د. حسن أحمد جواد اللواتي – شرق غرب
لو سألك كائن فضائي من بقعة بعيدة في الكون أين أنت الآن؟ فستجيبه بدلالة اسم المكان (القارة أو الدولة أو المدينة أو القرية أو حتى الإحداثيات) فأخبرته بأنك على كوكب الأرض في قارة آسيا بدولة سلطنة عمان في مدينة مسقط وأن إحداثياتك الحالية هي كذا وكذا، ثم لنقل أنه سألك وأين يقع كوكب الأرض؟ ستجيبه بدلالة موقع الأرض من المجموعة الشمسية التي تشملنا وقد تضيف لجوابك موقع المجموعة الشمسية من مجرة درب التبانة وموقع مجرة درب التبانة من مجموعة المجرات حولنا.
سيسكت الكائن الفضائي لبرهة ثم سيقول لك: ولكن المجرات تتحرك والمجموعات الشمسية تتحرك والكواكب كلها تتحرك في الفضاء، فأين أنت الآن من الفضاء؟
بالطبع لن تجد له جوابا لأنه على حق، كل شيء حولك في حركة دائمة وكل ما بيدك أن تقوله هو أنك على مقربة من أجسام معينة ولكن لا تستطيع أن تحدد موقعك بالضبط في الفضاء، ولو أزلنا كل الكواكب والنجوم والأجسام في الفضاء حولك فلن تعلم أين أنت حتى كمعرفة نسبية لما حولك، ستكون كأنك في مكان مظلم جدا بدون أرضية أو جدران أو سقف، إذن تحديد المكان ليس ممكنا لأننا لا نملك إطارا مرجعيا ثابتا في الكون، وهذا يجعلنا نتساءل: إذن ما هو المكان؟ وهل هناك فعلا شيء يسمى بالمكان المطلق (الثابت)؟
لنسحب الجدل إلى نقطة أخرى، لنفرض أنك قمت بقياس طول ذراعك وطول ساقك وأحجام بقية أعضائك باستخدام أداة قياس محددة (مسطرة مثلا)، ثم سجلت تلك القراءات في ورقة ما، ثم لنفرض أن شيئا ما حدث في الكون فأدى إلى ازدياد طول الأشياء كلها بنسبة 500% أي أن الأشياء تضخمت بخمس مرات من حجمها الأصلي، ولنفرض أنك أعدت إجراء القياسات مرة أخرى باستخدام نفس المسطرة، فهل ستكتشف أن طول أعضاء جسمك قد ازداد؟ الجواب لا لأن المسطرة أيضا ازداد طولها بنفس النسبة وعند استخدامها في قياس الطول والعرض والعمق فإن القراءات التي ستحصل عليها من تلك المسطرة ستكون بالضبط نفسها التي حصلت عليها من القياسات الأولى، أو لنقل أن حجم كل شيء في الكون تقلص بنسبة 90% فصار جسمك أصغر ولكن كذلك صارت المسطرة أصغر بنفس النسبة، فهل ستستطيع أن تكتشف أي تغير بالطول والعرض والأحجام؟ الجواب أيضا لا، في الحقيقة ما تقيسه أنت ليس هو الطول والعرض والارتفاع أو العمق، وإنما أنت تقيس نسبة طول جزء من جسمك مع طول المسطرة، فتقول مثلا أن طول ذراعك هو نفس طول امتداد المسطرة مرة واحدة، ولكن إن تقلص طول ذراعك بنسبة 50% وتقلص طول المسطرة أيضا بنسبة 50% فإنك لن تجد أي فرق في القياس لأن الذراع ستظل بنفس امتداد طول المسطرة الواحدة، وهذا يدل أنه لا يوجد شيء يسمى بالطول المطلق لأن ذلك أمر لا يمكن قياسه لعدم وجود مسطرة مرجعية ثابتة نضمن أن طولها لا يتغير ولن يتغير أبدا، بل الأمر قد يكون أسوأ من هذا، لنفرض أن طول ذراعك تقلص بنسبة 30% ولكن طول المسطرة تقلص بنسبة 60%، عند إعادة إجراء القياس ستجد أن طول ذراعك قد زاد في حين أنه قد تقلص (حسب الفرض في تجربتنا النظرية)، إذن لو لم نعلم أن طول المسطرة قد تغير بنسبة معينة فإن القياس سيعطينا نتائج خاطئة تماما، ستصبح الزيادة نقصانا والنقصان زيادة، والسبب مرة أخرى هو عدم وجود مسطرة نضمن أنها لا تتغير في طولها إطلاقا، وفي الحقيقة فإنه ليس لدينا أي سبب منطقي يجعلنا نضمن أن طول الأشياء كلها في الكون لم يتغير في الدقيقة الماضية فلعلنا كلنا أصبحنا عمالقة أو لعلنا كلنا أصبحنا أقزاما، لن نعرف الحقيقة طالما أن الجميع يتغير بنفس النسبة، وإن تغيرت الأشياء بنسب مختلفة فإن الأمر سيكون أسوأ حيث سنتوهم أن الأشياء المتقلصة قد تضخمت أو أن الأشياء المتضخمة قد تقلصت.
إين تكمن الحقيقة؟ الحقيقة أنه لا يوجد امتداد مكاني (طول أو عرض أو ارتفاع أو عمق) مطلق لأنه ببساطة لا يوجد هناك مكان مطلق (ثابت) بالكون، الأشياء هي نسبية وقياساتنا هي نسبية حيث نقيس طول شيء بالنسبة لطول شيء أخرى ولكن لا نعلم أبدا إن كان هناك أي طول حقيقي لأي شيء.
نفس الشيء ينطبق على تحديد الزمن، لو سألك الكائن الفضائي المزعج: ما هو الوقت الآن؟ فستستعمل إحدى الأدوات المعتادة لوصف الوقت، وغالبا في زمننا هذا فإنك ستذكر الوقت المذكور في ساعة يدك أو ساعة هاتفك، وسيرجع لك الاعتراض، ولكن كيف تعرف أن ساعتك صحيحة؟ جوابك هو أنك قارنتها بساعة ذرية عالمية، ولكن هل تضمن عدم حدوث تباطؤ بذبذبات ذرة السيزيوم بحيث أن طول الثانية يزداد ويتباطأ الزمن في كل ساعات العالم بدون أن تشعر بذلك، لعل كل شيء في الكون قد خضع لتسارع زمني بنسبة 50% أو لعل كل شيء في الكون قد حدث له تباطؤ زمني بنسبة 70%، من يدري، ليس لدينا ساعة مطلقة ثابتة مضمونة في عدم تغيرها بحيث تفيدنا أن بقية الساعات قد حدث فيها خلل أدى إلى تباطؤ أو تسارع بالقياس الزمني، ومرة أخرى نصطدم بحقيقة أنه ليس هناك شيء مطلق اسمه الزمن، كل ما لدينا هو قياسات نسبية بحيث نقيس عدد نبضات قلب شخص ما في الوقت المستغرق لدورة بندول ما، أو نقيس عدد مرات تنفس شخص ما في الوقت المستغرق بين شروق الشمس وغروبها في بقعة ما من الأرض في وقت ما من السنة، ولكن كما تلاحظ فإنه ليس هناك سبب منطقي يمنع من أن تكون نبضات قلب ذلك الشخص قد تسارعت بنفس النسبة التي تسارع فيها ذلك البندول وجعلنا ذلك نتوهم أن الزمن نفسه كما كان، وليس هناك سبب منطقي يمنع من أن تكون أنفاس ذلك الشخص قد تباطأت بنفس النسبة التي تقلص فيها الزمن بين شروق الشمس وغروبها في تلك البقعة في ذلك الوقت من السنة، بل ليس لدينا ما يمنع من أن يكون التسارع والتباطؤ في إحداها أكثر من الثانية فنكون بذلك نقيس الزمن بشكل خاطئ تماما حتى بالطريقة النسبية.
للتنويه مرة أخرى، النقاش السابق لم يكن ينفي وجود شيء اسمه المكان أو الزمان وإنما كان بصدد نفي الثبوت عنهما، وبعبارة أخرى ليس هناك ساعة زمنية عليا تشرف على تسلسل الأحداث في الكون وليس هناك خريطة عليا للمكان بحيث نستطيع الإشراف من خلالها على مواقع حدوث الأشياء في الكون. كل ما نستطيع فعله هو مقارنة حدث بحدث من ناحية العلاقة المكانية والزمانية بينهما من وجهة نظر المراقب الذي يرصد الحدث علما أن المراقب نفسه ليس ثابتا أو مطلقا وإنما هو بنفسه متحرك متغير. هل هناك ما يمكنه أن يجعل الأمور ضبابية أكثر من هذا؟