لا أتذكر أول مرة أصوم فيها، ولقد حاولت كثيرا أن أعود بالذاكرة إلى مرحلة سنوات طفولتي في السبعينيات الجميلة، إلا أن كل ذاكرتي كانت تتعلق بدهشة المكان الجديد والجيران الجدد، والأشياء الجديدة التي تعلمتها أكثر مما قد تتعلق بتفاصيل صيامي لأول مرة.
في عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين انتقلنا من شقتنا القريبة من بيت العلم في مسقط إلى فيلتنا الجديدة، الواقعة في حي من أحياء مسقط الجديدة ما بين روي ومطرح.
كنت في الخامسة من عمري، وكنت أعاني مما قد يوصف الآن بفرط الحركة، فكان استكشاف المكان الجديد هو نشاطي الأكبر، وجدت في التلصص على يوميات البيوت المجاورة متعة، رفدت ذاكرتي وشكلت جزءا من شخصيتي.
تعرفت في حينا الجديد على ثقافات مختلفة عن تلك التي عرفتها في أحياء مسقط القديمة، ثقافة أسر من داخلية عمان وباطنتها، وثقافة بلاد الشام بلمستها الأنيقة المتحضرة، كما تعرفت على ملمح من الثقافة الأوروبية، تمثلت في أسرة كان الأب فيها عمانيا من ظفار أما الأم فمن روسيا.
في كل بيت كان هناك أطفال في مثل عمري، وكانت هناك أمهات لا يشبهن أمي لكنهن أصبحن صديقات لها، مثلما أصبح الأطفال أصدقاء لي، وشكلنا معا عصابات صغيرة تعيث الفساد في أكوام الرمل والحصى التي كانت تغطي مواقع البناء المقابلة لبيوتنا.
هذه العصابات الصغيرة كانت تغير على أفراخ الورق الملساء الكبيرة التي لا أتذكر الآن سبب وجودها في مواقع البناء تلك، وتصنع منها طائرات ورقية من الأزرق والأصفر.
بالنسبة للطفلة لم تكن البيوت بيوتا، بل ساحات لعب ومغامرات وتعلم، ففي بيت منها عرفت الماتريوشكا تلك الدمية الروسية المتعددة الأحجام والمتداخلة الواحدة داخل الأخرى، والتي تذكرني بتقنية الرواية داخل الرواية، وتعرفت على جنديين خشبيين، عرفت بعد سنين انتسابهم الفني لتشايكوفسكي، في باليه كسارة البندق.
لا أذكر ما حدث في أول يوم صيام لي، ولكن بالتأكيد أذن لي بالجلوس جانب أخوتي الأكبر على سماط الإفطار، وسمح لي بشرب اللبن وأكل التمر، ومرافقة أبي في مشوار صلاة التراويح، حيث كان أبي يعود للصلاة في مسجد حارتنا في مسقط، وأعود أنا للعب مع أبناء خالتي، والتسكع في أزقة الحارة معهم، والركض ولعب «المديسوه»، والذهاب إلى دكان «عمي صالح»، حيث تعرفت على متعة أكل اللبن المثلج، وخلط المينو بصلصة الفلفل الحار.
في رمضان أيضا جربت السهر لأول مرة، فكنت أتسلل من فراشي إلى غرفة الدرس، حيث أقضي الليل بطوله محاولة رسم وجه دائري لساعة ضاحكة، أتذكر ذلك بشكل واضح، وأتذكر الوهن الذي أصاب الطفلة عند الساعة السابعة صباحا، فنامت في مكانها، وجعلت أمها تقلب البيت بحثا عنها عندما لم تجدها في فراشها.
لا أتذكر أول رمضان وأول صيام، وذاكرتي لا تسعفني لاستدراج لحظات الضعف التي لا بد أني مررت بها، فسرقت رشفة ما أو قضمت خبزة ساخنة أو اختلست حبة لقيمات تتباهى بلمعان قطرها.
لا أتذكر أي شقاوة، لكن هل يعني هذا أنها لم تحدث؟ لا أظن ذلك، هي فقط تعني أني لا أتذكرها، ذاكرتي انتقائية جدا ولا تعمل تحت الضغط، وربما تآمرت فحجبت عني بعض الأحداث، لكني وإن نسيت أحداث النهار، أتذكر رحلة القرنقشوه التي قمنا بها بين البيوت تحت ضوء القمر المكتمل.
ربما لا أتذكر أول صيام لي إلا أني أتذكر ثوب العيد، أتذكر عيدية جدي عندما ذهبت لتقبيل يده في أول أيام العيد، أتذكر «العيود» في الوادي الصغير، صياح الباعة، لعبة السورتي، طقم الفناجين الوردي الذي اشتريته، ترمس الفيمتو المثلج وحلوى النارجيل.
أتذكر كل تلك التفاصيل الصغيرة، الوجوه والروائح، لكني لا أتذكر أول يوم صمته، لا أتذكر العطش ولا أتذكر الجوع، ولا أتذكر الطعام الموضوع على السماط، ولا أتذكر أي شيء يخصني أو الآخر، إلا أن باستطاعتي تأليف حكاية للأطفال، عنوانها «بشرى الصغيرة واللقيمات السحرية»، اللقيمات التي ستحولها من طفل مفرط في حركته وشروده إلى فتاة تجلس بكل نهمها إلى السماط المستدير، مركزة عيناها على كوب اللبن وحبات اللقيمات، متخيلة الطعم اللاذع وحلاوة السكر، وبهذا تكون قد بدأت رحلة الدخول إلى عالم الكبار، حيث ستندم لاحقا على تفريطها في فرط حركتها، وعدم الاحتفاظ في ذاكرتها إلا بما يكفي من الحكايات، التي ستعيد بها إنشاء زمان آخر تنتمي إليه أكثر من انتمائها لهذا الزمن الذي تسأل فيه «كيف كان أول يوم صيام لك؟».