طاهره فداء – شرق غرب
كانتْ تشعُر بوخزٍ في قلبها عندما استيقظت صباحاً، إلا أنها سرعان ما ابتسمت، حينما تذكَّرت أنَّ عليها الآن أنْ تصب اهتمامها على هُوايتها الجديدة؛ وهي: الرسم، والذي بدأت تعشقه، ووجدت نفسها طوال اليوم مشغولة بالبحث عن مكنونات الهواية، وكيفية تطوير مهاراتها بالرسم؛ كي تصل إلى ما تصبو إليه.. فقررت الانضمام لنادي تخصصي، حتى تتمكن من التدرُّب على أيدي فنانين محترفين ومهرة.
وفي أحدى المساءات، وبعد الانتهاء من دوامها الرسمي، لملمتْ شتاتها، وأمدت ذاتها بالشجاعة الكافية للذهاب إلى ذلك النادي الذي وقع اختيارها عليه، وأخذت معها بعض التخطيطات من صُنعها، لتنال العضوية، وحتى تتمكن من الحوار مع بقية الموهوبين بالاطلاع والنقاش في نوعية التخطيطات التي يستطيع الموهوب أن يُبزها للعيان.
كانت سعيدة جدًّا بوصولها لمبنى نادي الفنون وهي على مُحياها ابتسامة أمل، والشعور بالحماس، وكأنها طفلة تذهب إلى المدرسة لأول مرة.
أخذتْ تتأمل الشباب المبدعين وهم يرسمون بالألوان الزيتية والمائية، ويقومون بمزج الألوان، أو بدراسة الظل والضوء. فور خروجها من مبنى جمعية الفنون الجميلة، ذهبت إلى محلٍّ للأدوات الفنية، وقامت بشراء دفاتر وبعض الأقلام وعلب ألوان ولوحة من الكنفس وحامل اللوحة. وضعت اللوحة بحجم 40 في 40 سم على الحامل، وأخذت تفكر بما تخطه على اللوحة، وشعرت بالارتباك حينها؛ لأنَّ بياض اللوحة أشعرها بالقلق وعدم الثقة فيما يمكن أن تقُوم به أو تُبدعه، وكلما اقتربت من اللوحة البيضاء زادتْ ضربات قلبها وقلَّت ثقتها بذاتها.
توقَّفتْ لفترة، ثم تنفَّست عِدة مرات؛ فقد يُساعد تدفُّق الأكسجين في رِئتها على الشجاعة والإقدام؛ فرسمتْ عِدَّة خطوط على اللوحة، ومن ثمَّ انهمرت بالبكاء، وتساقطتْ بعض دموعها على سطح اللوحة لتَمْسَح بعض الخطوط وتشوِّهها وتحوِّل اللوحة إلى سواد غير واضحة معالمه.
وفي اليوم التالي لهذه الحادثة، قرَّرت الانضمام إلى بعض الدورات الصيفية؛ حتى تكسب المهارة والثقة اللازمة والخبرة بكيفية التعامل مع مُعطيات العمل الفني. ومرَّت 3 أشهر على انضمامها للدورات الصيفية، وكلما كانت تنتهي من عمل فني تشعُر بدهشة لما قامت بإنتاجه، مُتسائِلة: “معقولة، تو هذا العمل الإبداعي أنا اللي سويته؟!”. كان أول عمل فني لها بعد الدورات التدريبية هو عبارة عن منظر لشاطئ جميل. استخدمت فيه الألوان الزيتية، كانت تشعر بالفرح والفخر كلما نظرت للوحة.
كانتْ تتأمَّل الألوان وتدرُّجها من الغامق للفاتح، وكيف استطاعت أن تُبرز زبد البحر وشفافيه الماء على رمل البحر، وتداخل الألوان في الصخور والجبال، وتركيزها على الظل والضوء باحترافية. كلما نظرتْ إلى العمل الفني، شعرت بأنَّ شيئًا ما يثلج صدرها، ويُنسيها همَّها وفشلَها في الحياة الزوجية التي كانت مُقدَّسة في نظر أهلها، وكأنه هدية من السماء نزلت لتخفف عنها آلام الحياة الروتينية، وكأنه تعويضٌ من ربِّ العالمين، لتشعُر بفرح العيش وطعم الحياة من جديد. كانت تشعُر بأنَّ كبتَ السنين بدأ يطفو على السطح ليظهر ما تُخبئه النفس من جمال وعذوبة.
طَوَال ذاك العام وهي في تُمارس مهنتها في التدريس صباحا. أما في المساء، فهي ترسم؛ مما أجبرها على تنظيم وقتها وجدولها اليومي بما يتناسب ومسؤوليات البيت والعمل والأولاد؛ بحيث تستطيع أن تجد متسعًا من الوقت في المساء لممارسة الهواية، وبمجرد انتهائها من واجباتها المنزلية كانت تهرع للوحة وكأنها في انتظار مناجاة حبيب اشتاقَ لحبيبته الغالية.
ظلَّتْ على هذه الحال إلى أن اقترب موعد تسليم الأعمال الفنية للمسابقة السنوية التي تُقِيمها نادي الفنون، وكل أعضاء النادي مشغولون بالحديث عنها، وعن المشاركة، لكن لا أحد يحب الخوض في تفاصيل عمله الفني، حتى لا تنسرق أفكاره التي اقتبسها في المقام الأول من الإنترنت، أو من خلال زياراته الخاصة لأحد رواد الفنون، ورعاة الجيل الأول، أو من خلال مساعدة أحد المختصين الأجانب المقيمين في البلد؛ حيث يقوم هؤلاء بمساعدة المبدع أو الفنان -كما يُسمَّى- بمناقشة مُخطَّط عمله الفني، والبعض يُساعد في إنتاج العمل الفني وإخراجه أيضا. كلُّ ذلك كان غير مألوف لديها. ولكن وبعد تسليمها أعمالها الفنية، سمعت الكلُّ كان يتحدَّث عن هُوية لجنة التحكيم، والتي بالعادة -وكما جرى العُرف- تكون من خارج البلد، لكن لا أحد يعرف من أين، أو ربما كانت هي الوحيدة لا تعرف ذلك بسبب طيبتها الزائدة.
قبل المسابقة بيوم واحد، حَضَرت لجنة التحكيم واجتمع معها المسؤولون، لكن اختيار اللوحات المستحقة للفوز لم يكن على ضوء المعايير الحقيقية، بل المجاملات، والمحسوبيات هي التي كانت المعايير.
يوم الحفل، لبست هي أجمل ما لديها، وتأنَّقت كالعادة، وذهبت للحفل بكل أمل وحب وصدق نوايا، وانقلبت الحال بعد إعلان النتائج، وأصبحت تشمُّ رائحة الخديعة، وغبار المصالح الشخصية، وقفَ بجانبها رجلٌ خمسينيٌّ، قميصُه قديم مُلطَّخ بضربات فرشاة قوية، وممَّزق في الزوايا، وتبدو على قسمات وجهه آلام العطاء، وخطوط الطيبة، قال لها: “لا تزعلي يا بنت، أنت الضحية رقم 104 في هذه الجمعية، وإذا قررتِ الاستمرار بهذا الصفاء، فقُومِي بعدِّ الضحايا معي”!
في طريقها إلى المنزل، نظرتْ إلى ذاتها في مرآة السيارة، فضحكتْ في خاطرها، وقالت: “لقد أصبحت الآن أعرف عدد جيد ممن يسرقون الفرح”.