Image Not Found

كيف تُقدِّم نصيحة أفضل: بحث يُميط اللثام عن الأخطاء الشائعة التي نرتكبها حينما نحاول تقديم يد العون للآخرين

بقلم فرانشيسكا جينو*

عندما قَبِل جريج دايك منصب المدير العام الجديد لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في أوائل العقد الأوّل من هذا القرن، وجد أمامه مؤسسة مضطربة بحاجة إلى إصلاح، ونصحه مديرون تنفيذيّون آخرون أن يبدأ بعرض رؤية واضحة عن شركة الإذاعة، ومن ثَم تنفيذها من خلال الإدارة والتفويض. اتبع دايك نهجًا آخر: إذ سافر لمدة خمسة أشهر قبل أن يخوض في دوره الجديد، وأخذ يزور مكاتب الهيئة في أنحاء المملكة المتحدة، يسأل موظفيها عما يجب عليه فعله لتحسين أوضاعهم، وللمشاهدين، والمستمعين، وأتى نهجه بثماره: ففي غضون سنة دايك الأولى في المنصب، ارتفعت تقييمات محطتي بي بي سي 1 BBC1 وبي بي سي 2 BBC2 التليفزيونيتين، ووصل عدد مستمعي إذاعة بي بي سي BBC radio إلى رقم قياسي.

يبدو أننا، كشأن المديرين التنفيذيين الذين نصحوا دايك، لدينا جميعًا فكرة جيدة عن ماهية النصيحة المفيدة: وهي استعمال معرفتنا وخبرتنا في إطلاع الآخرين على كيفية تقليص خياراتهم والتركيز على القيام بالتحرك الصائب، إلا أن بحثًا جديدًا أجريناه أنا وزملائي يُظْهِر أنه توجد طريقة أفضل للتعامل مع أمر النصيحة. فالناس الذين يسعون إلى النصيحة لا يرغبون، على الأغلب، في أن يُقال لهم ما عليهم فعله، وإنما في جمع المعلومات، بحيث يصبح لديهم مزيدٌ من البدائل والرُؤى التي يمكنهم النظر فيها، ويتسبب عدم التوافق هذا في مشكلات: فالنصيحة التي نقدّمها للآخرين ينتهي بها الأمر إلى أن تصبح أقل نفعًا، ولا يتّبِع متلقو النصيحة توصياتنا، ونتيجة لذلك ننظر إليهم نظرة سلبية. أما دايك، فكان، كما اتّضح، أستاذًا بارعًا في تقديم النصيحة التي ساعدت فعلًا موظفيه؛ وقادتهم إلى النجاح.

وفي دراسة مختبرية عن تقديم النصيحة، جمعتُ أنا وزملائي مشتركين كانوا إما بارعين في الترميز بلغة جافا )ليقوموا بدور الناصحين) وإما مهتمين بتعلم الترميز بلغة جافا (ليقوموا بدور ملتمسي النصيحة)، وجعلنا أزواجًا من الناصحين وملتمسي النصيحة يتصل بعضُهم ببعض، لينخرطوا معًا آنيًا في محادثة نصية بخصوص إعطاء أو تلقي نصيحة عن تعلُّم لغة جافا، ووجدنا أن الباحثين عن النصيحة اعتبروا أن الغرض من التفاعل أكثر تمحورًا حول الحصول على معلومات، بينما اعتبر الناصحون أنه أكثر تمحورًا حول الإرشاد، وقاد هذا الانفصال الناصحين إلى المغالاة في تقدير احتمال الأخذ بنصائحهم، ونتيجة لذلك، تعرّض ملتمسو النصيحة لخطر مواجهة عواقب غير متوقعة إذا لم يأخذوا بالنصائح، كالإساءة –مثلًا- إلى مقدّمي النصيحة، وتقليص اهتمامهم بتقديم مزيد من النصائح في المستقبل.

عدم تطابق الأهداف بين مقدّمي النصائح ومتلقيها يُمثل جزءًا من مشكلة أكبر: غالبًا ما يفشل الخبراء وغيرهم من الناصحين في فهم رؤى ملتمسي النصيحة وشواغلهم فهمًا حقيقيًا، فرغم أننا عادةً ما نتعرض لكلتا خبرتَي التماس النصيحة وتقديمها، فإننا عندما نقوم بدور مقدم النصيحة، ننسى -على يبدو- الأمر الذي نراه مفيدًا للغاية في مد يدّ العون إلى الآخرين أو تلقيه منهم.

إن النصيحة السيّئة شيء عديم القيمة، والمستشارون والموجّهون والآباء والمعلمون والأطباء والمحللون الماليون، وجميعنا، كثيرًا ما نرتكب خطيئة عدم بذل وقت وجهد كافيين في تقديم النصيحة، وتكون النتيجة تقديمنا توصيات فاشلة. إن تغييرًا بسيطًا في الأهداف، ونحن نتعامل مع مواقف إسداء النصيحة، يمكن أن يساعدنا على تجنب هذه النهاية.

على سبيل المثال، بصفتنا مقدّمي نصائح، نركِّز اهتمامنا في فوائد توصياتنا على نحو أكبر من اهتمامنا بعواقبها. في إحدى الدراسات، ركَّز خبراء الاعتداء الجنسي، الذين قدّموا نصائح للنساء بخصوص كيفية تجنّب الاعتداء الجنسي والتعامل معه، على الفوائد بشكل أكبر من اهتمامهم بعواقب استراتيجيات الوقاية المحتملة. فمثلا، شدّد الخبراء على الكيفية التي يمكن بها لاستعمال استراتيجيات الدفاع عن النفس أن تعزِّز صحة النساء النفسية وثقتهن بأنفسهن، في حين أن النسوة ركّزن على أنها يمكن أن تؤدّي إلى مزيد من الإصابات لهن، أو تجعل المهاجم أكثر جنونًا وعنفًا. من وجهة نظر النساء، ما أوصى به الخبراء يمكن أن يؤدي إلى استفحال المشكلات (مثلًا: المزيد من العدوانية) وليس إلى حلّها.

وبصفتنا مقدّمي نصائح، نُعطي أيضًا الآخرين توصيات تختلف عمّا من شأننا أن نقدمه لأنفسنا. فالقادة ينصحون مديري المستويات الأدنى بأن يضعوا للعاملين أنماط السلوكيات الصحيحة، كدعوتهم للإسهام بأفكارهم أو إعطائهم فرصة أكبر للنمو الشخصي، في حين أنهم هم أنفسهم في الواقع لا يتصرفون غالبًا بتلك الطريقة.

وعادةً ما نطلب من الآخرين ألا يُمضوا وقتًا أطول مما ينبغي في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يتردّدوا أكثر على صالات الألعاب الرياضية بدلًا من الجلوس على الأريكة ومشاهدة التليفزيون، وأن يكونوا أكثر مسؤولية في تعاملهم مع البيئة، في حين أننا أنفسنا لا نفعل ذلك.

يوجد انفصالٌ -على ما يبدو- بين ما يقدِّر الناصحون والمنصوحون قيمته، فالناصحون يركّزون على العوامل المقبولة اجتماعيًا، ويركّز المنصوحون على العوامل التي تتّسم بطابع عملي أكبر. فعلى سبيل المثال، توصَّل بحث إلى أن المشاركين الذين كانوا ينصحون آخرين بشأن كيفية الاختيار من بين الوظائف لهم، اقترحوا أن يركّزوا على خصائص مقبولة اجتماعيًا، مثل “تحقيق الذات”، بدلًا من إدراج اعتباراتٍ أقل قبولًا اجتماعيًا، مثل مستوى الأجر.

إن مراعاة منظور الشخص الذي نتحدث معه يمكن أن يساعدنا جميعًا على أن نصبح أفضل في تقديم النصائح (وبشكل أعمّ أن نفهم الناس على نحو أفضل). مراعاة منظور الآخر قد تتضمن التفكير مليًا في القرار، كما لو كنّا لا نمتلك المعلومات التي لدينا بصفتنا خبراء، وتوصَّل البحث إلى أنه عندما نفكر على نحو أقرب إلى المبتدئين، تكون النتيجة أن نصيحتنا تصبح أكثر نفعًا.

ففي إحدى الدراسات، استقدمت تينج شانج، من كلية هارفارد للأعمال، عازفي جيتار خبراء وطلبت من بعضهم قلب جيتاراتهم على الناحية الأخرى بحيث يعزفون على الأوتار بيدهم غير المهيمنة (اليد اليمنى للأعسر، واليسرى للأيمن)، وطلبت من آخرين، ضمن المجموعة المرجعية، أن يعزفوا بالطريقة الطبيعية، ثم شاهد هؤلاء العازفون الخبراء جميعهم مقطع فيديو لعازف جيتار مبتدئ، كان يلقى عناءً في عزف قليل من النغمات، وطُلِب منهم تقديم نصيحة له.

واستقدمت شانج أيضًا مجموعة منفصلة من عازفي الجيتار الذين كانوا يمارسون العزف على الجيتار منذ سنة فقط أو أقل، وطلبتْ منهم تقييم نصائح الخبراء، واعتبر هؤلاء المبتدئون في تقييمهم أن نصائح الخبراء الذين حملوا الجيتارات وعزفوا عليها بالطريقة غير التقليدية أكثر نفعًا من نصائح أولئك الذين في الوضعية المرجعية، إذ جعلهم التصرف كمبتدئين يفكّرون بعقلية المبتدئين، وكانت النتيجة نصيحةً أفضل.

بصفتنا مقدّمي نصائح، نعتمد في كثير من الأحيان، اعتمادًا مفرطًا على افتراضاتنا الذاتية عندما نحاول التنبؤ بتصرفات الآخرين وأفكارهم ومشاعرهم، لذا، قبل تقديم التوصيات، ينبغي أن نسأل متلقي النصيحة أسئلة تهدف إلى فهم أفضل لسبب استشارته إيّانا في المقام الأول، والكيفية التي يمكننا بها أن نقدم له أقصى منفعة.

عندما سافر دايك في أرجاء المملكة المتحدة من أجل التحدث إلى موظفي هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، طرح عليهم أسئلة، ثم استمع بعناَيةٍ إلى إجاباتهم، وعرف أن العاملين كانوا محبطين، ومجرَّدين من الدافع، وقليلي الحيلة، لكنّه أيضًا اطّلَع على أفكارهم بشأن كيفية حل هذه المشكلات، واكتسب فهمًا عميقًا لوجهات نظرهم، لذلك عندما خاطب دايك، كما هو متعارف عليه، طاقمَ العمل في اليوم الأول لتولّيه المنصب رسميًا، كان الجميع متلهفين لسماع خططه والعمل معه لجعلها واقعًا ملموسًا.

View this in English

* متخصصة في علم السلوك وأستاذة عائلة تاندون لإدارة الأعمال في كلية هارفارد للأعمال، ومؤلفة كتاب “الخروج عن المسار” (مطبعة هارفارد بيزنس ريفيو، 2013).

المصدر: موقع للعلم