مسقط -“القدس العربي”
العمانيون ربابنة البحار وروّادها، فهم من وصفهم السومريون القدماء بروّاد الملاحة البحرية، ومن أوائل الشعوب التي استعملت الصاري والشراع. ويقال إن قوة عمان تاريخيًا من قوة بحريتها وبالعكس. ولا غرابة أن تكون شخصية السندباد في كتاب ألف ليلة وليلة مستوحاة من بحار عماني وصل إلى أراضي الصين البعيدة.
فسلطنة عمان التي تقع عند ملتقى طرق بحرية مهمة تربط الخليج العربي والهند والبحر الأحمر وافريقيا الشرقية، تمتاز بتراث لا تعكسه فقط قلاعها وحصونها بل أيضاً أسواقها القديمة، ومنها سوق مطرح الذي إذا لم تزره كأنك لم تزر السلطنة.
ولاية مطرح لها مكانتها التاريخية والحضارية التي تعود إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. وتقع في الجزء الشمالي الشرقي من السلطنة وتطل على شاطئ بحر عمان الذي يرتبط هو الآخر تاريخيا وجغرافيا بكل من الهند والصين وبلاد فارس بالإضافة إلى البحرين وكذلك شرقي افريقيا، وهو ما يجعلها منطقة تجارية هامة عبر التاريخ.
ويحد الولاية من جهة الشرق “حلة مطيرح” ومن الغرب “مدينة القرم” بولاية بوشر ومن الشمال بحر عُمان ومن الجنوب نهاية “حلة وادي عدي”.
وسُميت ولاية مطرح بهذا الاسم للدلالة على وجود مرسى للسفن ولهذا يُقال: طرحت السفينة مرساتها، بمعنى رست ووقفت وهناك من يقول: إن مطرح دلالة على طرح البضائع.
تشتهر هذه الولاية بسوقها التراثي “سوق مطرح” الذي هو بالحقيقة لؤلؤة عمانية أصيلة مكنونة داخل أسوار ينتظر السياح من مختلف بلاد الأرض لزيارته واكتشاف جماليته العبقة بالتراث وسحر الشرق والبخور ورائحة العطور المختلطة مع روائح اللبان العماني.
ملجأ في أزمنة الحروب
وكما لكل مكان نكهته كذلك لكل مدينة سوقها الذي يروي حكايا الناس ويحفظ تاريخها. السوق يعود عمره إلى أكثر من مئتي عام تقريباً. استخدم السوق كملجأ في حالات الحروب والكوارث كما حصل إبان الغزو البرتغالي لعمان وعندما تعرّضت الحامية البريطانية لنيران مدافع البارجة اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وفي حالة طوفان مطرح في أربعينيات القرن العشرين. ومع السنين ازدادت أهميته بعدما أضحى وجهة مهمة وأساسية للسواح العرب والأجانب الذين تجذبهم روائح البخور التي تعبق في فضائه.
نشأ السوق قديماً نتيجة امتداد التجمعات السكنية والتجارية حول ميناء مطرح. فكان السوق في بداياته ساحات مفتوحة تمتد من الشاطئ البحري وتباع فيها البضائع الواردة إلى الميناء والمنتجات المحلية كالتمور والمواشي. ثم تطورت هذه الساحات وأصبحت أسواقا صغيرة كل سوق يختص بمهنة معينة، منها سوق المواشي وسوق الحرير وسوق الحدادين. ثم بني حولها سور كبير.
كان مدخله الرئيسي يعرف بـ”دروازة مطرح” ولما بني “سور اللواتية”، بدأت معالم السوق تتشكل، فظهر سوق رئيسي يعرف بـ”سوق الظلام”، هو في أصله عبارة عن حجرات متفرقة من البيوت السكنية الواقعة داخل “سور اللواتية” حُوّلت إلى مخازن لبيع البضائع، وتدريجياً زودت الحجرات بأبواب خاصة لتصبح دكاكين تطل على سكك خارجية، والتي هي ممرات مسقوفة إما بالسعف أو بسقوف خشبية مزخرفة ومشغولة بيد العمانيين المهرة وبمساعدة اليد العاملة الوافدة من الهند ودول آسيا، ما جعل هذه الممرات معتمة.
أطلق على هذا الفرع الرئيسي من السوق اسم “سوق الظلام”، وتتدلى من سقوفه الخشبية مصابيح من الزجاج الملون والحديد المزخرف. وتعود التسمية إلى العتمة التي تتضاعف في الأيام الغائمة، وتطلق تسميتها على الجزء الذي يمتد من “مسجد اللواتية” إلى “خور بمبه”. وهناك تسمية أخرى لهذا السوق بشقيه الغربي والشرقي اللذين تفصل بينهمـا فتحـة “خور بمبه”، وهي السوق الصغير. أما السوق الكبير فيطلق على سوق “الجملة”.
ويتميز سوق مطرح بممراته الضيقة والمتعرجة والمسقوفة بالخشب وكثرة الأزقة والسكك التي تصطف عليها المتاجر التي تمتار بأرضية مرتفعة لحماية البضائع من مياه الأمطار وصار التجار العمانيون يستخدمونها كمنصات لعرض البضائع.
ارتباط السوق والميناء
وقد ارتبط سوق مطرح وميناؤها ارتباطاً وثيقاً، فلما ازدهر ميناء مطرح ونما نمواً تجارياً مطرداً في سبعينيات القرن العشرين انعكس هذا النمو ازدهاراً وتطوراً في السوق ليصبح أشهر سوق في عمان.
للسوق أربعة مداخل أو بوابات مصممة بشكل هندسي ذي بعد جمالي ينسجم مع الروح العامة للمكان. يبدأ من البوابة الرئيسية من الجهة الشمالية مواجهة لساحل البحر وميناء سلطان قابوس، وتعرف باسم “باب الكبير”. وينتهي ببوابة تطل على المدينة القديمة من الجهة الجنوبية التي تعرف بـ”دروازة مطرح” التي كانت البوابة الرئيسية للسوق في بداية نشأته حين كان مجرد ساحة عرض، وكانت لها مواعيد محددة للفتح والإغلاق يستحيل مخالفتها، حيث كانت تنتشر تحت “الدروازة” بسط الباعة المتجولين التي يعرض عليها العسل والسمن البلدي والبخور والأسلحة التقليدية والعصي وقد رممت في بداية سبعينيات القرن العشرين. أما من الجهة الغربية فتوجد مداخل توصل السوق بـ”سوق اللواتية” و”سوق الظلام”، في حين يطل من الجهة الشرقية على مكتب والي مطرح.
تتنوع المعروضات في هذا السوق بين المشغولات اليدوية كالفضيات والخناجر العمانية المشهورة والفخاريات والأقمشة الكشميرية المزركشة بالألوان التي تضج بالحياة. تعلو البوابة الرئيسية قبة من الزجاج الملون أنشئت عام 2005 بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين للعيد الوطني للسلطنة. كانت هذه البوابة في الأصل عبارة عن سوق صغير يسمى “خور بمبة”. والخور عبارة عن خليج يمتد داخل السوق فيشطره إلى ضفتين وتصطف الدكاكين على ضفتي الخور وتعتبر أرضيتها الأكثر ارتفاعاً في السوق وتباع في هذا السوق البضائع المستوردة عبر الميناء والتوابل والبخور واللبان والحلوى العمانية والقهوة والشاي.
يتفرع من المدخل الرئيسي يميناً ممر يصل بينه وبين “سوق الظلام” في “سور اللواتية” وتنتشر على جانبيها أيضاً الدكاكين حيث أن الدكاكين الأقرب إلى المدخل الرئيس تختص ببيع الألبسة الرجالية والأبعد تختص ببيع الذهب المزخرف المشغول الذي يشبه الدانتيل في تصاميمه والمطعم بالأحجار الكريمة.
على يسار البوابة الرئيسية في جانب السوق الشرقي يمتد سوق الجملة وتعرض فيه البضائع المستوردة من الهند والصين وفارس وشرقي افريقيا التي يعاد تصديرها إلى ولايات ساحل عمان والبحرين.
وفي اتجاه السائح من البوابة الشمالية إلى “الدروازة”، توجد ساحة دائرية كبيرة مسقوفة بقبة من الزجاج الملون المحمول على جسور خشبية تسمى الساحة بـ “البرزة” توصل إلى سوقي النور والحرير الذي تنتشر به محلات تجارة الملابس والأقمشة العمانية ومحلات العطور والكماليات في حين يمتد سوق النور من البرزة إلى مركز مطروح الصحي ويضم محلات الحلوى والصرافة والبن والحرفيين والإلكترونيات.
يقول تجار السوق إن أكثر الجنسيات زيارةً للسوق هم من دول إيطاليا، ألمانيا وفرنسا، ويشهد السوق إقبالا كبيرا من السياح الذي يزداد سنوياً حيث غدا لديهم زبائن من مختلف بلدان العالم من أمريكا وأستراليا وسويسرا وغيرها، وذلك لشغفهم واهتمامهم بالتراث العماني واقتنائهم للتحف والفضيات العمانية التقليدية.
إنه مقصد للعمانيين من مختلف الولايات، وللسواح العرب والأجانب، لكنه أيضاً أصبح بفعل شهرته مكاناً يزوره النجوم والشخصيات السياسية، من بينهم وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 حين كان يجري في مسقط محادثات “ماراثونية” مع نظيره الإيراني وخرج في جولة داخل سوق مطرح، وقصد عددا من البازارات المخصصة لبيع الهدايا التذكارية والتحف العمانية. كما زاره الأمير البريطاني هاري حفيد ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، وشارك يومها في رقصة تقليدية يستخدم فيها السيف.
يقابل السوق على الواجهة البحرية ميناء مطرح الذي يعرف بميناء السلطان قابوس الذي هو اليوم بوابة سياحية مهمة للسلطنة، باستقطابه السفن السياحية الكبيرة من مختلف بقاع العالم. ويعتبر السوق والميناء صنوين فازدهار الأول يلقى صداه في السوق وينعكس عليه ازدهاراً. فكان أن صدر مرسوم سلطاني في العام 2011 بتحويل ميناء السلطان قابوس إلى ميناء سياحي ونقل الأنشطة التجارية إلى ميناء صحار الصناعي، وتم في عام 2018 إطلاق مشروع لتطوير واجهة الميناء البحرية بقيمة تصل إلى نحو ملياري دولار لتحويلها إلى واحدة من أرقى الواجهات البحرية في الشرق الأوسط.