Image Not Found

في البحث عن المشترك الإنساني

محمد بن رضا اللواتي – الرؤية

إذا كان من سمات هذا العصر الثورة التكنولوجية التي نقلت نمط معيشة الإنسان من أفق إلى آخر، إلا وأنه، ومن سماته كذلك، فقدان تلك الثورة، صلتها بعالمه الروحي، فخطابات الكراهية مستعرة، والقيم الأخلاقية للإنسان في انحسار مستمر. ومعنى هذا، أنَّ الثورة التكنولوجية التي ستتيح للبشرية القيام بأشياء تشبه المعجزات، إلا أنه -وبالمقابل- ستضع بين أيديهم أدوات مروعة للفتك. إنه العلم ذاته، الذي تمكن من حصد أوبئة قضت على حياة الملايين، وأزاح عن الحياة أكثر من 60 مليونا، من 1939 إلى هيروشيما فقط. الغائبون الكبار، العقل والعدل والأخلاق، يزدادون غيابا، كلما زادت الثورة التكنولوجية تأججا وهيجانا.

جماعة من الفلاسفة، من جانبهم، كانوا قد حذروا بأن العلم الذي يتبناه العالم اليوم، قد فقد صلته بالهوية الروحية والأخلاقية للإنسان. هوسرل، فيلسوف الفينومينولوجيا مثلا، كان قد أعلن -بحسب قراءة فتحي المسكيني له- بأن العلوم الأوروبية قد انحرفت عن مسار معونة الإنسان الأوروبي، بمنحه لحياته معنى، فما عاد يعرف -هذا الإنسان- إلا العالم المصطنع في المختبر فحسب.

يقول هوسرل بالرغم من أن “وحدة المعنى” بين البشرية يخترق تاريخها، ولا يزال به رمق، إلا أن العقل الوضعي قد طمسه. لقد انحرف العلم عن غاياته، فتحول من وسيلة لخدمة الإنسان، بتفصيل السلعة على أساس حاجات الإنسان، إلى تفصيل الإنسان على أساس السلعة، وإذا بنا نشهد -بحسب إشبنغلر- نجاح عمليات مكننة الإنسان وأنسنة الآلات! وقبيل أيام قلائل، شهدنا جريمة قتل طالب أكاديمي عُماني بدافع سرقة ساعة معصمه!

حقا، صدق ويل ديورانت، حينما قال -واصفا الحياة في الغرب إبان تفشي العدمية التي جعلت من الأخلاق أوهاما ابتدعها الماكرون للحد من قدرة الأقوياء- “لقد كان كل شيء يتقدم إلا الإنسان”. وأفضت الأحوال البائسة إلى عثور نيتشه على جثة الإله المخنوق من قبل الإنسانية نفسها!

أمام هذا الوضع المخيف، لا محيص عن إعادة الغائبين الكبار ليتبوأ مكانتهم اللائقة بهم في مسرح الحياة. كانت للفيلسوف الدنماركي كيركيغارد، محاولة لإعادتهم، عبر إعادة قراءة إبراهيم النبي، فلعلنا نستعير منه وعيه بالأبدية، ونتلمس روابطه المقدسة، قال: “لو أن الإنسان لم يكن له وعي أبدي، لو لم يكن له رابط مقدس، لو كانت الإنسانية تجدد كأوراق الغابات.. فأي خراب كانت لتكون الحياة؟.. ثمة بطولة ما في أن تتذكر من خلق العالم”. حقا، الغائبون الثلاثة الكُبار لا سبيل إلى جرجرتهم إلا على أساس المقدس.

ولكن، هل يجب دائما أن تكون المبادرات من الإنسان الأوروبي فحسب؟ المذهل أن هوسرل -بقراءة المسكيني له- يعتقد أننا في حاجة إلى مبادرة من بشر “آخرين”، يحملون مشعل الميتافيزيقا من الغرب، ويدعون إلى علاقة جديدة بالعالم، تسهم في إعادة المعنى له. ذلك، وبحسبه، فالعقل الأوروبي، يمضي نحو تدمير العالم، لتبنيه علوما لا تلتقي “بالأفق الأخلاقي” للبشرية.

تُرى، هل ستتحقق يوما أمنية هوسرل بأن ينبري “آخرون” يحملون مشعلا يضيء عالم المعنى المحاط بضباب المذاهب العلمية والتكنوقراطية المادية؟ وفي زمن، يرقد فيه مفهوم واجب الوجود في كتب ابن سينا، الذي لا يكاد هذا العصر يعرف من كان؟ كما أن اللمسات العرفانية لأمثال جلال الدين الرومي، لا يتجاوز تأثيرها القلة؟

ها هنا محاولة، أتت من أُناس “آخرين” فعلا، يستندون إلى مُعطى أخلاقي تليد، وبتجربة حضارية ثرية، فبلدهم يشهد انسجاما بين المذاهب والأديان والأعراق بنحو أذهل القاصي والداني، وارتفع في السنوات الفائتة نداء الاستفادة من تجربتهم، والتي مكنت بلدهم من أن ينأ بنفسه عن الاصطفاف الطائفي، ولم يتموضع، قط، في طوابير الحروب بالوكالة، حتى غدت بلادهم وكأنها حديقة إبراهيم في وسط حرائق نمرود. بل تجاوزت اهتماماتهم جغرافية بلادهم، إلى مساحات أرحب، فإذا بهم يذرعون الجو سفرا تلو سفر، لإطفاء فتيل الحروب هنا، وإخماد فوهات براكين الدمار هناك.

إنهم العمانيون الذين ذهبوا إلى إندونيسيا قبل عدة أسابيع، يحملون مشروع سلطان بلادهم -حفظه الله- بعنوان “مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني” والذي أخاله أول مشروع أخلاقي أممي، صادر عن قمة سياسية، يريد أن يعي العالم بأهمية الائتلاف لمنع زحف خطابات الكراهية، ولأجل رفع الأيادي عن قرع طبول الحروب، عبر تحديد أهمية دور القيم الإنسانية والأخلاق والفضائل الحميدة في إحلال الوئام في العالم، والبحث في التراث البشري عن المواقع الفكرية المشتركة، لأجل الالتفاف حولها.

لقد أشار معالي الشيخ وزير الأوقاف والشؤون الدينية -في كلمته التي ألقاها غداة الاحتفال باليوم العالمي للتسامح، في جاكرتا- إلى أن خبراء سيعكفون على وضع ملامح هذا المشروع، ترافق ذلك مبادرات عالمية، تضيء جوانبه، فلعل هذه المساعدة العمانية لإرجاع الضمير الأخلاقي في وسط عالم متشنج جدا، قد تُسهم في جعله مكانا أفضل للعيش الآمن.