Image Not Found

المنعطف الذي غيَّر علم الكون!

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي ** – الرؤية

من الأسئلة الخالدة التي نادرًا ما نرى أن مجتمعًا من المجتمعات البشرية أو حضارة من حضاراتها لم تطرح جوابًا له هو السؤال المرتبط بكيفية نشأة الكون؛ اذ تكاد تقترب السيناريوهات التي أُلفت بهذا الصدد بعدد المجتمعات البشرية عبر التاريخ، والسبب في ذلك أن هذا السؤال هو من الأسئلة الراسخة في ذهن الإنسان والفطرية التي لا يستطيع أن يتجاوزها، ولكن التحدي الأكبر الذي واجهه هو أنَّى له معرفة ذلك؟ وما السبيل إليه؟

عندما نرجع إلى المصادر المعرفية التي رجعت لها المجتمعات البشرية المختلفة عبر العصور، سنجد أنها تكاد تنحصر في مصدرين أساسين؛ الأول: الأساطير التي سطّرها عقل الإنسان وتراكمت مع مرور الوقت. أما المصدر الآخر الذي استعان به الإنسان كان المصادر الدينية التي آمنت بها المجتمعات؛ فكل مجتمع آمن بديانة معينة وبمصادر مقدسة ترجع لذلك الدين، حاول أن يرجع لها وأن ينتزع منها معلومات تحاول أن تجيب على هذا التساؤل وتشبع فضوله.

وبعد جمع تلك المعلومات وانتزاعها من النص الديني، حاولتْ المجتمعات وضع سيناريوهات متكاملة ترسم لنا صورة عن كيفية نشأة الكون، لكن الإشكالية التي نتجت من ذلك أن هذه الصورة- ولأنها من مصدر مقدس- أضفى البعض عليها نوعًا من القدسية أيضًا، فغدت هذه القصص والسيناريوهات مقدسة.

لكن كل ذلك تغير تمامًا مع إطلالة القرن العشرين واكتشاف النظرية النسبية، فهذه النظرية العملاقة ليست مجرد نظرية بسيطة؛ بل إطار معرفي جديد، سمح لنا بإلقاء الضوء على بعض الأسئلة الخالدة مثل السؤال الذي نحن بصدده وهو كيف نشأ الكون؟

فقد استطعنا من خلال هذه النظرية أن نصل إلى نتيجة لم نكن نتوقعها على الإطلاق، وهي أن الكون لا يُمكن أن يبقى ثابتًا لا يتمدد، لأن جميع الحلول الرياضية المطروحة للمعادلات الرياضية في النظرية النسبية كانت تشير إلى أن الكون في تمددٍ مستمرٍ، ولكن ولأن الذهن البشري انغرس فيه أن الكون ثابت ولا يتمدد، فلقد أثر ذلك حتى في عباقرة العلم آنذاك، فرفض آينشتاين صاحب النظرية ذلك، وحاول بكل ما أوتي من ذكاء وفهم نقض النتيجة التي توصلت إليها نظريته النسبية.

وجاء عالم مغمور يدعي ليميتري، وأوضح لآينشتاين وللمجتمع العلمي أن النظرية النسبية مهما قمنا من محاولات، ستوصلنا إلى نتيجة مفادها أن الكون غير ثابت، وأنه في تمدد مستمر، وقام آينشتاين بمراجعة الحسابات التي قدمها ليميتري وأقرَّ بصحتها، لكنه انزعج من تلك الحقيقة ووجه حديثه مخاطبًا ليميتري “فهمك للفيزياء بغيض بحق”!

ومع تطور التلسكوبات، لاحظ العلماء أدلة داعمة وبقوة لفكرة التمدد الكوني، وذلك من خلال التلسكوب الذي أدى دورًا مهمًا في دعم فكرة التمدد الكوني وهو تلسكوب “هابل”.

وفي عام 1933، وبعد تضافر عدد كبير من الأدلة الداعمة لفكرة التمدد الكوني، طرح ليميتري نظريته التي تقوم فكرتها على التمدد الكوني، فإذا كان الكون يتمدد بمعدل معروف، فإننا إذا رجعنا بالزمن إلى الخلف فيمكننا حساب عمر الكون ومتى وُلد!

وعندما استمع آينشتاين عام 1933 لمحاضرة ليميتري والذي انتقده سابقًا بعنف، تراجع عن موقفه وأقرّ بجهله وروعة طرح ليمتري قائلًا “هذا هو أجمل تفسير لبدء الخلق استمعت له على الإطلاق”.

ومنذ ذلك الحين، خطا علم الكون خطوات رائدة في مسيرته العلمية، بحيث إننا نستطيع القول إن كل ما مقدمته البشرية من تقدمٍ في علم الكون لا يُقارن قط بما توصل إليه هذا العلم خلال آخر قرن من الزمن بدءًا من تاريخ النظرية النسبية.

إنَّ النظرية النسبية لم تجب على هذا السؤال إلّا بعد أن نفذت عملًا عملاقًا وهو أنها غيّرت مصدر المعرفة البشرية لهذا السؤال؛ إذ أثبتت هذه النظرية أن المصدر الصحيح لهذا السؤال ليس النصوص الدينية المختلفة ولا الأساطير التي سطرتها المجتمعات البشرية؛ فالنصوص الدينية مقتضبة وأحيانًا يُلفها بعض الغموض، لأنها في الأصل لم تأتِ لتجيب عن هذا السؤال بتفاصيل تشبع بها الفضول البشري.

الخطأ الذي ارتكبناه أننا اعتمدنا في محاولة إجابتنا على هذا السؤال وحلّ التحديات المرتبطة به على مصدر معرفةٍ لم يأتِ لهذا الغرض في الأصل، ولذا عندما تغيّر مصدر المعرفة إلى علوم الطبيعة حدثت ثورة معرفية عملاقة أوصلتنا إلى تفاصيل دقيقة ما كانت البشرية تتخيل أن تصل لها.

ترى هل هناك تحديات وأسئلة أخرى ما زلنا نعتمد فيها على مصادر معرفية لم تُخصص أصلًا للإجابة على تلك الأسئلة ولحل تلك التحديات؟

علينا التفكير مليًا!

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس


مصدر المعلومات العلمية والتاريخية:

Dan Hooper, At the Edge of Time: Exploring the Mysteries of Our Universe’s First Seconds