لقاء: سالم الحسيني – عُمان
حادثة الإسراء والمعراج حدث عظيم حمل في طياته مجموعة من الدروس والعبر العظيمة، وكشف عن مقام النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم في عوالم الغيب والملكوت، كما كشف كثيرا من المعارف القرآنية التي تحدثت عنها الآيات الكريمة.. كما جمعت هذه الرحلة بين الأنبياء للدلالة على أنها رسالة واحدة وإن تعددت تفاصيلها وأشكالها، وإن اختلفت أزمنتها وأماكنها وأشخاصها، فهي الرسالة الجامعة لمختلف الأطياف البشرية. كما نستلهم من هذه الحادثة أن المنح الربانية تكمن في طيات المحن والشدائد وتعلمنا الصبر على المحن والأحزان وجاءت هذه الحادثة العظيمة جلاء لجراح الماضي وتثبيتا لقلبه صلى الله عليه وسلم وتعويضا عن جفوة الأرض بحفاوة السماء.. وديننا الإسلامي دين عالمي، يتجاوز الأطر الضيقة من الأماكن والأجناس والألوان والأشكال، ويتخطى كل أسباب التمييز والتفرقة بين البشر، ويترفع عن مختلف أشكال العنصرية، فهو دين يسمو بالنفس ويرتقي بها إلى أعلى مستويات الصلات الإنسانية وأطهر الغايات وأنبلها، ذلك ما أوضحه اللقاء التالي الذي يتحدث عن هذه المناسبة الجليلة.
يحدثنا أولا السيد الدكتور أحمد بن سعيد بن خليفة البوسعيدي المدير المختص بالمديرية العامة للوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية ونائب رئيس الجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم فيقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل دين الإسلام دينا عالميا، يتجاوز الأطر الضيقة من الأماكن والأجناس والألوان والأشكال، ويتخطى كل أسباب التمييز والتفرقة بين البشر، ويترفع عن مختلف أشكال العنصرية، إنه دين يسمو بالنفس ويرتقي بها إلى أعلى مستويات الصلات الإنسانية وأطهر الغايات وأنبلها، والجميع فيه يتساوون في مقام العبودية لله، فالإنسان مهما علا شأنه وارتفعت مكانته لا يخرج من كونه عبدا لله، يقول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فرسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – جاءت إلى كافة شرائح الناس، ومختلف الأزمان بعده إلى قيام الساعة، يقول تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، فهي رسالة رحمة وسلام وسعادة للبشرية جمعاء، وليست إرهابا ولا قتلا ولا كرها للآخرين، يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فالإسلام يوجب احترام الآخرين وتقديرهم وعدم ظلمهم وإعطاءهم حقوقهم وإن حصل الاختلاف معهم، بل يتعدى ذلك إلى الأمر بدفع أخطائهم وتجاوزاتهم بالإحسان إليهم، وهذا قمة في السمو الأخلاقي.
وأضاف: إن رحلة الإسراء والمعراج رحلة علوية تتسامى فيها الرغبات، رحلة محبة وإخاء، رحلة جمعت بين الأنبياء – عليهم الصلاة وأزكى التسليم – للدلالة على أنها رسالة واحدة وإن تعددت تفاصيلها وأشكالها، وإن اختلفت أزمنتها وأماكنها وأشخاصها، إنها الرسالة الجامعة لمختلف الأطياف البشرية، لأنها تنزلت من خالقهم ومدبر أمرهم، إنها رسالة واحدة لدين واحد، دين الإسلام الخالد، يقول الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، وكل نبي يأتي من قبل الله فإنه يجب اتباعه، ويكون امتدادا لمن قبله من الأنبياء وإن كان في الوقت ذاته ينسخ ما قبله من شرائع الأنبياء الذين سبقوه لحكمة إلهية أرادها الله، لذا أتت البشارات الربانية بمبعث خاتم الرسل والأنبياء سيدنا محمد – عليه السلام – في الكتب الإلهية السابقة، وأنه يجب اتباعه فهو ينسخ ما قبله، وشريعته جاءت للتخفيف ورفع بعض التكاليف عنهم، كما أن صلاة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في رحلة الإسراء بالأنبياء دليل واضح على الريادة والمكانة المرموقة لشريعته على سائر الشرائع قبله.
ومن هنا نذكر المسلمين وهم يعيشون عبق هذه الذكرى العطرة من ذكريات المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- ذكرى الرحلة التي جابت الآفاق، وسمت بالأنفس والأرواح، رحلة الإسراء والمعراج، أن يقوموا بواجبهم تجاه الإنسانية من بيان أهداف الرسالة الإلهية السامية التي تسمو بالإنسان ليتجاوز جميع النطاقات الضيقة، وتخرجه من حال العداء والبغضاء والحقد والكراهية لهذا الدين القويم الموافق للعقل والفطرة إلى حال الإكبار والتقدير والإجلال له، وتفتح الآفاق للتشارك واللقاء بين الأطياف البشرية المختلفة، وأن يعتنوا عناية كبيرة بالجانب الإعلامي بشكل عام وبوسائل التواصل الحديثة بشكل خاص لتوضيح صورة الإسلام الصحيحة ومبادئه القويمة، ودحض الشبه والافتراءات التي تلقى عليه، وتمثل هذه القيم والمبادئ في سلوكهم وأعمالهم وتصرفاتهم ومواقفهم قبل أقوالهم وتصريحاتهم.
ذكرى تتوق لها النفوس
أما شيخة بنت صالح الحسنية – مرشدة دينية بدائرة الإرشاد النسوي – وزارة الأوقاف والشؤون الدينية فتقول: تطل علينا ضفاف ذكرى عظيمة عزيزة على قلوبنا ذكرى تحمل معها معجزة من أكبر معجزات الدين الإسلامي في تاريخ البشرية ذكرى تتوق لها النفوس، وتحلق نحوها الأفئدة في رحاب الكون الفسيح والحديث حديث الروح والمشاعر والأحاسيس والوجدان حديث الحنين والأشواق والهيبة والجمال حديث الحب الإلهي، حديث ذكرى حملت في طياتها مضامين الخير والفلاح ألا وهي ذكرى الإسراء والمعراج إنها معجزة خالدة خلدها الله حين ذكرها في القرآن وسمى باسمها سورة من سور القرآن الكريم وهي سورة الإسراء فبدأ سبحانه وتعالى بكلمة التسبيح التي تبعث في النفس الهدوء والطمأنينة والأمل إنها قدرة الخالق في بديع صنعه بدأها بتسبيح وتنزيه نفسه مفتتحا بها السورة، حيث يقول سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) والإسراء هو المسير أو السير ليلا فالله سبحانه وتعالى أسرى برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وخص سبحانه بذكر وقت الليل لأن الليل وقت الهدوء والسكينة والطمأنينة ونزول النفحات والبركات الربانية ويكون أدعى لمناجاة العبد لربه وتتجلى فيه آيات وآفاق عظيمة للمؤمنين واستشعارا للأنس والطمأنينة في دجى الليل البهيم.
وأضافت قائلة: إن الله سبحانه وتعالى وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبد وهذا تكريما وتشريفا له من الله سبحانه وتعالى وكونه عبدا لله فقد حف برعاية الله له، وكان مسراه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السموات العلا . ودلت دلالات على وجود المعراج في سورة النجم قال عز وجل في محكم كتابه العزيز: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) وما أعظمها من رحلة وما أبهاها ففيها خير الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهي حدث عظيم حدث خالد في تاريخ هذه الأمة فهو فرع من فروع الإيمان وترسيخ صلة الإنسان بخالقه. والتأمل والتفكر في آيات الله العظمى ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم مشاهد من العظمة والسمو والجلال والجمال ما يبعث في نفسه الراحة والسكينة فلنحلق بأرواحنا ونسمو بها في ملكوت السموات قال تعالى: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) حيث يستشعر الإنسان الآيات الكونية العظيمة ويستشعر عظمة هذا الكون وعظمة الخالق. فالذي خلق هذا الكون بأسره لا يعجزه أن يسري بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من مسجد إلى مسجد ثم يعرج به إلى السموات العلا ويفتح له آفاق وسنن هذا الكون الفسيح.
وأشارت إلى أن الله سبحانه وتعالى أكرم رسوله أن ربط هذا الحدث الضخم بمسجدين عظيمين شريفين فبداية الرحلة من المسجد الحرام ونهايتها في المسجد الأقصى ثم العروج به إلى السموات العلا وجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مكملة لجميع الرسالات. والأمم السابقة تدعو إلى توحيد الله والتوحيد هو محور وأساس جميع الرسالات السماوية السابقة. مؤكدة أن حادثة الإسراء والمعراج تعلمنا بأن المنح الربانية تكمن في طيات المحن والشدائد فإذا صبر العبد فإن اليسر آت لا محالة فاليسر يأتي بعد العسر (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وتعلمنا الصبر على المحن والأحزان وجاءت هذه الحادثة العظيمة جلاء لجراح الماضي وتثبيتا لقلبه صلى الله عليه وسلم وتعويضا عن جفوة الأرض بحفاوة السماء وتسرية عن نفسه وتكريما وتشريفا له.
حدث عظيم
وقال هلال بن حسن اللواتي: حادثة «الإسراء والمعراج» شكلت لدى الإنسان نمطاً من التفكير، وأسلوباً من التسلسل المنطقي، وهذا النمط ليس بالضرورة أن يكون مطابقاً للقواعد العقلية في التفكير، بل قد تفارقه، مشيرا إلى أنه من الاشتباهات التي وقع البعض فيها في تقييم ومعرفة الإسراء والمعراج هو قياس عالم الإسراء والمعراج على عالم المادة، وهذا من أعظم الاشتباهات التي وقع فيها البعض، فمثلاً، لو أردت أن أتعرف على عالم الأحلام، فهل يمكنني أن أستعمل مواد عالم المادة لمعرفته، حتماً لا، لأننا أمام عالمين مختلفين، لهذا يحتاج كل منهما إلى أدوات قياسية تتناسب وعالمها، وإن عالم الإسراء والمعراج هو من عالم الغيب والتجرد، ونحاول معرفة ودراسة الإسراء والمعراج بمواد عالم المادة فهذا لا يساعدنا على فهم طبيعة هذا الحدث العظيم، بل سوف يؤدي بالبعض إلى الإنكار، والعلّة كما تقدم توضيحها.
وأكد أن هذا الحدث العظيم حمل في طياته مجموعة من الدروس والعبر العظيمة، فمنها أنه كشف عن مقام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين في عوالم الغيب والملكوت، وكشف لنا أيضاً مستوى علاقته مع خالق الوجود، كما كشف في الوقت نفسه انفراده بهذه العلاقة العظيمة دون سائر الأنبياء عليهم السلام، ومنها كشف الكثير من المعارف القرآنية التي تحدثت عنها الآيات الكريمة من قبيل الجنة والنار، إضافة إلى إضفاء روح الهيمنة القرآنية ومعارفه في الوسط الاجتماعي ما زاد من يقين المؤمن بالله تعالى وبالمعارف القرآنية وبالنبي محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، إذ الولوج إلى عالم الغيب والنظر إلى تفاصيل كثيرة فيه ليس بالأمر السهل، بل أمر صعب جداً، ولا يفلح في معرفته إلى الولي الحقيقي، وإلا فإننا سنقع في مصيدة المدعين، الأمر الذي يدعو الإنسان المؤمن والمسلم إليه إلى ضرورة التسلح بمعارف القرآن الكريم والتي هي معارف التوحيد، ومن دون التسلح بهذه المعارف العظيمة فإن معرفة تلكم الحقائق كما هي عليه سيكون أمراً شبه مستحيل، وفيه هذا وقع البعض في شطحات ومغالطات أفقدهم التوازن في عقديتهم وسلوكهم في عالم السير والسلوك إلى الله تبارك وتعالى. أضف إلى ذلك أن هذا الحدث يعد محطة مهمة لكل إنسان مسلم ليتزود منها من المعارف التوحيدية، ومن الطبيعة التي عليه هذا الحدث، فإن الإسراء والمعراج وقود أساسي لتزيد الإنسان المسلم بما يحتاجه في معترك الحياة من تحديات لعقله، وكيفية إنزال هذه المعارف العقلية إلى الساحة الإنسانية الفردية والاجتماعية، نعم الأمر ليس بالأمر الهين، لهذا ينبغي على الإنسان المسلم التعلم من خلال الحدث كيفية مواجهة التحديات التي تعترضه والتحديات التي تقف دون فهمه بالشكل الصحيح، والتحديات التي تواجهها معارف التوحيد.
يتجدد الأمل
أما د. فتحي بوعجيلة الأستاذ بكلية العلوم الشرعية بمسقط فيقول: تتجدّد ذكرى الإسراء والمعراج كلّ سنة لتتجدّد معها التأمّلات في السيرة العطرة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وليستلهم منها المتأمّل مزيدًا من الحكَم والعِبَر، التي تنير الذهن، وتشحذ الهمم ، وترشّد السلوك. وهذا الحدث جاء تثبيتًا وتكريمًا للنبي، وإعدادًا لقواه النفسيَّة والعقليَّة والجسميَّة لتحمُّل أعباء الرسالة العامَّة، وخذلان أعدائه، وعلوِّ كلمته، ويوحي للمسلمين بمكان بدئه وهو المسجد الحرام، ومكان نهايته وهو المسجد الأقصى، يوحي بمهابط الوحي الأوَّل الذي تلقَّاه إبراهيم وإسماعيل، ومهبط الوحي الثاني الذي تلقَّاه موسى وعيسى، وأنها كلها مهابط الرسالة الإلهية التي جاء نبينا الكريم لتكميلها والهيمنة عليها، وأن تلك الرسالات – وإن اختلفت أزمنتها، وتعدَّدت رسلها- واحدة في دعوتها وغايتها، وأن الرسل جميعًا الذين اصطفاهم الله لتبليغها بُنَاة بيت واحد، يضع آخر لبنة فيه خاتمهم محمد بن عبد الله، صاحب الإسراء والمعراج. إذن فلا بُدَّ أن يخفق على هذه الأماكن جميعها علم التوحيد والإيمان، على النحو الذي جاء في رسالته، ولا بُدَّ أن تطهر رقعتها من بذور الوثنيَّة ، والظلم ، والفساد، وأن يعلو فيها سلطان الحقِّ وعدالة السماء .