الغربان الميتة ( 1/2)
حين وصلت إليها سميتها بيني وبين نفسي بمثلث برمودا ! لكنها في اللغة النيبالية تعني (الغربان الميتة).
” الرحلة كلها في كفة، وليلة جورك شيب في كفة” هكذا كان رفاقنا الذين وصلوا سابقا إلى السفح يقولون.
“علينا أن نصمد هذه الليلة خاصة إذا كنا مصرين على العودة مشيا. هنا في جورك شيب تتغير النوايا والخطط” هكذا كنت أقول لرفاق الرحلة .
ثم قلت مازحة لفريد أحد رفاق الرحلة ” إذا رأيتني قد استسلمت ووقفت على باب المروحية (الهليكوبتر) لأعود بها اسحبني بكل قوة بعيدا عنها”.
جورك شيب ليست قرية بالمعنى المتعارف عليه مثل بقية القرى التي مررنا بها، هي أشبه بتجمع أو مستعمرة كما تترجم باللغة الإنجليزية ،مكونة من خمس منازل ضيافة بدائية الخدمات، وإن كانت تتوفر بها جميع الخدمات الأساسية من ماء وطعام ومكان للنوم وحتى شبكة الاتصال وخدمة الانترنت. في الطريق إليها أخبرني أحد الأجانب العائدين منها بأنها مقرفة وأنها مزدحمة وإذا كنا لا نملك حجزا فنحن في ورطة. وبالفعل قد يضطر البعض إلى النوم في صالة الطعام لعدم توفر الغرف.
ينطلق المغامرون في يومهم الأخير من قرية لوبوشي باتجاه مخيم السفح، ويتوقفون في جورك شيب للراحة والغذاء والتخلص من أي ثقل زائد ومن ثم يكملون مسارهم باتجاه السفح، وهناك يلتقطون الصور التذكارية لبلوغهم الهدف في اليوم الثامن لانطلاق رحلتهم، ومن ثم يعودون الى جورك شيب لقضاء ليلة واحدة والانطلاق في مسار العودة في اليوم التالي بعد تناول وجبة الإفطار. أو ربما للصعود قليلا إلى قمة كالاباثار بارتفاع 5545 متر القريبة للُنزل والتمتع بمنظر آسر لجميع القمم عند شروق الشمس. وهو ما فاتنا للأسف الشديد.
جورك شيب تحوي أيضا مهبطا للطائرات المروحية، والعودة منها مكلفة قليلا فكلما زاد الارتفاع زادت تكلفة كل شيء من الماء الى المواصلات. الهليكوبتر لا تحمل سوى 4 أشخاص وسعر الهليكوبتر 1750 دولارا يتم تقسيمها على الأفراد الذين سيعودون بها.
وصلنا إليها بعد ما يقارب 6 ساعات من المشي المتواصل والمتعب ليس بسبب الطريق الذي كان سهلا بل بسبب الارتفاع، جورك شيب تقع على ارتفاع 5170 ولا يفصلها عن مخيم سفح أفرست الرئيس سوى 300 متر، لكن هذه 300 متر يقطعها الماشي في 4-5 ساعات مشي بطيء بسبب تناقص نسبة الأكسجين.
في جورك شيب يتعرض الكثيرون للوعكات الصحية وأعراض الارتفاعات وقد يضطرون للنزول مسافة ألف متر والا تسبب ذلك بنتائج صحية مقلقة وربما خطيرة في حالة نقص الأكسجين. قنينة الأكسجين التي أعطيت للبعض هنا كان سعرها 100 دولار للساعة الواحدة، وبعد ساعتين أو ثلاث يتم فصل الاكسجين عنك وإعادة فحصه ليرتفع الى المستوى الملائم أو عليك النزول لارتفاع أقل رغم أنه لا يفصلك عن تحقيق الهدف سوى 300 متر. البعض ممن لديه تأمين صحي يمكنه أن يطلب مروحية انقاذ Rescue Helicopter وهي مختلفة عن المروحيات الأخرى التي يعود بها البعض.
يخبرني الدليل النيبالي أنهم رغم تعودهم وتكرار مجيئهم إلا أنهم بدورهم لا يحصلون على نوم كافي هنا، لا أحد ينام فيها جيدا. صالة الطعام المكان الدافئ الوحيد هنا، وحين أقول دافئ فأنا اعني ان هناك مدفأة واحدة تتوسط قاعة الطعام الواسعة والجميع يتحلق في دائرة حولها، ومن يجلس بعيدا فهو يجلس بكامل عدته من الملابس الثقيلة.
البعض لا يستسيغ الطعام هنا وهذا أيضا من أعراض الارتفاعات الشائعة. عند الخروج من باب القاعة الواسعة يأخذك ممر جدرانه من الخشب الرخيص إلى ممر آخر، تصطف فيه دورات المياه ويمكن معرفة ذلك من الروائح المنبعثة منها (أحدها في حالة مزرية والثانية يتجمد فيها الماء ليلا)، ولا ماء في مغسلة اليد (مغسلة يد متسخة وفوقها برميل بلاستيكي صغير ركبت فيه حنفية) وغرفة مخزن تتكوم فيها البطانيات بفوضى كبيرة (وهنا تسأل هل يتم غسل البطانيات التي تستخدمها؟ ) وباب يؤدي إلى المطبخ (كيف لا يفقد المرء شهيته للطعام)؟ ومنها ممر آخر يقود إلى الغرف الأرضية ودرج بسيط الى الغرف العلوية. الممرات باردة بشكل غريب، وفي الممر باب يفُتح على الخارج، وإليها قادنا صديقنا الأمريكي هارت، وقت المساء، ليرينا صفاء السماء وجمال القمم الثلجية والنجوم التي كانت تتلألأ ببهاء، أما ضوء القمر فلم أرى من قبل قمرا بهذا الضياء وكأنه ضوء شمس تمت فلترته من خلال عدسة خاصة.
ملاحظة: لم أشعر سوى بالصداع والبرد، وكنت جائعة أكثر من المعتاد، ساعدتني التهيئة النفسية المسبقة في تخيل وضع أكثر صعوبة وتحديا من ذلك في التأقلم تلك الليلة.😄
الصور:
1- بعد الانطلاق بقليل يظهر خط السائرين في الأفق.
2-من بعيد عند التدقيق في وسط الثلوج يظهر خط السائرين إلى جورك شيب على مسافة تقارب 40 دقيقة.
3-مستعمرة جورك شيب، التي تخلو من السكان في الشتاء حيث يتجمد كل شيء.
4- صورة شخصية بعدسة رفيقة الرحلة من الامارات أسماء الشامسي.
( 2/2)
وصلنا إذن جورك شيب وقت الظهيرة بروح معنوية عالية قادمين من قرية لوبوشيه التي قضينا فيها ليلة واحدة. حسب البرنامج نتناول الغذاء ثم ننطلق في مسار ذهاب وعودة أي ما يقارب 4-5 ساعات ثم نقضي ليلتنا في جورك شيب، حيث ان المخيم الرئيس لا تتوفر فيه سوى خيام المغامرين المحترفين الذين سيواصلون مغامراتهم الى المخيمات الباقية (1-4) في طريقهم الى القمة.
لكن عارضا صحيا ألم بأحد أفراد فريقنا غير من خطتي قليلا. كنت حاسمة وقتها في ضرورة ان يتحرك الفريق رغم اصرار بعض زملائي البقاء معي، لكن قلت لهم بشيء من الجد والمزاح (أنا المديرة هنا وعليكم أن تنفذوا ما أقوله). وهكذا انطلق الفريق ومعهم ابنتي العزيزة مع هاري دليلنا النيبالي نحو السفح، الجو كان مكفهرا وغائما، والثلوج تتساقط بخفة ويسر، والهواء بارد ودرجات الحرارة ربما تقارب 9- . طريق الذهاب مزدحم بالماشيين إلى السفح، لدرجة أن التصوير عند الصخرة المعروفة شهد بعض المناوشات ليتمكن الجميع من التصوير.
عاد رفاقي مبتهجين جدا، فيما مازحني أحد الرفاق الطيبين قائلا: أمامة يبدو أنك ستضطرين للذهاب للمخيم على ظهر الحصان؟
قلت له لماذا؟ (طبعا لأني أمشي براحتي😉) قال: حتى تصلي بسرعة! قلت له: وهل من الأهمية أن نصل أولا أو ثانيا أو أخيرا؟ المهم أن نصل. أليس كذلك؟
والحقيقة أنه مع نسبة الاكسجين والتي تصل الى النصف، والبرد القارس فإن التحرك بسرعة لا ينصح به في المراحل الأخيرة، لكن الشباب خاصة الرجال هم الأكثر تجاهلا لهذه النصيحة ويعتقدون أن التحدي هو في الوصول بسرعة قبل الآخرين! رغم ان الأمر لا يتعلق هنا بسرعة الوصول بل بتقنية الوصول حتى لا تصاب بالبرد لاحقا أو بأية أعراض أخرى عند النزول أو عند النوم في تلك الليلة.
دليلنا الأساسي جانيش بقي معي لنناقش كل الاحتمالات الممكنة والطارئة حول صحة أحد أفراد الفريق الذي ولله الحمد تحسن في تلك الليلة، واتفقت معه على أن يزودني بأحد المعاونين النيباليين على أن انطلق نحو السفح في الساعة الخامسة صباحا ومن ثم ألحق ببقية رفاقي في طريق العودة.
وهكذا انطلقت برفقة كومار الشاب الطيب الذي كان يرتجف من البرد، غالبا بسبب عدم ارتدائه ما يكفي من الملابس الدافئة، الجو كان مقاربا في برودته وقسوته ليوم أمس حين انطلق رفاقي، لكن ما ان اقتربت من السفح حتى كانت الشمس تدخل في حرب شرسة مع الثلوج، تهاجم ذلك الضباب والعتمة التي كانت تمنعني من الرؤية في أول الصباح، وحين وصلت للمخيم الرئيس الذي تقف على عتباته تلك الصخرة المشهورة التي تشير الى ارتفاعك الحالي، كان المكان فارغا والصخرة وقتها ملكي لوحدي !
سلمت هاتفي وكاميرتي لكومار الذي التقط لي صورا تذكارية، ثم طلب مني أن أقف على الصخرة وانظر باتجاه قمة افرست حتى يصور، ولاحقا تركت كاميرتي حتى منتصف الطريق مع كومار والذي كان يلهو بالكاميرا ويصور بها جذلا!
في الطريق وقبل ان أصل الى جورك شيب بمسافة قليلة التقيت بامرأة نيبالية مع دوابها من حيوان الياك (ثدييات من فصيلة البقر ويتحمل البرودة القارسة والأنثى منه تسمى ناك) سألتها كم مرة تذهبين للمخيم؟ لكنها فهمت سؤالي بطريقة أخرى واجابتني: ساعة واحدة. وفهمت انها تصل الى المخيم الرئيس مع ماشيتها في خلال ساعة واحدة مع ملاحظة انها لم تكن ترتدي ما يغطي وجهها من البرد أو ما يحميها من حروق الثلج والشمس ولم تكن ترتدي حتى نظارة لحماية عينيها فضلا عن لباسها المعتدل!
حين عدت لجورك شيب كان جانيش بانتظاري مبتسما وهو يطمئنني على مغادرة الجميع بصحة وسلام، 4 من الرفاق قرروا مسبقا العودة بالمروحية وهي تجربة رائعة حسب وصفهم تتيح لك رؤية كل تلك القمم والمسارات الثلجية من السماء، فيما انطلق بقية الرفاق وعددهم 6 مشيا في مسار العودة حتى مدينة فيرشي على ارتفاع 4280.
تناولت افطاري وحزمت امتعتي وجمعت مفقودات رفاقي التي نسوها في صالة الطعام ومضيت اجري وراء جانيش في طريق النزول، ولا يمكن لأي أنسي أو جني أن يلحق بخطواته وهو صاحب البنية النحيلة والشكل الهيبي والقلب اليوغي وعمره الذي لا يتجاوز 28 عاما. حين وصلت الى فيرشي وبعد عناق ابنتي والصديقات قلت لجانيش وأنا ألهث: تخيل لو اني متّ ورائك صدقني انت لن تعرف ذلك، وبدلا عنه ستكون جالسا هنا في النُزل تتناول الدال بات ( وجبة نيبالية مشهورة).