Image Not Found

مبنى المنظومة الحقوقية في الإسلام «1-3»

هلال اللواتي – الوطن

-1-

من أهم المواضيع البشرية التي طرحت في ساحتها ولا تزال تطرح وبقوة وبشدة وبأهمية بالغة هو موضوع (الحقوق)، وبرغم أن هذا العنوان من العناوين الواضحة جداً لدى الذهن البشري إلا أن الخلاف قائم في تحديد مضامينه، وتطبيقاته، وموارده، ومصادره، ما جر هذا الاختلاف إلى ذات المفهوم، فالتبرير لفعل ما لا بد وأن يسبقه التأطير الفكري الذي يدور عادة في محور المفهوم وتأصيله، وهذا ما يحدث عند البعض إذ يعمل على تغيير بعض المسائل المتعلقة بعالم المفهوم كي يتسنى له التبرير لفعله!.

وهنا تطرح التساؤلات المهمة في هذا العالم الحقوقي، والتي من جملتها: هل هناك معايير يمكن أن تشكل المحور المرجعي لمفهوم الحقوق أم لا؟!، من الذي يحدد الأطر العامة لهذا المفهوم؟!، ومن أين تكتسب مسائله الشرعية والتوثيق؟!.
وهنا تطرح تساؤلات أخرى متفرعة مما سبق، ولعلها تسبقها رتبة، ومن هذه التساؤلات هي: هل الحق يتكيف مع الوضع البشري أن الوضع البشري يتكيف مع الحق؟!، فبناء على التساؤل الأول فإن الحق أمر طارئ على حياة الإنسان وأنه اكتسب وجوده وقيمته من خلال الإنسان، وأن لا أصل له من أصل، وأما على أساس التساؤل الثاني فإن الحق موجود من أصل، وأن على الإنسان أن ينظر إلى الحق وأن يرضخ له، وعليه أن لا يتكابر عليه، ولكل منهما كما تعلمون لوازم فإذا التزمنا بمفاد التساؤل الأول فمعناه أن الحق أمر نسبي، ومعناه أن الحق أمر اعتباري أي باعتبار المعتبر، سواء كان هذا المعتبر فرداً أو مجموعة، ومعناه أيضاً أن الحق يخضع لظروف الزمكان، وأما إذا أخذنا بمفاد التساؤل الثاني فمعناه أن الحق أمر وجودي، ولا علاقة له باعتبار الأفراد أو المجموعات، كما أنه أمر مطلق وليس نسبي، ولا يتغير بتغير الزمان ولا المكان، فهو بعبارة بسيطة واضحة: بقوة المعادلة الرياضية، ومن هنا ينبغي البحث في موضوع الحقوق عن قرب، والتمعن في حقيقته، المحاولة للإجابة على التساؤلات المتقدمة، مع علمنا أن هناك تساؤلات كثيرة تطرح في البين وينبغي الإجابة عليها، وهذا ما سوف نحاول أن نقوم به ما أمكن وبما تساعدنا هذه الحلقات المتواضعة المختصرة إن شاء الله تعالى.

إن مفهوم الحقوق من المفاهيم المهمة والحساسة التي تلقى أهمية بالغة من قبل الدول والمنظمات الحقوقية .. وغيرها، لكونها تشكل عنصراً من أهم عناصر العدالة وتحقيقها، وتقوم عليه بناءات الدول ومنظماتها، وبها تحقق المصداقية في الوسط المجتمع الدولي، ويلازمه موضوع الحقوق مجموعة من العناوين الحساسة والتي يتوق إليها كل فرد من أفراد المجموعة البشرية، من قبيل: العدالة، الحرية، والسلام، ويتفرع عنها مجموعة أخرى من المسائل من قبيل: الكرامة، والعزة، والقيم الأخلاقية، والسياسة، وتوزيع الثروات، ولو تحقق أحد هذه العناوين تبعه العنوانان لزوماً، لهذا نرى أن العلاقة بين العناوين (الحقوق) و(السلام) و(الحقوق) و(العدالة) و(الحقوق) و(الحرية) علاقة لزومية، وهذا الأمر يستدعي النظر إلى هذين المفهومين بنظرة صحيحة، وتتطلب معرفتهما بشكل دقيق، وإن أفضل انطلاقة إلى استبيان الحقوق هي من الاحتياج الذاتي للممكنات، فما هي علاقة الحقوق بهذا الاحتياج، وما علاقته بالسلام، فهذا ما سوف نتعرف عليه إن شاء الله تعالى في هذا البحث.

والأمر المهم الذي يسعى إليه البحث هو القيام على المباني الأساسية للمفاهيم، فإن تأسيس المطالب على المباني السليمة والصحيحة يساهم في دفع عجلة الفكر البشري وتنميته بإيجابية وسلامة، كما يساهم في تحقيق الشخصية الإيجابية، ومن الضرورة بمكان أن تكون المفاهيم تلائم وتنسجم مع مصاديقها، وأن تكون بمستوى التعبير بنحو يرفع أو يدفع عنها اللبس والغموض، وإذا وجد خلل في المبنى أثر على كل ما سوف يبنى عليه من البناءات الفكرية والسلوكية، وسيظهر هذا الأثر السلبي على كل مفرزات الحياة الفردية والاجتماعية، وهذا ما نشاهده اليوم في حياتنا العصرية.

-2-

لنرجع إلى الحلقة السابقة، فإن مفهوم الحق ما لم ينقح ويعرف بالشكل الصحيح سيظل رهين الأهواء، ورهين تقلبات الرجال أفراد أو جماعات منظمة كانت أو كانت غير منظمة، وهذا يعني غياب المعنى الحقيقي للحق، ومعناه أيضا أن يعيش أفراد المجموعة البشرية وكذلك ما يحيط بها من الكائنات والموجودات رهن تقلبات أولئك، فمتى ما أحبوا وضع مفردة ضمن النطاق الحقوقي وضعوه ومتى ما شاءوا رقعه رفعوه، وهذا من الطبيعي أن يؤثر في القرارات والأحكام، كما يؤثر على التطبيقات على البشر وغيرهم من الكائنات والموجودات، ولهذا توجه كلامنا إلى البحث عن مصدر ومنشأ الحقوق في الحقيقة والواقع، وكيف يمكنه أن يستمد شرعيته واعتباره، وكيف يمكن الوثوق به وبمفرداته، وأن لا يمكن لأحد المساس به من قريب أو بعيد، ومن إذا حاول افتضح، وبات عمله فاشلا، فقلنا متسائلين: هل الحق جعل اعتباري، أو أن الحق جعل وجودي تكويني، ولنوضحه أكثر إن شاء الله تعالی

ويقصد ب(الجعل الوضعي الاعتباري) هنا: هو ما يوضع من قبل واضع وبلسان إعتباري، فللشريعة السماوية وضعها الخاص بها، وللقوانين الأرضية وما يتعارف عليه الناس وضعها الخاص بها، والوضع الإعتباري أمر لا مناص منه، فلابد من إنشأ ما به تقوم التفاهمات بين الناس، ويتم التعامل الحضاري به، وتتلاقح به الأفكار، ولكن السؤال المهم الذي يرد في البين هو: وهل هذا الوضع ، بكلا نسميه ، يقوم بدور تأسيسي إيجادي في العلاقة بين تشريعه وتقنينه وبين الإنسان والكائن، فيكون تشريعه وتقنينه مستقلا عن متطلبات الكائن وغير ناظر إليه أبدا، أم أنه يأخذ في لسان تشريعه وتقنينه متطلبات هذا الكائن واحتياجاته الذاتية، فبالتالي يكون دور هذا التشريع والتقنين دورا تنظيميا وليس إيجاديا؟!.

وهنا ينبغي أن نبين الفرق بين (الدور الإيجادي) وبين (الدور التنظيمي)، وأهمية هذا الفارق، ولنبين الفرق بين الدورين، فتبيينهما أمر في غاية الأهمية، إذ ستتضح مجموعة من المسائل المهمة التي سترد في هذا البحث إن شاء الله تعالی۔

أما تعريف الدور الأيجادي: فهو ما جاء ذكره في القسم الأول من البحث.

-3-

إن العمل على تأصيل مسائل الحقوق، على تأصيل ذات المفهوم، وفصله عن الأهواء والاعتبارات الشخصية والشخصنة، والاهواء الحزبية والتنظيمية لأمر في غاية الأهمية، وما لم تنقح المطالب على هذا المستوى فسيظل البشرية تعالى تقلبات الحقوق لتقلبات متبنيها، والآن لنكمل الكلام حول وظيفة الدور التنظيمي للحقوق.

لا يتبادر إلى ذهنك بأن معنى (الدور التنظيمي) يقتصر على مجرد تنظيم سير عملية سير الكائنات في هذا العالم والوجود وذلك بالإرشاد والتوجيه فقط، كلا فإن وظيفة الدور التنظيمي أوسع مما ذكر، فتشمل الأوامر الإلزامية ـ بالنسبة إلى الكائن المريد العاقل ـ أيضاً، وقد يتطلب الأمر إلى جعل الإنسان مرخي العنان، ويمكن تقريب هذا (الدور التنظيمي) بدور (شرطي المرور)، حيث يرشد ويوجه، ولكنه في بعض الأحيان يأمر وينهى، وقد تتطلب حاجة السير والشارع والمارة إلى تحرير مخالفة في حق المخالف ورفع أمره إلى الجهات المختصة للعمل بما وضعه القانون في خصوص تلكم المخالفة.

ولهذا من المهم أن نوضح معاني المصطحات بشكل أوضح إن شاء الله تعالى، فببيان هذا الفارق بين الدورين (الإيجادي) و(التنظيمي) وبلحاظ العلقة بين ما يصدر من تشريع وتقنين وبين موضوعه ومتعلقةـ لاحظ إننا لا ننظر إلى الأمر بلحاظ لفظي وما عليه لسان البيان وصياغته ـ فإننا سوف نصطلح على الجعل الأرضي بــ (الجعل الوضعي)، وذلك بلحاظ (القانون الوضعي)، وسنصطلح على ما يقابله بــ (الجعل السماوي)، وهو بلحاظ التشريع السماوي، وتفصيله يأتينا بإذن الله تعالى في السطور التالية .. ولكن .. سنكرر الآن التساؤل المتقدم، مع الأخذ في صياغته الفرق بين الدورين، والسؤال سيكون كالآتي .. هل سيكون هذا الجعل الوضعي الذي هو من صناعة الإنسان حاكماً، متقدماً، مستقلاً، مؤَسِساً، أي لا تكون بينه وبين الكائن أي علقة ضرورية سوى ما يفرضه التقنين بالاعتبار المحض؟!، أم سيكون محكوماً متأخراً، غير مستقلٍ، كاشفاً، متكيفاً لما تفرض عليه طبيعة هذا الكائن التكوينية، واحتياجه الواقعي؟!، فلنوضح من ما جاء فيما تقدم من الأسئلة وفق منظور ورؤية (الجعل الوضعي) و(الجعل السماوي) بالبيان الآتي:

الجعل الوضعي: إننا لما أن نقول أن موضوع (الحق) و(الحقوق) من المسائل الجعلية الكسبية فإن هذا يعني أن الغالب في موضوعه البعد الاعتباري ليس فقط على المستوى اللفظي ولسان الكشف عن المراد الجدي والفعلي؛ بل وحتى على مستوى العلاقة بين الموضوع المأمور به وبين مصاديقه أيضاً، وهو يعني أن للمعتبر مدخلية في تحقق موضوع المفهوم (الحق) و(الحقوق) وكذا في تحقق مصاديقه.

وبناء عليه فإن هذا المعتبر أو هذا الواضع هو من سيقوم بوضع مسائل (الحق) و(الحقوق) مفهوماً ومصداقاً، وهو من سيقرر مبادئها وأصولها الفكرية، ومعالمها الأساسية، وهنا قد يكون الواضع والمعتبر فرداً، أو قد يكون جماعةً اتفقت كلمتهم على مسائله والذي من مظاهره ما يعرف في الاصطلاح بـ (العقد الاجتماعي) أو بـ(المجلس التشريعي)، فليس بالضرورة أن يكون هناك ارتباط لزومي بين أصل الجعل وبين الاحتياج الإنساني ومتطلباته، فقد يكون الجعل أمراً خارجاً عن احتياجات الفرد والمجتمع وبعيداً عنه، فيكون أمراً مستقلاً، ومنفرداً، وفي مثل هذه الحالة ينبغي على المرء أن يكيف نفسه عليه، ويبني حياته من تفكير وسلوك وعقيدة وفقه عليه.

ومن الطبيعي أن يؤثر المبنى الفكري للفرد والجماعات على ما سوف يفرز عنهم من مفردات عملية في الساحة البشرية، سواء كان هذا بشكل منظم أو كان بشكل عشوائي، ولهذا ينبغي الاهتمام أولاً على مستوى المبنى الذي من شأنه تأصيل مفهوم الحقوق ثم الانطلاقة إلى عالم التطبيقات لاحقاً.