مرتضى بن حسن بن علي –
[email protected] –
ذكرت في مقال سابق نشرته بعنوان «لكي يقوم المركز الوطني للتشغيل بدوره»، الآتي:
«مراكز التشغيل، تعمل عادة بصورة وثيقة مع الجهات المعنية، ولكنها كوكالات تنفيذية فإنها تخطط وتوصي بعدد كبير من السياسات لمساعدة الباحثين عن عمل، ومساعدة الشركات للحصول على ما تريده من الكفاءات المختلفة والمتغيرة، من دون تدخل منها في عمليات التعيين، كما تقوم بالتنسيق مع الجهات المعنية، لإجراء التعديلات اللازمة في سوق العمل وقوانينه. «كما يتابع المركز، التطورات والتغييرات السريعة التي تحصل في العالم والتي تؤثر على سوق العمل ويبذل جهودا كبيرة للقيام بدراسات ومقاربات مستمرة بين مهارات الباحثين عن عمل وتلك المطلوبة من سوق العمل.»
في هذه المقالة والتي ستليها، سأحاول مواصلة الحديث عن الدور المفترض للمركز الوطني للتشغيل، حسب اعتقادي، لكي يساهم في إيجاد حلول للمشاكل العديدة التي يواجهها سوق العمل. وتمهيدا للموضوع سوف أستعين ببعض الأرقام المتوفرة لكي أبين بعض القضايا:
١-حسب الأرقام المتوفرة، بلغت أعداد الباحثين عن عمل في نهاية عام ٢٠١٨، «٤٥٧١١» شخصاً، موزعين كالاتي:
أ- بلغت نسبة الباحثين عن عمل في محافظة مسقط «١٢.٥٪»، أي نحو «٥٧١٤» شخصا، بينما بلغت تلك النسبة في المناطق الأخرى من عُمان نحو «٨٧.٥٪». أي نحو «٣٩٩٩٧» شخصا.
ب- من مجموع الباحثين عن عمل في نهاية عام ٢٠١٨م البالغ «٤٥٧١١» شخصًا، بلغت نسبة النساء الباحثات عن عمل «٦٢.٢٪»، أي نحو «٢٤٤٣٢» امرأة، منهن «٩٠٪» أي نحو« ٢١٩٨٩» امرأة لم يسبق لهن العمل، كما أن النسبة الباقية البالغة «٣٧.٨٪»، أي نحو «١٧٢٧٨»، كانت من الذكور، منهم نسبة «٦٩.١٪» أي نحو «١١٩٣٨»، لم يسبق لهم العمل، بمعنى آخر فإن ما مجموعه «٣٣٩٢٧» شخصا، أي بنسبة «٧٤ ٪» من مجموع الباحثين عن عمل ومن كلا الجنسين، لم يسبق لهم العمل وهي نسبة كبيرة جداً ومن المهم جدا معرفة الأسباب المؤدية لذلك. قد يكون أحد الأسباب، أنهم يبحثون عن عمل في مختلف الدوائر الرسمية ، ولا سيما بالنسبة للإناث، وذلك بسبب القيود الاجتماعية والأسرية ولا سيما في المناطق، أو أن بعض الشركات لا تريد التقيد بالحدود الأدنى للرواتب أو أنها تشعر أنه من الصعوبة التخلص من بعض الموظفين في حالة كونهم غير منتجين أو لا يتقيدون بأوقات الدوام أو تكثر غياباتهم، وربما أن بعض النساء تزوجن وأنجبن الأطفال، وبالتالي ليست لديهن الرغبة في العمل الآن.
وقد تكون من ضمن الأسباب أيضا، عدم وجود فرص عمل كافية في المناطق الأخرى، وخاصة للذكور، من الذين لم يسبق لهم العمل، أو انهم لا يمتلكون المؤهلات الكافية، ومع ذلك لا يقبلون فرص العمل المتاحة، أو أن الأعمال المتاحة لا تتوافق مع ميولهم، أو أنهم يمتلكون أعمالهم الخاصة ويمتلكون سجلات تجارية، أو يمتلكون سيارات للأجرة، أو يعملون في بعض المهن الأخرى الخاصة بهم مثل الزراعة أو الصيد …. الخ.
قد يكون مفيدا، بل مهما، أن يقوم المركز الوطني للتشغيل بإجراء مقابلات معهم وإيجاد سجل كامل عنهم الآن ومستقبلًا، للوقوف بصورة جيدة على وضعهم الحقيقي. قد يكون بعضهم بحاجة إلى التدريب أو إعادة التدريب على الوظائف المتاحة.
٢- تشير دراستا «مسح خريجي مؤسسات التعليم العالي» لعامي ٢٠١٥ و٢٠١٧، الذي قام بإعدادهما فريق من جامعة السلطان قابوس إلى أن نسبة توظيف الخريجين انخفضت من «٤٤.٧٪» في عام ٢٠١٥، إلى نسبة «٢٤.٨٪» في عام ٢٠١٧م، كما أشارت الدراسة المذكورة إلى أن الانخفاض في نسبة توظيف الخريجين ليس راجعا إلى عامل انخفاض أسعار النفط فحسب، لأنها كانت ضعيفة أيضا قبل الانخفاض. النتائج المذكورة تحتاج إلى دراسة متأنية من المجلس الوطني للتشغيل. ربما أن طبيعة القطاع الخاص في وضعه الراهن، والذي هو في أكثريته قطاع غير إنتاجي بقدر ما هو خدمي، والذي يعكس طبيعة الاقتصاد السائد والمعتمد أساسا على الإنفاق الحكومي، ليس بحاجة إلى كفاءات أعلى من تلك التي يحصلها من الحاصلين على شهادة الدبلوم العام «الثانوية العامة» فما دون، وربما أن عناصر أخرى قد تكون مسؤولة أيضا مثل عدم مواءمة بعض تخصصات الخريجين أو خبراتهم، مع ما يحتاجه القطاع الخاص في مرحلته الراهنة. قد تكون هناك أيضا أسباب أخرى تلعب دورا، مثل الشروط المرتبطة بالحدود الأدنى للرواتب التي يجب تقديمها للخريجين بغض النظر عن خبراتهم وتخصصاتهم ومواظبتهم على العمل أو إنتاجيتهم، تلك الرواتب التي تعتبر من وجهة نظر الشركات مرتفعة وتؤثر على تنافسيتها في السوق، إضافة إلى الزيادة السنوية الإلزامية في الرواتب وبغض النظر عن كفاءة الموظف من عدمها، أو أن تخصصاتهم غير مرغوبة أو أنهم يفتقدون الخبرات الكافية أو يفتقدون أخلاقيات العمل، أو موجودون في مناطق تفتقد إلى توليد الوظائف.
٣- تشير الإحصائيات إلى أن أعداد المتخرجين من التعليم العالي خلال الفترة «٢٠١٦-٢٠٢٠م» سوف تبلغ «١١١٧٢٤» طالبا وطالبة، أي بمتوسط قدره «٢٢٣٤٥» طالبا وطالبة سنويا خلال السنوات الخمس. ويبلغ عدد الذكور منهم «٣٨٪»، أي نحو «٨٤٩١» من الذكور سنويا، مقابل عدد الإناث منهم «٦٢٪»، أي نحو «١٣٨٥٤» سنويا من الإناث. هذه الأعداد والنسب تشير إلى زيادة نسبة النساء الأكثر تعليما من الذكور. والتي قد تؤدي إلى مشاكل اجتماعية متعددة، ولابد للمركز الوطني للتشغيل وبالتنسيق مع الجهات المعنية الأخرى من دراستها. ومن جهة أخرى فإن العديد من الخريجين هم من مختلف المناطق خارج محافظة مسقط، التي لا تتوفر فيها فرص عمل، كل ذلك سوف يؤدي إلى زيادة الباحثين عن عمل من الخريجين والذي قد يؤدي إلى مشاكل اجتماعية علينا الانتباه لها ومنذ الآن.
٤- أشارت نتائج «مسح الخريجين من التعليم العالي» إلى النقاط التالية:
أ- ضرورة تعزيز المهارات والقدرات الأساسية لطلبة التعليم العالي، والتي تساعد في الحصول على فرص العمل، والتي أشار إليها كل من الخريجين وأصحاب العمل، منها: افتقاد كثيرين من الخريجين إلى مهارات اللغة الانجليزية، إضافة إلى المهارات التنظيمية والقدرات التحليلية.
٥- أشارت الدراسة المذكورة أيضا إلى وجود فائض في أعداد الخريجين من التعليم العالي في ظل التوجهات الاقتصادية الحالية.
٦- إضافة إلى كل ذلك، أشارت دراسة «مسح الخريجين» أيضا إلى وجود مجموعة من التحديات التي تحد من نسبة زيادة رواد الأعمال مما أدى إلى ضعف الرغبة في امتلاك الأعمال، حيث أشارت الدراسة المذكورة إلى أن نسبة رواد الأعمال من الخريجين لا تزال ضعيفة مقارنة مع أقرانهم في الدول الأخرى، ونسبة رغباتهم في امتلاك عملهم الخاص متدنية كذلك ولا سيما بين الإناث.
وهذا الموضوع يؤثر سلبا على قيام الشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تلعب في دول عديدة أدوارا مهمة لعلاج مشاكل الباحثين عن عمل، كما تساهم في ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي وقدرتها على استيعاب أكبر عدد من الباحثين عن عمل بتكلفة أقل. ففي ألمانيا على سبيل المثال تستوعب نحو «٨٠٪» من مجموع القوى العاملة الكلية، مع الفارق بين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في ألمانيا وعُمان والتي هي بالكاد تساهم في استيعاب القوى العاملة الوطنية، مثلما سوف أبينها في مقالة أخرى.
سوف يكون أيضاً مفيدا للمركز الوطني للتشغيل، التنسيق بين الجهات المعنية الأخرى لمعرفة التخصصات الفائضة عن الحاجة وتوجيه الطلبة إلى تخصصات أكثر انسجاما مع المتطلبات الحالية، إضافة إلى معرفة الأسباب الحقيقية المؤدية إلى ضعف توظيف الإناث وتوجيههن إلى فروع دراسية أكثر انسجاما مع أوضاعهن ومع احتياجات البلد.
في السلطنة، كما في عدد من الدول الأخرى، فإن مشاكل الباحثين عن عمل عديدة ومركبة ومتراكمة ومنها ما تسمى بـ«البطالة الهيكلية» والتي تعني أن مؤهلات ورغبات وتوقعات الباحثين عن عمل، لا تتناسب مع الوظائف المتوفرة من حيث الخبرات أو الأجور أو نوعية العمل، كما تشمل «البطالة الهيكلية» الباحثين الذين يعيشون في مناطق تقل فيها فرص العمل. وهذا واضح من تحليل التوزيع الجغرافي للباحثين عن عمل، حيث تبلغ نسبة الباحثين عن عمل في المناطق خارج محافظة مسقط نحو «٨٧.٥٪» من جملة الباحثين عن عمل في نهاية شهر نوفمبر ٢٠١٨م، مقابل النسبة المرادفة في محافظة مسقط والبالغة نحو «١٢.٥٪». كما تشمل «البطالة الهيكلية» ما تسمى بـ«البطالة التقنية»، والمقصود منها عدم القدرة على مواكبة التطورات السريعة في الآلات والمعدات الناتجة من تطور العلوم والتقانة. والتي هي بحاجة إلى مهارات متعددة والتي تحتم تجويد التعليم في كل مراحله، بدءاً من التعليم الأساسي ومرورًا بالتعليم التقني ووصولا إلى التعليم العالي، وإعادة التدريب بصورة مستمرة، لكي يتمكن الباحث عن عمل من التكيف السريع مع التقنيات الجديدة، وكل ذلك يؤدي إلى زيادة الإنتاجية التي تؤدي إلى زيادة الأجور. إضافة إلى ذلك، هناك نوع آخر من مشكلة البحث عن عمل وهو ما يسمى «بطالة نقصان الطلب» والتي تحدث نتيجة انخفاض النشاط الاقتصادي ينجم عنه انخفاض عام في الطلب على العمل.
الاستعداد لإيجاد حلول للمشاكل العديدة التي يواجهها سوق العمل، يتطلب الاستعداد من الآن للمستقبل انطلاقا من الحاضر، وذلك من خلال التفكير الاستباقي الذي يعتمد على الاستفادة من الأخطاء السابقة وإجراء البحوث والاستشراف العلمي، والتنسيق بين الجهات المختلفة، عبر حوار سريع ومثمر. وكل ذلك يتطلب من المركز الوطني للتشغيل أداء دور فعال وأساسي في توليد الأفكار وابتكار الحلول والنماذج القائمة على استشراف المستقبل والدراسات المستقبلية، بما يعزز مسيرة التنمية المستدامة ومستويات الجودة وإيجاد حلول جذرية لمشاكل الباحثين عن عمل.