سلمى اللواتية – الرؤية
الساعة الواحدة من فجر بعد الحادي عشر من يناير الحزين 2020، ينتابني شوق الكتابة، لأفرِّغ على مساحة الورق أحداث أطول يوم مر على عُمان، يوم أسرعت أحداث نهاره وتباطأت ساعاته اللاحقة؛ حتى كأنها لم تنته! وكيف تراها تنتهي وقد غاب البدر عن سمانا، رحل السلطان الوالد وخانتني الأبجدية، ثم عبتُ على نفسي أن لا أكتب شيئا والحدث جلل! إذن؛ فلأكتب عن تجانسنا وتمازجنا نحن العمانيين، أو لأكتب عن حريتنا في ممارسة معتقداتنا، أو عن سلامنا الداخلي، سلام عمان التي ننام ونصحو فيها آمنين مُطمئنين والفضل بعد الله -جل وعلا- هو صَنِيعة هذا الراحل العظيم.. قابوس بن سعيد.
حدَّثني أبي أنه رجع إلى عُمان حين جاءها قابوس، وحدثني أنَّ جيله عمل بكل جد تلبيةً لنداء قابوس حين دعا الجميع لبناء الوطن، وحدثني أنَّ البِشر عم والخير حل على عمان وأهلها حين جاء قابوس، ثم قال إنَّ المسؤولية كانت عظيمة، والسلطان الجديد كان يجول البلاد طولا وعرضا بانيا وباحثا ومنقبا ومقدما مصلحة الناس. وفي كل مناسبة، يظل يقول حتى كبرت وأنا أتلمس تفاصيل كل ما قال، ويتنامى الحب لهذا الوطن ولتوأمه قابوس، وحين عزمت أن أبني مستقبلي، تلمست عن قرب كيف يكون بناء لبنة على لبنة، وحجر على حجر شاقا جدا! فتمعنت في الأمر عميقا أكثر.
تولَّى جلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في عمان، وهو في عمر الثلاثين؛ حيث شوق الشباب، وتوق الحياة وزهرتها، لكن توقا آخر وعشقا مختلفا كان يعتمل في قلب هذا السلطان الشاب الذي انحدرت إليه عزيمة دماء أرومته الأصيلة؛ فقدّم وأقدم بإرادة الشباب ليستجيب له القدر في سنين معدودات، وعادت عمان سليلة الحضارة والمجد هامة إباء وعزة كما أرادها، وصار هو أعز رجالها.. تولى دولة كادت أن تنقرض فأحياها بالعلم، وقال كلمته المشهورة: “سنعلم أبناءنا ولوتحت ظل شجرة”، لتكون القيمة سابقة البنيان، فتعلمنا أن نتشبث بالقيم، تولى دولة مترامية الأطراف ذات جغرافية صعبة تنهشها الصراعات الداخلية والحرب الأهلية، فجمع الكلمة ووحّد الصف وأصّل المواطنة كقيمة عُليا، ونهض بنفسه يقطع البلاد طولا وعرضا يخطط لكيف نوصل الخدمات هنا، فلا يغادر مواطن قريته، بل نذلل الجغرافية الصعبة لتخضع لراحة المواطن، تولى دولةً عريقة غابت عن التاريخ حينا، فارتكز على كل المخزون الحضاري في وجدانها ليرسي قواعد دولته العصرية بنكهة عمانية أصيلة.. والتفت ليرى شعبا أنهكه المرض والفقر فقرر أن يعافيه، واستعان بالله وبسواعد أبناء الوطن الذين أخبرهم أنه يحتاج إليهم في المرحلة المقبلة، قيادة فذة تحسن استجلاب القلوب حيث يجب!
ونظرَ قابوس إلى الخارطة الإقليمية والدولية من حوله، وبحكمة بالغة وبُعد نظر استثنائيين، فسار على نهج خارجي استثنائي، شهد له فيه القاصي والداني، وصرنا كلما سافرنا إلى دولة يتقدمنا جواز سفرنا بعزة وشموخ، ويحترمنا الجميع فقد أعزنا قابوس! ألقى بقميص السلام العماني الأصيل في كل مكان ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فردَّ جموعا بعد العمى مبصرينا! وراح ينشر الحب والتسامح والسلام مُستثمرا في ذلك السمة العمانية السمحة التي شهد لها التاريخ، حتى تأصل في قلوب العمانيين، بل وكل من عاش معهم على هذه الأرض الطيبة، وعشنا إخوانا مُتآلفين من شتى المذاهب يجمعنا كتاب الله وسنة رسوله نبراسا هاديا.. الله يا قابوسنا الذي رحلت، ففُجعت بك عمان صابرة محتسبة، وألجمها عن الجزع صمتك وهدوؤك الذي تعلمناه.. جنازة قصيرة وسكون مهيب في حضرة الموت الذي لابد منه.
وارتفاع عجيب عن اللغط والفرقة وشق العصا.. شكرا آل سعيد، الأسرة التي عرفت فترة حكمها لعمان بالهدوء والعقلانية والسلم، شكرا لأنكم أرحتمونا من عناء التفكير في مَن سيكون خلفا للراحل -طيب الله ثراه- شكرا لأنكم أرحتمونا من أن يكون مع الحزن قلقٌ واضطراب، أرحتمونا من أن نسمع ونقرأ من الخارج تكهنات وتصريحات تُوجِل أعماقنا أكثر مما كانت… إنّ هذا الانتقال السلس للسلطة، وهذا الوفاء للراحل هو وسام فخر آخر نضعه على صدورنا نحن العمانيين الذين بايعنا سلطاننا هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- بشغفٍ وإيمان بأنَّ الفذّ لا يخلف إلا فذّا مثله.. يومٌ سيبقى في قلوبنا ما حيينا، وسيخلِّد التاريخ أن أعزَّ الرجال مرَّ من هنا فأعز رجالا وبلادا، شيبا وشبانا، فكان رحيله الوجع الوِتر على قلب الوطن.
وللحديث تتمة…،