مشروع السكك الحديدية عالية السرعة في كاليفورنيا المثير للجدل، أطلق النقاد عليه اسم “القطار إلى اللامكان”. ويبلغ طول المشروع 171 ميلا، واحتاج إلى 10 مليارات دولار أخرى، حسب تقديرات في مارس 2023. فقد كان دائمًا تحديًا تقنيا هائلًا؛ حيث يمر عبر الجبال شديدة الانحدار وبالقرب من الصدوع الزلزالية في جنوب كاليفورنيا بسلسلة من الأنفاق طولها 38 ميلًا والجسور الشاهقة بطول 16 ميلًا من الهياكل المرتفعة. كما إن الالتفاف عبر صحراء موهافي أعاق بشكل خطير القدرة على الوفاء في بناء طريق جديد لنقل الناس في عصر تغير المناخ.
يواجه المشروع زيادة في التكلفة إلى جانب توقعات بانخفاض عدد الركاب. في مارس 2023، وُضع تقدير جديد لتكلفة النطاق من سان فرانسيسكو إلى لوس انجلوس، بنحو 128 مليار دولار، بينما كان التقدير في فبراير 2022، بنحو 113 مليار دولار. عندما تمت الموافقة على المشروع في عام 2008، كان من المقرر أن يكتمل خط السكك الحديدية بحلول عام 2020، وبدا أن تكلفته فلكية في ذلك الوقت، 33 مليار دولار، كانت لكنها كانت جديرة بالاهتمام كبديل لشبكة الولاية التي لا نهاية لها، من الطرق السريعة وانبعاثات الكربون المتولدة. ولكن الآن، تم التعهد به لعام 2030.
كان الهدف في كاليفورنيا في عام 2008 هو نقل الركاب بين لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو في ساعتين و40 دقيقة، مما يجعله من بين أسرع القطارات في العالم من حيث السرعة المتوسطة. وكان من المقرر أن يكون المشروع بداية حقبة جديدة من السكك الحديدية عالية السرعة التي ستمتد في نهاية المطاف على طول الساحل الغربي بالكامل، من سان دييغو إلى فانكوفر، عبر الصحراء إلى لاس فيغاس، وفي النهاية، عبر جميع أنحاء الولايات المتحدة القارية.
التخطيط
للحد من هدر الموارد، وأهمية وضوح الرؤية، وتحديد الاحتياجات اللازمة، تأتي عملية التخطيط في الصورة؛ فالتخطيط عبارة عن تحديد مسار في كيفية انجاز مهام معينة، من حيث الموارد المالية والبشرية، والمدة اللازمة في انجاز العمل الكلي. فعندما يتجاوز العمل عن الموارد المخصصة، أو تحدث حالات اقتصادية طارئة، تتغير الأولويات ويتم إعادة تقييم الأعمال، لتفادي تحمل الأعباء فوق قدرة التحمل. هنا يأتي دور الخبراء في دراسة الجدوى، ووضع التصورات، والتحكم على النفقات، وهي ضمن إجراءات خاصة بإدارة المشاريع.
في مشروع كاليفورنيا للقطار السريع، فإن الاستمرار في الإنفاق والتجاوز في المدة التنفيذية، يدخل ضمن مشروع حيوي للولاية، وقدرتها على تحمل التكاليف وإن كانت هناك مساعدات فيدرالية.
الإبداع
حسب قاموس أكسفورد، الإبداع عبارة عن استخدام الخيال أو الأفكار الأصلية لإنشاء شيء ما. وقاموس كامبريدج، القدرة على إنتاج أو استخدام أفكار أصلية وغير عادية. نستنتج، ان الإبداع لا يتم إلا بوجود “شيء”، وهذا “شيء” يحتاج الى طريق للوصول إليه، وهو نتاج التخطيط بأي شكل كان. فالإبداع، هو عملية التفكير والتنظيم، ثم التجريب والتعديل، وأخيرا الإخراج بشيء مبدع.
تقوم بعض الشركات بعرض بعض منتجاتها بهدف ابهار قدراتها الصناعية والتكنولوجية، وليس للغرض التجاري. فمثلا، شركة “بولستار” السويدية لصناعة السيارات الكهربائية، عرضت طراز بولستار O2، في يونيو 2022، والتي سرقت قلوب الحاضرين في مهرجان جوود وود في المملكة المتحدة، أعرب رئيس تنفيذي الشركة عن رغبته في تحويل النموذج إلى واقع، وقال: “طموحي هو أن أجعلها سيارة إنتاج، لكن الأمر ليس بهذه السهولة”. (وسائل الاعلام)
قيود التخطيط
البروفيسور ألبرت هيرشمان، خبير اقتصادي عمل مع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ عام 1946، بشأن مشاكل إعادة الإعمار الاقتصادي. فبعد الخروج من الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد بحاجة الى التنمية عبر عمليات التغيير، فبدلا من التركيز على الخطط، دعا إلى التركيز على العقلانية الخفية، ما تدعى بالإبداع.
وأشار مؤلفا “How Big Things Get Done”، أن 99% من المشاريع الكبيرة تفشل، ومن بين أسباب التأخر وتجاوز عن الموازنات المخصصة هو الاعتقاد بفكر البروفيسور بأن التخطيط فكرة سيئة. وهناك من يدعو “افعلها فقط”. لأجل التحكم بالموارد والمدد التنفيذية، فإن التخطيط يرسم حدودًا لعملية الإبداع، ولا يُطلق لها العنان، وهذا ضد التنمية والتطوير، في الوقت الذي يستدعي فيه التغيير. فقد يستحال إتيان بأفكار جديدة، ضمن التضييق المالي والزمني.
التخطيط المرن
كان البروفيسور ألبرت، يجادل عن معتقده، فلا التنمية في القيود. لعل البروفيسور مصيب في مقصده، ولكن تحديد الموارد وبيان اتجاه العمل مهم أيضا. لأجل التوافق بين التخطيط والإبداع، لابد ان يكون التخطيط نتاج الإبداع، ويترك حصة للإبداع في مراحل التنفيذ، تجنبا للجمود وايجاد بدائل قد تكون أفضل من المحددة. لابد من ادخال جماليات على العمل، وإطلاق العنان للخيال. فكما قال ألبرت آينشـتاين: “الخيال أهم من المعرفة”. فلعل هناك جوانب خُفيت في مرحلة التخطيط، أو ظهرت أشياء جديدة.
المصادر:
كتاب “How Big Things Get Done”، للمؤلفين Bent Flyvbjerg وDan Gardner
مقالات في صحيفة واشنطن بوست وصحيفة نيويورك تايمز عن California’s high-speed train
** دكتوراة في التخطيط الاستراتيجي المالي