د. مسلم الطعان** – شرق غرب
الصورة: مسافة استهلال لا بد منها
المكان: سريلانكا
في لحظة صمت وتجلّي وعرفان شعريّ في حضرة الطبيعة، يعدّ الوجد أدوات التوغل في غابات الجمال من أجل الظفر بصيد جماليّ وفير يبعث على الدعة والبهجة والصفاء، اذ تسجّل عدسة الشاعرة-المصوِّرة تفاصيل شعرية المكان لتسردها فيما بعد في نص شعري أدواته الذاكرة وبؤرته لحظة العناق الصوفي مابين حسية المكان الجمالي والدراما اللونية التي تبدعها أصابع المنتج الأعظم لجمال الكون ومبدعه التي تستفز كل شيئ جميل وتدعوه الى البوح بشعرية جمال الوجود. تلتقط عدسة الشاعرة أمامة اللواتي منظرا طبيعيا في غاية الجمال يصور بدوره مسافات الجمال في الطبيعة. تضع الشاعرة – المصورة تلك الصورة في ارشيفها الخاص وهي تدون عبر آلية التصوير Mechanism of Photograph وقائع رحلاتها في بلدان وأماكن مختلفة. ثمّة دهشة شعرية تعبر عنها زمكانية الصورة. أشجار كثيفة في مشهد أخضر يعبر عن اخضرار الحياة وجمالها ويبعث على الأمل والتفاؤل في قراءة ومعايشة مسافات القادم صورة وايقاعا شعريا دافقا بحركية الحياة ورافضا لركودها بما تعني كلمة الرفض للركود Rejection of Stagnation من معنى. جغرافية الصورة الواقعية Geography of the Real Photograph تتحدث عن حوار جمالي ما بين المرتفعات والدفق المائي الذي يشكل شلالات طبيعية. عدسة التصوير تدون بايقاع الصورة وقائع وتفاصيل رحلة قامت بها الشاعرة-المصورة في أروقة الزمان والمكان معا.
الصورة ذاكرة مسافاتية بامتياز
الصورة هي رسالة جمالية Aesthetic Message توفر للنص الشعري فسحة مسافاتية يجوس من خلالها المبدع أحراش وغابات وصحاري وجبال وسهول نصة، وبؤرة التقاء الايقاع الداخلي الحسي مع الايقاع الخارجي الجغرافي هي نواة التشكّل الأولى للرسالة الصورية أو الرسالة ذات البعد الضوئي المسافاتي. أن الشاعرة أمامة اللواتي تستهل نصها بجغرافية الصورة الجمالية التي بدورها تستفز الذات الشعرية لكي تجتهد بإلقاء حمولتها الصورية في اللحظة المناسبة. في كلا الحالتين هي تؤثث بيت شعريتها بصور ذات ايقاع شعري خالص وايقاع تصويري يفرض عليها تفجير وتصويراللحظة الزمكانية فيأتي خطابها التصويري بشقيه مشحونا بطاقة ايقاعية تثير طاقة النشوة الجمالية والفعل الابداعي في الابداعي في آن.
مسافة أولى
حين تتعانق الرياح
تخبو خشخشة الشوك على نحري
وأُنصت للبراعم التي تتفتح
في نهر العاصفة.
ثمة موسيقى صوفية تعزفها أوتار الطبيعة يترجمها مشهد درامي تتعانق به الرياح، وحيث كانت خشخشة الشوك تحاور نحر المرأة-البطلة protagonist وربما تتولد صورة مسافاتية عن حوار دموي ينم عن قسوة الشوك الذي يجرح والنحر الرقيق الذي يقع عليه فعل الخشخشة الجارحة، بيد أن الشاعرة التي تمسك بخيوط دراما النص تريد لأوار الحوار الذي يجرح بأشواك خشخشته أن يخبو فيفعل. فلغة أوار الحوار ما بين خشخشة الشوك والصورة هنا تعبر عن خشونة الموقف اذ تقابله نعومة نحر المرأة-الحبيبة، وهنا يكون فعل الانصات مطلوبا هذه المرة من البراعم التي سوف (تتفتح في نهر العاصفة). الحوار الخارجي يتحول الى حوار انصاتي داخلي رغم أن نهر العاصفة تكون نبرته مدوية ومسموعة أكثر فأكثر لالتقاء صوت العاصفة بالدفق المائي. ايقاعات الطبيعة تتعانق وتتعالق في نص أمامة اللواتي في مسافة الصورة التي ترسمها أقلام العاطفة المتفجرة شعرا والصورة التي تترجم شعريتها ايقاعات عدسة التصوير بمهارة عالية المستوى والايقاع.
مسافة ثانية
أتخلص من شموع المشمش العطرية
التي أُحرق بها رائحة عشيقاتك السرية
ثم أكشف الستر عن رمق الرغبة
وأتسلل إلى مياه النبع الدافئة.
ثمة اشكالية مسافاتية درامية تعيشها المرأة بطلة النص. أن (شموع المشمش العطرية) هي صورة باذخة الجمال بتشابك دلالاتها الحسية وموسيقى حروفها الايقاعية. أن الصورة الشعرية التي تصدم المتلقي بسحر شعريتها وبراعة صياغتها تجمع الحواس في فراش واحد، فالشموع ضوء تستفز حاسة البصر، والمشمش فاكهة توقظ حاسة الذوق وصفة (العطرية) تثير الفعل الجمالي لحاسة الشم، بيد أن لغة المشهد تتغير صورتها ودلالاتها الحسية اذ تتحول الى فعل خلاص تطهيري تحرق به )رائحة) العشيقات السرية. ثمة دلالة صوفية ذات ايقاع حسي تجسدها عبارة (ثم أكشف الستر عن رمق الرغبة). هي تكشف الستر وأي ستر تروم كشفه والرغبة في رمقها الأخير، وبعد عملية الكشف تلك تتسلل الى مسافة (مياه النبع الدافئة).
مسافة ثالثة
ألافٌ من القطع النقدية الزهيدة
وألافٌ من الأمنيات الياقوتية
تتشابك بأصابع قدمي
تلتف حول خلخالي
ورويدا رويدا تتعلق بجدائل شعري
ها قد باركني النبع المقدس
ابتسمُ، أرقصُ تحت الماء.
تصور الشاعرة أمامة اللواتي في المسافة الأخيرة من نصها المسافاتي طقسا شعبيا يمارس في العالم الغربي كما هو حال الطقوس الشعبية ذات الايقاع الاسطوري التي تمارس في العالم الشرقي. ومن رحلاتها المتواصلة في أماكن عديدة من العالم تقتنص الشاعرة موضوع نصها وتشتغل عليه بأناة وبراعة عبر استنطاق مكنوناته الجمالية. قد لا يكون النص وليد اللحظة، بيد أن التوثيق الصوري للحظة الجمالية -بؤرة الفعل الجمالي- هو من يشي بذلك. ستعود الشاعرة لذاكرتها الصورية يوما ما لتقدح شرارة النص الجديد الذي ينبجس من قيعان الصورة، من ثناياها، من تنّوع تضاريسها وتشابك أغصان غاباتها. أن الشيئ الذي لا يظهر في الصورة الضوئية ستكشفه لنا مسابر الشعرية التي تتوغل بعيدا في ايقاع قاع النص رغم بساطة سطحه الظاهري. توثق لنا الشاعرة بعدسة شعريتها ومجسّاتها المسافاتية صورة (آلاف من القطع النقدية الزهيدة) التي تلقي بها الأيادي في غياهب (النبع المقدس). فإيقاعات القطع النقدية الزهيدة ترافقها ايقاعات أخرى لـ (آلاف الأمنيات الياقوتية) التي تتشابك وتتعالق مع أصابع القدم العاشقة، وتلك العملية تحدث فعلا ايقاعيا جماليا يصور بشعرية مدهشة موكب الأمنيات الايقاعية التي تبدأ موسيقاها المسافاتية منذ رمي القطع النقدية الزهيدة التي تحدث دويا عند ارتطامها بالقاع متبوعة بالايقاعات الياقوتية لآلاف الأمنيات. وتلك الطقوسية التي تلتقطها عدسة الشعرية تقابلها طقوسية شرقية تمثلها النذور والأضحيات التي تقدم على قربان تحقيق الأمنيات. أن الحشد الياقوتي لتلك الأمنيات يحدث كرنفالا ايقاعيا يبدأ من حركية الأقدام الناعمة التي تخوض في مياه النبع المقدس لتلتف حول الخلخال الذي يرمز للإيقاع الجمالي لأقدام المرأة، وتلك الايقاعات تواصل المسير في موكبها الجمالي لتصعد رويدا رويدا من أجل الوصول الى مسافة جمالية أخرى. أن فعل التعلق بجدائل الشعر هو سمة جمالية انثوية تضيف للمشهد الدرامي وقعا حسيّا مؤثرا، وهنا تتحقق نشوة اللذة العرفانية بمباركة النبع المقدس، فتبتسم المرأة العاشقة وترقص تحت الماء، فابتسامة المرأة ومباركة النبع المقدس تقابلها مسافة عرفان ايقاعيّ يترجمه ايقاع الرقص تحت الماء.
وخلاصة القول أن الشاعرة أمامة اللواتي تمتلك أدوات رصد معرفي وثقافي وعاطفي وتصويريّ في آن. هي تصهر كل تلك التجارب المسافاتية التي مرت وتمر بها الآن في بوتقة النص احساسا ايقاعيا وتصويرا شعريا وفوتوغرافيا وادهاشا سرديا وتوترا دراميا في غاية الجمال والدهشة، اذ تتشابك وتتعانق في نصها أغصان الواقع والمتخيَّل، الصوفي والعاطفي، مرارة الموقف وحلاوة الأمل. أمامة اللواتي شاعرة مسافاتية بامتياز تجعل من عدستها الجمالية تقتنص لحظة الجمال الشاردة في الحياة وتحيلها الى زمن مرئي يحكي طقوسية الواقع وصوفية الحلم، ويوثق للقادم ما وقع في غابات الماضي، ويؤسطر بساطة الواقع-الحاضر وتعقيداته السيكولوجية، ويدهش المتلقي بواقعية الحلم وحلمية الواقع.
** شاعر وناقد ومترجم وأكاديمي عراقي
تاريخ النشر: 15 إبريل 2019م