د. حيدر أحمد اللواتي – الرؤية
ما رأيك أن تقابل دماغك وهو يقوم بجميع الأنشطة الحيوية التي يقوم بها دماغك الآخر الموجود في رأسك ولكن دماغك الذي ستقابله موضوع في إناء في المختبر وغير مرتبط بجسدك؟
قد يكون ذلك ممكنا خلال الأعوام القليلة القادمة، فالبحوث العلمية المرتبطة بالدماغ خطت خطوات متسارعة خلال العشرين سنة الماضية. والسبب الرئيسي الذي دفع الإنسان إلى سبر الدماغ هو أن البحث العلمي والوجداني أوصل الإنسان إلى نتيجة مفادها أن الفارق الأهم ولربما الوحيد بينه وبين جميع الكائنات الحية الأخرى هو دماغ الإنسان، فالإنسان يتعلم بعقله ويتكلم بعقله ويسمع بعقله ويفكر بعقله، ووصل إلى ما وصل اليه من تقدم تكنولوجي وتطور تقني بعقله بل حتى مشاعره وأحاسيسه هي نتاج عقله، والجوارح ما هي إلا وسيلة وأداة للحصول على المعلومات، والتعبير عن آرائه وأحاسيسه ومشاعره.
ومن هنا دفع الفضول العلمي والرغبة (والتي يتحكم بها الدماغ أيضا) الإنسان إلى فهم وإدراك هذا الكائن البيولوجي الذي لا يوجد له نظير في جميع النظم البيولوجية؛ وكأنّ الدماغ دفع الإنسان دفعا ليسبر غوره (أي غور الدماغ) ويفهم أسراره.
وبدأت الدراسات العلمية الجادة في القرن الماضي إلا أنّ القفزة العلمية في التقنيات الحديثة كتصوير الرنين المغناطيسي، وجهاز مِخطاط مِغْناطِيسِيَّةِ الدِّماغ وغيرها من التقنيات العلمية الحديثة فتحت باب دراسة الدماغ على مصراعيه، وقفزت بالبحث العلمي قفزات نوعية كبيرة وهامة، وكشفت عن الكثير من أسرار عمل الدماغ وميكنته، وكما هو معلوم فإنّ المعرفة العلمية عادة تولد أسئلة أكثر مما تجيب عنها، فهي قد تجيب على سؤال واحد ولكنها بالمقابل قد تفتح الباب أمام عشرات من الأسئلة.
لكن جميع هذه البحوث ظلّت بحوثا تعتمد على الملاحظة ولا تعتمد على التجريب وهو أمر هام جدا لابد من أن نتوقف عنده ونوضح الفرق بين صنفين من الأبحاث تلك التي تقوم على الملاحظة والأخرى والتي تقوم على التجريب.
فعندما نقوم بعمل تجربة نريد أن نعرف من خلالها تأثير متغير ما كدرجة الحرارة على تفاعل معين فإننا نقوم بتثبيت بقيّة المتغيرات والتي نظن أنّها قد تؤثر في التفاعل الكيميائي كالضغط وشدة الضوء وتركيز المواد الفاعلة ثم ندرس بعدها تأثير درجة الحرارة على التفاعل الكيميائي.
نلاحظ في المثال السابق أننا سيطرنا على جميع المتغيّرات، والتي من الممكن أن تؤثر في التفاعل الكيميائي وقمنا بتغير متغير واحد والذي أردنا أن نعرف تأثيره على التفاعل الكيميائي، وهذا النوع من البحوث تعرف بالبحوث التجريبية، والتي يتم السيطرة فيها على جميع المتغيرات الهامة ومن ثم نقوم بتغيير المتغير الذي نرغب بدراسة أثره على الظاهرة التي ندرسها، وبالمقابل فهناك صنف آخر من البحوث والقائم على الملاحظة فلو أردنا أن نعرف مثلا تأثير تناول خمس علب يوميًا من مياه غازية معينة على نسبة السكر في الدم لمدة ستة أشهر؛ ففي هذه الحالة يصعب إخضاع العينات المتمثلة في أفراد من المجتمع للتجريب، لأنّ السيطرة على جميع المتغيرات مثل تحديد تناول نوع الطعام تصبح شبه مستحيلة، ولذا يلجأ عادة في مثل هذه الدراسات إلى الملاحظة والاعتماد على كبر حجم العينة؛ فتتم متابعة عدد كبير جدا من الأفراد قد يصل مثلا إلى 10000 شخص وذلك لأننا نفترض أنّ المتغيرات الأخرى في هذا العدد الكبير من الأفراد سيلغي أحدها الآخر فإذا كان هناك فرد يكثر من تناول الحلويات فمقابل هذا الشخص سيكون هناك من يمتنع أو يقلل من تناول الحلويات بشكل كبير، فإذا ارتفعت نسبة السكر في دم الأول نتيجة إقبال الفرد الأول على السكريات فإن الفرد الثاني سيلغي أثره على نتائج الدراسة.
وكلا النوعين من البحوث لهما أهمية بالغة ولا يمكن الاستغناء عنهما وخاصة في البحوث المعقدة.
نعود إلى موضوعنا حول دراسة الدماغ فكما ذكرنا آنفا أنّ جميع البحوث في هذا المجال ظلّت بحوثا تعتمد على الملاحظة بشكل كبير، فعندما يتم إخضاع شخص لجهاز الرنين المغناطيسي ويسأل سؤالا معينا لمعرفة تأثير ذلك على الدماغ فإنّ العوامل الأخرى لا يتم السيطرة عليها، ولهذا افتقرت هذه الدراسات المرتبطة بالدماغ البشري إلى دراسات تجريبية يتم السيطرة فيها على أغلب المتغيرات، وذلك لدراسة تأثير متغيّر معين عدا تلك التي كانت تتم على الحيوانات كالفئران مثلا إلا أنّ دماغ الإنسان يتميز بالتعرجات الكثيرة، والتي يفتقر إليها دماغ الفئران (١).
والسؤال الذي طرح نفسه بقوة هل بالإمكان القيام ببحوث تجريبية على الدماغ البشري مباشرة بحيث تتم السيطرة فيه على جميع أو أٌغلب المتغيرات؟
ومن هنا بدأت محاولات القيام بدراسات تجريبية على الدماغ البشري، وفي الثالث من أكتوبر من هذا العام تم نشر دراسة جديدة في مجلة Cell Stem Cell حول زراعة دماغ مصغر للإنسان، وذلك بأخذ خلايا حية من جلد إنسان وبوضع هذه الخلايا تحت ظروف معينة في المختبر وتغذيتها بشكل معين، وأدى ذلك إلى تكوين دماغ مصغر لإنسان في إناء في المختبر وكان هذا الدماغ يتواصل مع أجزائه بطريقة تشبه تواصل الدماغ البشري للجنين (٢).
وقد تمت مثل هذه البحوث منذ عدة سنوات إلا أن هذه الدراسة تعد من أكثرها نضجا إذ أنّ الدماغ المزروع وصل إلى مرحلة طور شبكة تواصل بين خلايا هذا الدماغ المصغر المزروع شبيه بتلك الموجودة بالدماغ البشري للجنين، ولم يتم الوصول عند زراعة أدمغة في المختبر في الدراسات السابقة إلى هذا المستوى من النشاط العصبي كما أوضحت الدكتورة أليسون موتري الباحث الرئيسي التي قامت بالدراسة (٣).
وتهدف الدراسة إلى معرفة بعض التفاصيل المتعلقة ببعض الأمراض وتلقي الضوء على أسبابها كمرض الزهايمر.
إنّ زراعة الدماغ بهذه الكيفية ستفتح آفاقا علمية كبيرة فبالإمكان القيام بتجارب علمية دقيقة على هذا الدماغ إذ يمكن السيطرة على أغلب المتغيرات في المختبر ومن ثمّ دراسة تأثير متغيّر معين، ولذا يأمل الباحثون الوصول إلى مرحلة يستطيعون من خلالها زراعة دماغ يشبه دماغ الإنسان البالغ.
إنّ الدماغ المزروع في هذه الحالة لن يكون له تواصل مباشر مع العالم الخارجي لعدم وجود وسائل للتواصل كالحواس، ولهذا فلن يكون دماغًا متكاملا في هذه الحالة ولكن هل هذا الدماغ هو كائن حي؟ ثمّ ماذا إذا تمّ توصيل وسائل سمعية وبصرية بهذا الدماغ؟ وهل سيتم بلوغه إلى مرحلة الشعور والإدراك الذاتي.
وهل هو نفس دماغ الإنسان الذي تبرع بخلايا جلده؟ ثمّ ماذا سيحدث لو طور لهذا الدماغ وأضيف إليه قلب مزروع؟ وهل سيتم في قادم الأيام زراعة إنسان كامل في المختبر؟
كل هذه الأسئلة وغيرها أصبحت تثار وبشكل كبير، وكما قلنا فإنّ البحث العلمي يحاول الإجابة عن سؤال واحد وبالمقابل يفتح كما من الأسئلة تصعب الإجابة عنها.
(١) Scientific American, January 2017, Page 28.
(٢) Journal Cell Stem Cell, 2019, 25, 558.
(٣) Daily Mail, 29 August 2019