مرتضى بن حسن بن علي – الرؤية
لا يمرُ يوم دون أن نرى وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن مشكلة الباحثين عن عمل، ولَم تخلُ برامج معظم المترشحين لعضوية مجلس الشورى عن موضوع إيجاد حلول لهذا الموضوع، كما لا تمر دورة من دورات مجلس الشورى دون أن نرى الأعضاء منكبون على دراسة الموضوع ويختتموها بتوصيات وحلول يرونها مُناسبة، قضية “الباحثين عن عمل، احتلت أيضاً وما زالت، جزءًا كبيرًا من اهتمامات وسائل الإعلام المختلفة، فهل توجد مشكلة حقيقية أو أنَّ الموضوع مبالغ فيه؟
بلغ صافي الزيادة في أعداد القوى العاملة الوطنية بالقطاع الخاص خلال سنوات الخطة الخمسية الثامنة ” ٢٠١١-٢٠١٥”، بعد الأخذ بنظر الاعتبار أعداد المنتهية خدماتهم،عدد “١٤،٦٨٥” مواطنًا، أي بمتوسط زيادة سنوية بلغت “٢،٩٣٧” مواطنًا، كما بلغ صافي الزيادة خلال السنوات الثلاثة الأولى من الخطة الخمسية التاسعة “٢.١٦-٢.١٨” عدد ” ٢٢،٧١٠” مواطنين ، أو بمتوسط زيادة سنوية قدرها “٧،٥٧٠” مواطنًا. ووصلت الأرقام الإجمالية لأعداد الباحثين عن عمل، متضمنة الأعداد المُرحَّلة من السنوات السابقة، عدد “٤٥،٧١١” في نهاية ٢٠١٨.هذه الأرقام تشير إن كانت صحيحة، إلى أن مشكلة “الباحثين عن عمل” ربما هي قضية مبالغ فيها. وزارة القوى العاملة تقدر أن نسبة الباحثين عن عمل بلغت “٢،٥٪” فقط في نهاية عام ٢٠١٨. وإذا كانت النسبة صحيحة فانها، نسبة صغيرة، وهي أقل من نسبة أعداد أقرانهم في الاقتصاديات المتقدمة، حيث تبلغ النسبة العادية لهم ما بين ” ٤،٥-٥٪ “، وتسمى معدل البطالة المعقولة أو المعدل التوازني أو البطالة الاحتكاكية، والتي تنتج خلال فترة البحث عن وظيفة أفضل للموظفين المنتهية خدماتهم، أو أثناء بحث الخريجين الجُدد، عن عمل مناسب، وخلال فترة البحث تلك فإنهم يصبحون من “الباحثين عن عمل”.
كما أن تحليل أرقام الباحثين عن عمل في نهاية عام ٢٠١٨، يشير إلى الآتي :
“٨٧،٥٪” منهم من المناطق خارج محافظة مسقط، وبلغت نسبة النساء منهم “٦٢،٢٪”، منهن “٩٠٪ “لم يسبق لهن العمل، وبلغت نسبة الذين لم يسبق لهم العمل من الجنسين “٧٤٪”.
من المعتقد أن الكثيرين منهم في الوقت الحاضر، ليسوا من “الباحثين عن عمل” وإن كانوا من القوى العاملة، وهناك فرق بين مفهوم القوى العاملة ومفهوم الباحث عن العمل. الباحث عن عمل، هو كل شخص قادر على العمل وراغب فيه، ويبحث عنه، ويقبل بالراتب المُقدم له، ولكن مع ذلك لا يحصل عليه، والباحث الجاد عن عمل يتابع مُعاملته كل ثلاثة أشهر على الأقل ويبحث عن العمل في أماكن مختلفة. وعكس ذلك لا يمكن اعتباره “باحثا جادا”،ومن المفترض أن يتم مسحه من قائمة الباحثين عن عمل، للوصول إلى أعدادهم الحقيقية وأماكن تواجدهم والتعرف على مؤهلاتهم وخبراتهم النظرية والعملية. من خلال هذا التعريف يتضح أنه ليس كل من لا يعمل أو مسجل اسمه، هو باحث عن عمل. عدد كبير لديهم سجلات تجارية أو سيارات الأجرة أو التدريب وتناكر لنقل المياه أو لديهم مهن أخرى، كما إن الطلبة والمعاقين والمسنين وربات البيوت وأصحاب العمل المؤقت لا يتم اعتبارهم باحثين أو عاطلين عن العمل.
إضافة إلى ذلك فإنَّ إحجام عدد من الأشخاص عن المشاركة في وظائف معينة بسبب تدني النظرة الاجتماعية لهذه الوظائف، لا يجعلهم ضمن “الباحثين عن عمل” بل إنهم يعانون من “البطالة السلوكية”.ومع أن وزارة القوى العاملة تبذل جهودا مقدرة لتوفير الوظائف لكل القادرين والراغبين، فإنَّ الجهود يجب أن تبذل أيضًا لإيجاد حلول ومن الآن، للأعداد التي سوف تدخل إلى سوق العمل في السنوات القادمة، ولا سيما مع دخول آلاف الخريجين إلى سوق العمل في السنوات القادمة.
يبلغ إجمالي الطلبة المتوقع تخرجهم في مؤسسات التعليم العالي، من داخل عمان أو خارجها عدد “١١١،٧٢٤” طالبًا وطالبة خلال الفترة “٢٠١٦-٢٠٢٠” بمتوسط سنوي يبلغ “٢٢،٣٤٥” طالبًا وطالبة. وتبلغ نسبة الذكور في المتوسط “٣٨٪” بينما تبلغ نسبة الإناث في المتوسط “٦٢٪”. ومن الجدير بالذكر، أن تقرير “مسح خريجي التعليم العالي” يشير إلى تدني نسبة توظيف الإناث الخريجات مقارنة مع أقرانهم من الذكور، وهذه النسبة المتدنية، من التحديات التي لا تواجه التعليم العالي فحسب، بل تواجه المجتمع ككل والاقتصاد بشكل خاص والساعي إلى تحسين مستويات الدخل للعمانيين وتخفيض الاعداد الكبيرة من القوى العاملة الوافدة. والمفارقة أن أعداد الطالبات أعلى من أعداد الطلاب في التعليم العالي، ولكن تنقلب الكفة عند تخرجهن ليكون الفرق لصالح الذكور في سوق العمل، هذه النتائج سوف تساهم في توليد مشاكل اجتماعية لابد من الانتباه لها ومنذ الآن.
ومن جهة أخرى فإنَّ نتائج المسح تشير أيضًا إلى الانخفاض الحاد في نسب توظيف الخريجين عمومًا، حيث انخفضت النسبة من “٤٧،٧٪” في عام ٢٠١٥ إلى “٢٤،٨٪” في عام ٢٠١٧. كما تشير نتائج المسح إلى أن نسب توظيف الخريجين في السلطنة كانت متدنية أيضاً قبل أزمة انخفاض أسعار النفط، مقارنة بالمعايير العالمية،
قد تكون للظاهرة أسباب عديدة، منها طبيعة الاقتصاد والطبيعة المشوهة للقطاع الخاص وكونه قطاعاً خدمياً وليس إنتاجيًا في معظمه، ويعتمد على ما تطرحه الحكومة من مشاريع، ولا يحتاج إلى خدمات الخريجين، ولا سيما، أن الحد الأدنى للرواتب يؤثر على قرارات التوظيف، أو قد تكون أسبابه ناتجة عن الضعف الذي يُعانيه معظم الخريجين في المهارات والكفايات وثقافة العمل، وقد أشارت نتائج دراستي مسح الخريجين “٢٠١٥ و٢٠١٧” إلى “ضرورة تعزيز المهارات والقدرات الأساسية التي أشار إليها الخريجون وأرباب العمل والتي افتقر إليها الخريجون أبرزها:مهارات اللغة الإنجليزية، ثم المهارات التنظيمية، وبعدها التحليلية خلال مرحلة الدراسة الجامعية وذلك بتضمينها بالخطط الدراسية بجانبيها النظري والتطبيقي، من أجل زيادة نسبة المواءمة بين ما يكتسب خلال الدراسة مع طبيعة العمل لاحقًا، مما يدعم حصول الخريج على وظيفة تتناسب مع تخصصه، ومؤهله.” كما تمت الإشارة إلى أن “توظيف الخريجين وفق مؤهلاتهم وتخصصاتهم يعتمد على نوعية الصناعات الموجودة ومدى تطور الاقتصاد العماني.” نفس الدراسة أشارت أيضا إلى “وجود فائض من حملة المؤهلات الجامعية، لذا يجب تحديد الحاجة الفعلية في مختلف قطاعات العمل من التخصصات، والمهارات ذات العلاقة المباشرة بالوظائف المتاحة، والمستقبلية للعمانيين، والتخطيط للنمو بالاقتصاد العماني من اقتصاد يعتمد في معظمه على المهارة غير المؤهلة إلى اقتصاد يجذب المميزين في كل المجالات”.
أعداد الخريجين سوف تشهد نموًا مستمرًا إذا لم نبدأ بمعالجة المشكلة بجميع أبعادها وجذورها، ومن ضمنها التوزيع الجغرافي المتوازن للاستثمارات لتوفير فرص العمل لسكان المناطق المُختلفة.
ولا بد أن ننتبه إلى أن خريجي التعليم العالي لهم طعم مختلف. إنهم يشكلون كتلة مهمة من الكتل البشرية، فهي كتلة صرفت عليها الحكومة مبالغ طائلة من أجل أن تتعلم وتتهيأ للعمل في بلد يُعتبر التعليم فيه وسيلة مهمة للصعود الاجتماعي. والباحثون عن عمل من هذه الكتلة مُعبأة بشحنات قلق غير عادي، لأنها شريحة أكثر وعيًا وإدراكا، وقابلة أن تتحول إلى شحنة غضب، تولد عدم الاستقرار، إذ إنها تشعر أن مجتمعها يسلبها حقًا كانت تحسبه في انتظارها، وكان الأمل يراودها أن يكون لها نصيب فيما تعتبره حقًا انسانياً لكل مواطن بالدخول إلى دائرة الإنتاج وتكوين أسرة جديدة تحتها أرض وفوقها سقف، ولديها أمل يومئ إلى غد أفضل.