إيلاف : د خالد السلطاني
في كتابه الشيق “تاريخ عمارة المصارف العُمانية 1948 -2018” يسعى المعمار العُماني <علي بن جعفر اللواتي> (1987) الى عرض احدى تمثلات العمارة العُمانية الحديثة الى القراء المهتمين، ويختار مباني “المصارف” كموضوعة اساسية لكتابه الصادر مؤخرا (صدر الكتاب سنة 2021 وهو من منشورات كتاب نزوي التى تصدرها وزارة الاعلام في سلطنة عُمان، وجاء الكتاب ب 78 صفحة من القطع الصغير). وقد كتب تقديم الكتاب المعمار العراقي معاذ الالوسي (1938).
يتناول الكتاب مواكبة حثيثة لتنويعات نماذج عمارة المصارف التى نفذت في السلطنة العُمانية خلال سبعة عقود الاخيرة من عام 1948 والى سنة 2018 . ويقسم المؤلف تلك الفترة الزمنية الى مراحل محددة يبدأها من “فترة ما قبل السبعين” ثم “عقد السبعينات” يليه “عقد الثمانينات” ثم “عقد التسعينات” وينهيه في فترة “الالفية الثالثة”. بالاضافة الى مقدمة الكتاب التى كتبها المؤلف نفسه، وحديث عن “الصيرفة قديما ونشأة المصارف الحديثة”.
ثمة صوابية متحققة، في اعتقادي، في اختيار المؤلف لموضوعه. وهذة الصوابية اعزوها لخصوصية “ثيمة” النموذج المدروس؛ تلك الثيمة التى ترتقي ليكون وقع تأثيراتها مزدوجة: مرة لذاتها لجهة تمظهرها في “فورم” جد معاصر ومنفذة بارقى واغلى المواد والاساليب الانشائية، ومرة اخرى، (وبباعث هاتين السببين: حداثتها وثراها المظهري)، إمكانية تأثيراتها وهي بتلك الصيغة المبدعة على البيئة المبنية (وحتى الثقافية عموماً بمختلف اجناسها الفنية الآخرى).
وهذا كافِ لوحده لناحية تسويغ اهمية الكتاب وتبرير تأليفه ونشره. ومع ذلك، فان اهمية الكتاب ما انفكت تكمن ايضا في تقديم صورة (وإن كانت مختصرة) عن مسار العمارة العمانية، كأحدى تجليات الثقافة المحلية، وتبيان مراحل تطورها في الفترة الاخيرة.
يذكر المؤلف بان كتابه معني في محاولة”..أخذ القارئ في رحلة معمارية عن تاريخ عمارة البنوك وتطورها معمارياً، والتعرف على البيئة العمرانية للمؤسسات المالية عشية الحرب العالمية الثانية وما بعدها حتى عام 2017، مع معاينة وتحليل بعض العناصر التصميمية المتشكلة في الواجهات لمختلف العقود الزمنية ورصد انتقالها الى فترة زمنية لاحقة، وكيف أثرت مباني البنوك في المشهد المعماري في عُمان نحو خلق هوية محلية” (ص. 14). وفي ظني، فان المؤلف قد اوفي تلك الاهداف التى وضعها لنفسه في كتابه المنشور. فهو استطاع ان يجترح خطاً معرفياً موازيا في نصه المكتوب، يتضمن رصد المسار المعماري العام وتتبعه في البيئة المبنىة المحلية، اضافة الى عمله التحليلي لعمارة مباني المصارف في السلطنة. نحن، اذاً، سنشهد اثناء مطالعتنا للكتاب، على مقاربة مهنية، تستدعي بحضورها المجتهد النشاط التصميمي لمباني المصارف ليكون شاهداً ودليلا على فعالية الاطار العام للمنتج المعماري العُماني. بمعنى اخر، ينزع “علي بن جعفر اللواتي” بجعل <الخاص> وسيلة ناجعة لفهم <العام>. فمن نماذج عمارة المصارف المبنية، يمكن لقارئ كتاب “اللواتي” ان يدرك، ايضاً، خصوصية تعاقب مراحل المسار المعماري في عُمان.
تتميز امثلة مباني البنوك التى يوردها المؤلف في كتابه بكون عمارتها ذات لغة حداثية واضحة، وتنتمي بشكل وبآخر الى ذات التوجهات المعروفة في المشهد المعماري العالمي، ان كانت لجهة هيئتها و”فورمها” المميز ، ام لناحية نوعية المواد الانشائية الجديدة وكذلك الاساليب البنائية المتقدمة الداخلة في عمليات التنفيذ. وبالتالي فانها تبدو مغايرة الى سياق البيئة المبنية المحيطة، ويمكن لها ان تكون مؤشرا ودَالَّةً الى حدث التغيير الجاري في تلك البيئة. كما ان المؤلف يورد امثلة مبنية معينة، يراد بها تأشير خصائص تلك المرحلة. فيذكر على سبيل المثال مبنى البنك العربي المحدود (1978) <المعمار معاذ الآلوسي>، كنموذج لتعدد الوظائف في المبنى المشيد، ويكتب “.. فلتلبية الاحتياجات الملحة ومواكبة التحديث والتطوير في المدينة، قدم المعماريون حلولاً لابتكار تصميم مرن يحقق أقصى جدوى اقتصادية لمالك المبنى، وأعلى فائدة من (استثمار) قطعة الارض ذاتها التى سيتم بناء المشروع عليها. ونلاحظ ذلك جلياً في تصميم فكرة مبنى البنك العربي ،.. الذي شمل استخداماً سكنياً لمدير البنك في الطابق الاعلى، ومقر البنك في الطابق الارضي، ومن الخلف محلات تجارية..” (ص. 35).
في عقد الثمانينات الذي يعتبره المؤلف بمثابة العقد المؤسس للنشاط التخطيطي لمدينة مسقط، والبحث عن ايجاد “هوية معمارية”، حيث “…صدرت لائحة تنظيم البناء التى شاركت في وضعها لجنة تشكلت من مختلف وزارات الخدمة بالتنسيق مع المجلس البلدي، وفي الوقت ذاته بدأت بلدية مسقط تعد لما بعد حقبة الثمانينات بتحديث قوانييها..حيث اعدت البلدية كتيبات للواجهات تم توزيعها على المكاتب الاستشارية وامرت بالاسترشاد بها عند اعداد واجهات المباني كما قامت بتعميم عدد من القرارات والاوامر وخصوصا تلك المتعلقة بالهوية المعمارية” (ص. 49). لكن المؤلف يشير ايضا الى حدث ظهور عمارة “مبنى البنك المركزي العماني” (المعمار: CE Architects)، كاحد الاحداث المعمارية المهمة في المشهد البنائي المحلي في هذا العقد (مع العلم ان المؤلف يذكر <في ص. 42> بان بناء البنك المركزي كان في سنة 1978). وقد رافق ظهور ذلك المبنى عدة مبان (مصرفية على وجه الخصوص) ذات لغة تصميمية لافتة ابان تلك الفترة؛ كان الهدف منها “إضفاء جو ولمسة من التفرد على بنية احد احياء مسقط (وهو الحي التجاري)، من خلال كسوة واجهات المباني الخاصة بالبنوك والمكاتب والمؤسسات المالية” (ص. 43). لكنه مع هذا يولي اهتماما خاصا لواقعة ظهور البنك المركزي، كما اسلفنا، حيث يشير “.. كان البنك المركزي آنذاك مبنى فريداً في تصميميه وكسوته لما يعكسه من اهمية في النظام المصرفي ودوره بين باقي البنوك: لذا كان الاهتمام بواجهته لكي يعكس مكانته بين المؤسسات المالية واهميته للدولة كواجهة تقع على عاتقها اتخاذ الخطوات اللازمة للاستقرار الاقتصادي والتنمية” (ص. 43).
ينهي “علي بن جعفر اللواتي” كتابه المفيد، في الحديث عن مبانِ الحقبة الاخيرة التى يدعوها بـ “الالفية الثالثة”، ويعتبرها “..من اهم وانصع صفحات تطور الفكر المعماري بوجه عام (في عُمان). وتعد استمرارا للافكار المعمارية الجديدة التى نشأت وتأسست في العقود الاربعة السابقة، بمعنى أخر، كانت العقود السابقة هي مرحلة نضوج تلك الافكار وتكوين مبادئها وقيمها، وحان الوقت لقطاف ثمارها، وتتميز هذة الحقبة بتكثيف الاعمال الابداعية وظهور تصاميم معمارية مهبرة بالفكرة، وليس بالشكل فقط. (كما) ارتفعت بعض الاصوات التى تناشد بنبذ عملية استنساخ العناصر من الماضي واعادته الى صورته الجامدة دون ايّ تجديد أو إبداع ” (ص. 64). ويورد المؤلف نماذج تصميمية شيدت في هذة الحقبة انطوت على لغة معمارية مميزة ورائدة ليست فقط مقارنة مع نسق خصائص البيئة المبنية المحلية، وانما ارتقت لتكون ذات اشكال لافتة على المستوى الاقليمي ايضاً. ويذكر في هذا الصدد ثلاثة مشاريع شيدت في تلك الحقبة وهي: “بنك مسقط” (المعمار : W. S. Atkins )، مبنى “البنك الوطني العُماني” (المعمار: LOM)، ومبنى “البنك الاهلي” (المعمار: وائل المصري). وهي جميعها مشاريع مميزة بعمارتها اللافتة وبعضها نال جوائز معمارية اقليمية. وعن المشروع الاخير يكتب “علي اللواتي” عنه ما يلي “..لم يخرج المعمار وائل المصري عن الشكل المكعب السائد، وإنما قام بخلق تمفصلات من الزجاج، وكان ذلك تحدياً كبيراً للحصول على التراخيص من سلطات البلدية التى تحاول الحدّ من استخدام المسطحات الزجاجية في الواجهات لاعتبارات بيئية”.. ويقول ايضا ” .. وفرت هذة المسطحات الزجاجية إضاءة طبيعية للمبنى من كل جوانبه طوال اليوم منذ الصباح الباكر وحتى نهاية أوقات العمل بعد الظهيرة. وقام بالتغلب على سؤال القوس بزخرفته على الالواح الزجاجية مع توفير التظليل على كافة الفتحات مراعاة للظروف البيئية والمناخية والاحتفاظ باللون الابيض لخلق تباين مع اللون الداكن للجبال في اشارة الى اهمية المشهد الطبيعي والبيئي للمدينة واحترام تضاريس المكان..”. (65 – 67).
واذ نحييّ جهد المعمار “علي بن جعفر اللواتي” على اطلاعنا على تلك النماذج المعمارية لمباني المصارف المختلفة، الدالة ايضاً على تحولات مسار العمارة في سلطنة عُمان بالفترة الاخيرة، فاننا نشيد بعمله المكتوب والمنشور، بكونه وثيقة نافعة في دراسة العمارة عموما في تلك البلاد الجميلة، التى تسعى ليكون الناتج المعماري فيها، ناتجاً مهنياً عالياً ولافتا في آن. متمنين له دوام التوفيق في نشر الثقافة المعمارية وتكريسها في الخطاب الثقافي العربي، هو الذي دأب منذ زمن في المساهمة والمشاركة بتأسيس وتقديم برنامج اذاعي خاص وناجح دعاه “صوت العمارة” تبثه الاذاعة العُمانية.