك عُمان العربي) الذي كان فرعاً (للبنك العربي) في بداية الأمر. المؤلف يشير بأنه عمل بمدينة نابلس لفترة معينة ثم انتقل إلى مدينة عدن اليمنية إبان الثورة على البريطانيين، ثم إلى رأس الخيمة بدولة الإمارات العربية المتحدة وأخيراً إلى مسقط الفتية التي وصل إليها مع عائلته في بدايات عهد النهضة المباركة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه وكان ذلك في عام 1973، حيث لم يكن في السلطنة أي بنك عربي أو محلي باستثناء البنك البريطاني.
ويتحدث الكاتب في مقدمة الكتاب عن حدثين كان لهما أثر كبير في حياته المصرفية، أولهما في مدينة عدن في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، حيث كان فرع البنك العربي هو الوحيد بين حيتان المصارف العالمية القابضة، وقد بادر عند عمله بفتح اعتمادات مستندية للتجار اليمنيين لاستيراد المواد الغذائية، بعد أن امتنعت كافة البنوك الأجنبية عن ذلك إبان الثورة على البريطانيين، وذلك لعدم رغبة البنوك الأجنبية في زيادة التزاماتها الخارجية، وثانياً لشد الخناق على الثورة ووأدها في المهد، مما كان سيؤدي إلى منع المواد الغذائية الأساسية عن المواطنين لولا وجود البنك العربي. أما الحدث الآخر والجريء في رأيه هو نجاحه في إقناع إدارة البنك العربي في العاصمة الأردنية “عمّان” بضرورة تقديم قرض للحكومة العمانية قدره 50 مليون دولار لتأمين بعض التزاماتها تجاه مشاريع البنية الأساسية التي كانت تنفذها السلطنة في بداية فترة السبعينيات من القرن الماضي، بعدما أقدمت المؤسسات المالية التي كانت تدار من قبل الأجانب على وضع الحكومة العمانية في وضع صعب ومحرج للغاية إثر قيام السلطنة في حينه بتشكيل أول مجلس لإدارة الشؤون المالية في البلاد كخطوة أولى على طريق تحقيق الاستقلال الاقتصادي.
ويتناول الكتاب العديد من الأحداث التي شهدها المؤلف في مسيرته المهنية وحياته الشخصية والعائلية وذكرياته في نابلس التي شهدت ولادته في 24 يونيو عام 1937، والتحديات التي واجهها في العمل عند انضمامه في 3 يناير عام 1957 لواحدة من أعرق المؤسسات المصرفية العربية، حيث قضى فترة قصيرة في العمل المصرفي بالعاصمة “عمّان” ليعود مرة أخرى إلى مسقط رأسه بنابلس، ويدخل بقوة في فهم العمل المصرفي بحذافيره، ليعرف معنى المرونة والقسوة والتحدي في هذا العمل اليومي الذي يهم الكثير من الناس والتجار والاقتصادات، وكيفية تسهيل أمورهم المصرفية.
ثم يؤرخ الكاتب جميع انطباعاته عن حياته المصرفية في فرع البنك العربي بمدينة عدن باليمن الشقيق لمدة إحدى عشر عاماً، وقد عاصر خلال تلك الفترة الأحداث السياسية التي شهدتها هذه المدينة، ثم ينتقل بالحديث عن تجربته بإمارة رأس الخيمة الذي عمل بها في عام 1970 كمدير لفرع البنك العربي وهي الفترة التي شهد فيها الخليج العربي تطورات اقتصادية وتنموية كبيرة، والنتائج الإيجابية الذي حققه فرع البنك خلال تلك الفترة .
وأخيرا يتناول المؤلف تجربته المصرفية في السلطنة الذي وصل إليها في سبتمبر عام 1973 والحوادث التي مر بها فيما يتعلق بأسرته ودراسة بناته، وكذلك العمل المصرفي ولينقل الفرع الذي سجل خسائر مالية إلى وضع منافس ومربح للبنك بجانب المؤسسات المصرفية الأخرى. كما يتناول المؤلف في هذا الجزء بعض المشاكل المصرفية التي واجهها في العمل بمسقط وكيفية نجاحه في التغلب عليها من خلال “الدبلوماسية المصرفية”، الأمر الذي جعل من البنك العربي مؤسسة ناجحة في السلطنة، وكان ذلك من خلال العلاقات التي نسجها مع الشركات العالمية التي ترغب في القدوم إلى السلطنة، الأمر الذي ساعد البنك على فتح اعتمادات مستندية لبعض الدول، ومنها اليابان، والدخول في الساحة الاقتصادية والمصرفية العمانية. ويشير الكاتب إلى أن هذه العلاقات أدت بالبنك أن يدخل لاحقاً في تمويل الكثير من المشاريع الكبيرة بجانب المساهمة الجزئية في تمويل بعضها، الأمر الذي أدى إلى زيادة فروع البنك في مختلف أنحاء السلطنة، والانتشار الواسع لأعماله لاحقاً.
وحول فكرة تحويل فرع البنك العربي إلى بنك محلي باسم (بنك عمان العربي) يشير الكاتب إلى ان البنك تم تأسيسه من خلال شراكة مع (الشركة العمانية العالمية للتنمية والاستثمار (اومنفيست) بنسبة 51% والبنك العربي بنسبة 49%، حيث تم تشهير البنك في الأول من أكتوبر عام 1984 برأسمال قدره 10 ملايين ريال عماني ورأس مال مدفوع قدره 6 ملايين ريال. هذا الأمر ساعد البنك على تحقيق المزيد من الإنجازات في الوقت الذي كان يواكب المخططات التنموية في السلطنة، ويسعى إلى الاستمرار في تمويل المشاريع الهامة التي تحققت في البلاد.
الكتاب يتناول أيضاً الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية التي عاصرها المؤلف في مسيرة عمله المصرفي في السلطنة ومرافقته للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رئيس دولة فلسطين في زيارته الرسمية للسلطنة في 20 يناير عام 1990 ولقائه بحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم حفظه الله. كما يضم الكتاب الذي يحوي على 303 صفحات الكثير من الصور التوثيقية التي تحكي عن الأنشطة والمناسبات التي حضرها المؤلف “عبد القادر عسقلان” خلال فترة عمله الـ57 عاماً التي قضاها خلال المسيرة المصرفية. ويعتبر الكتاب مرجعا متميزا في العمل المصرفي في السلطنة، وتجربة شخصية لرجل مصرفي ما زال يساهم بأفكاره ومبادراته في هذا الجانب وغيره من الجوانب التي الاقتصاد العماني.
رحمة الله ومغفرته على مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس الذي ورد اسمه في هذا المقال، وطيب الله ثراه. ورحمة الله ومغفرته على اخينا عبدالقادر عسقلان.