كثيرًا ما يُطرح سؤالٌ مفاده: كيف للعلم أن يكشف لنا عن قصة نشأة الكون وتاريخه؟ ففي تلك اللحظات الفريدة، كان الكون خاليًا من أي كائن حي، فضلًا عن مخلوق مُفكِّر يرصد ويكتب ما حدث، ولذا كثيرًا ما يُثار تساؤلٌ حول هذه القصة وتفاصيلها، ويظن الكثيرون أنها لا تعدو فرضيات تفتقر إلى أدلة علمية!
لا شك أنها تساؤلات مشروعة، ويحق لكل أحد أن يطرحها؛ بل يجب عليه أن يطرحها، فمن حق عقلك عليك ألّا تفرض عليه أفكارًا لا تعلم قيمة مصدرها، ومدى دقتها، فضلًا عن دفعه للإيمان بتلك الأفكار والعمل بها. أما بالنسبة لقصة نشأة الكون وتطوره، فهناك عدد من الأدوات والآليات التي اعتمد عليها علم الكون للكشف عن نشأة الكون وتاريخه، لكننا سنقتصر على في هذه العجالة على إحدى هذه الأدوات وربما أهمها على الإطلاق وهو الضوء.
اتضح لنا أن الضوء عبارة عن شكل من أشكال الطاقة، وأنه يتكون من موجات لها أطوال معينة، فكلما كان الضوء مائلًا إلى الحمرة، كانت موجته أكبر وطاقته أقل، وكلما كان مائلًا إلى الزُرقة، كانت موجته أقصر وطاقته أعلى. واتضح لنا أيضًا أن الضوء لا يقتصر على ما نراه بأعيننا؛ فهناك ضوء لا نراه، لأن حاسة الإبصار عندنا تستطيع أن ترى أصنافًا مُعيّنة من الضوء أطلقنا عليه “الضوء المرئي”، ولذا فنحن لا نرى أشياءً كثيرة في محيطنا لا لصغر حجمها؛ بل لأن أبصارنا قاصرة عن رؤيتها، فهي تصدر ضوءًا لا نراه ولا نُبصره!
وتبيَّن لنا أن ذرّات العناصر الكيميائية المختلفة عندما تُوضع في ظروف مُعينة فإنها تُصدر طيفًا (ضوءًا) ذي خواص معينة فريدة من نوعها، بحيث يُمكننا من خلالها التعرف على نوع الذرة التي صدر منها ذلك الضوء، وقد يكون الطيف الصادر من الذرة مرئيًا وربما لا يكون كذلك. لذا عند تحليل ذلك الضوء يُمكننا أن نتعرف على الطبيعة الكيميائية لمصدر الضوء، وقد مكننا ذلك من التعرف على الطبيعة الكيميائية المكونة للنجوم المتلألئة، ومن خلال ذلك يمكن أن نقارن بين طبيعة النجوم ومكوناتها وطبيعة الكواكب، ونقارن كل ذلك بطبيعة كرتنا الأرضية، كما إن ذلك يعني أننا لا نحتاج إلى أن نغادر كوكبنا لمعرفة طبيعة تلك الكواكب والنجوم، فبإمكاننا القيام بذلك من خلال رصد الضوء الصادر من تلك النجوم والكواكب. وقد اكتشفنا أننا عندما ننظر إلى النجوم في السماء، فإننا نعود إلى الماضي؛ إذ تبيَّن لنا أننا لكي نتعرف على تاريخ الكون لا نحتاج لوثيقة كُتبت في زمن قديم ونتحقق من صحة نسبتها؛ بل يمكننا أن نطّلع على تاريخ الكون بنظرة إلى نجومه المُنيرة، فتاريخه محفور في أرجائه الواسعة والممتدة في الأفق!
السبب في ذلك أننا علمنا أن الضوء له سرعة محددة تبلغ 300000 كم في الثانية، ولأن النجوم والكواكب تبعد عن كوكبنا مسافات خيالية، فإن الضوء هو الآخر يحتاج إلى مدة زمنية ليقطع تلك المسافات، فهو يحتاج إلى 8 دقائق ليقطع المسافة من الشمس إلى الأرض، ولذا فالضوء الذي يصلنا يُطلعنا على أحوال الشمس قبل 8 دقائق، ويحتاج الضوء إلى مليارات السنوات ليصل إلينا من بعض المجرّات، ويُطلعنا على حال تلك المجرات قبل مليارات السنوات، فنحن عندما ننظر إلى تلك المجرات عبر التلسكوبات نعود بالزمن للوراء لمليارات السنوات، ونرى حال تلك المجرات آنذاك؛ فالتلسكوبات آلة الزمن التي تعود بنا إلى الماضي السحيق، وبها نرى كيف كان الكون قبل أن نوجد فيه!
لكن التلسكوبات عندما تصل إلى أفق معين، فإنها لا ترى سوى ظُلمة قاتمة، والسبب في ذلك أن الضوء لم يعد قادرًا على الوصول إلينا؛ لأنه يقطع مسافات شاسعة وينتشر في الفضاء كليًا فلا يصل إلينا. لذا فنحن لا نعلم من الكون إلّا ما يُمكنه الوصول إلينا، أما وراء ذلك فهو غيبٌ لم ولن نطّلع عليه؛ فالضوء أسرع وسيلة ناقلة للمعلومة، لا نعرف وسيلة أسرع منها!
وكما إننا نرى الماضي السحيق من خلال نظرنا إلى الفضاء، فإن ذلك ينطبق على من ينظر إلى كوكبنا من الفضاء، فإذا وُجِد بشر في مجرة قريبة من مجرتنا تدعى “أندرومينا”، لأمكنهم رؤية الأرض كما كانت عندما كان البشر الأوائل يسكنون فيها!
كان أجدادنا يظنون أن الضوء يُنير لنا دروب الأرض ويذهب بظلمة الطريق فحسب، ولم يكن أحد يتصور أنه يحمل معه كمًّا هائلًا من المعلومات تُنير عقولنا ونبصر بها دروب التاريخ… لا تاريخ الحضارات البشرية فحسب؛ بل تاريخ الكون بأسره، فهو يحمل أسرار الكون وتاريخه منذ نشأته في قيعان وقمم موجاته، واستطعنا اليوم أن نفهم اللغة التي كُتب بها ونفك رموزها ونقرأ شفرتها.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس