هل يُمكننا تصوُّر أن الثقافات البشرية المتنوعة ستكون يومًا ما سببًا في نشوب النزاعات بين البشر؟ السياسي الأمريكي صمويل هنتنجتون يرد على هذا التساؤل بالإيجاب!
إذ إنَّ رؤية هنتنجتون لـ”صراع الحضارات”- كما أوردها في مُؤلّفه الأشهر- تستندُ على هذا المفهوم بالدرجة الأولى. وكل من قرأ أطروحته بدقة يُدرك تمامًا أن الرجل يُحمِّل الثقافة الإسلامية المسؤولية الكبرى في بقاء عصر “صراع الحضارات” هذا، وتحديدًا في مضمار مواجهتها لثقافة الغرب المسيحي بقيمه الحديثة. منطلق هنتنجتون يتمثل في الرد على أطروحة تلميذه فرانسيس فوكوياما المُسماة “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، والتي يمكن إيجازها في أن “أمركة الثقافات” (أي إصباغها بالصبغة الأمريكية فقط) هي المحطة الأخيرة لمسيرة الثقافات البشرية برمتها؛ حيث نهاية التاريخ، ولن يحدث ذلك بالصراع؛ بل بقناعة تامة من قبل أصحاب الثقافات الأخرى، فالإنسان لا يبحث إلّا عن “الديمقراطية الليبرالية”؛ إذ لا يبدو في أفق الثقافات بديلٌ أجدى منها للبشرية، وحالما سيتمكن التعب من تلك الثقافات في بحثها عن الأطروحة الفُضلى، لن تجد غير الارتماء في أحضان هذه الليبرالية- أو لنقل الأمريكية- طواعية.
لماذا؟!
يُجيب فوكوياما بأن “الديمقراطية الليبرالية” توفّر للبشرية العناصر الثلاثة الأساسية التي يبحث عنها وهي: “الحرية” و”المساواة” و”حكومة الشعب”، فماذا بقي بعدُ مما يبحث عنه الإنسان ويطلبه؟
إذن.. “عائدون إلى أحضان الثقافة الأمريكية” هو عنوان “نهاية التاريخ” وما “الإنسان الأخير” سوى ذاك الذي استبدَّ به التعب بحثًا عن النافع من الثقافات، فاستلقى، بعد مجهود خرافي، على سرير “الأمركة الثقافية” بعناصرها الثلاثة المارة.
هنتنجتون انطلق يجادل بأن تصور فوكوياما لا يعدو أن يكون إلا وهمًا، ذلك لأنَّ الثقافات المخالفة للقيم الأمريكية لن تتخلى عن رأس مالها أبدًا، لا سيما الثقافة الإسلامية- والتي يصفها بـ”الدموية”- فهذه الثقافة إن ظلت عصية هكذا على التفكيك، لن تُلقي بالقفاز بعيدًا، وصراعها مع القيم الغربية قدرٌ من الأقدار لا يقبل التبديل.
يجري هنتنجتون حسبةُ بسيطة فيقول: ليس أمام الثقافات- وتحديدًا الإسلامية- في مواجهة “الأمركة الثقافية” إلا إحدى الحالات التالية:
إما عزل نفسها عن العالم، وهذا أمر غير ممكن وباهظ الثمن، وإما تغريب مجتمعاتها بالانتحار الثقافي- كما فعل النموذج التركي- وإما صناعة تكتلات مع قوى إقليمية أو عالمية لإيجاد توازن اقتصادي للفرار من هيمنة الثقافة الأمريكية. وهذا المقترح- والذي يبدو منطقيًا جدًا- معناه بقاء الثقافات المخالفة لـ”أمركة الثقافات” حيّةً، وبالتالي بقاء الصراع حيًا. وجدير بالذكر أن الزميل رئيس تحرير جريدة الرؤية كان قد اقترح أن يكون التوجه الثالث محط اهتمام العالم العربي لا سيما الخليجي، في مقال له بعنوان “صراع الحضارات” نُشر الأسبوع الماضي على صفحات هذه الجريدة الغراء. وما يُبرر توجهه واضحٌ للغاية، ويمكن إيجازه في “عدم الاستسلام للأمركة”.
تحرك الرجلان- هنتنجتون وفوكوياما- من مبدأ منطقي؛ فالإنسان باحث عن الثقافة التي تحترمه بصفته بشريٍ ذي توجهٍ وميول تتطلب الاحترام (وهو مبدأ فوكوياما)، وما لم يجده سوف يظل يصارع للحصول عليه (وهو مبدأ هنتنجتون)، إلّا أن ثمّة ما فاتهما الالتفات إليه، ربما لترعرعهما في أحضان “الثقافة الأمريكية”، وهو أن هذه الثقافة الموصوفة بثقافة “الإنسان الأخير”، ليست إلا “ليبرالية حادة ذات نظام سياسي واقتصادي واجتماعي في غاية الأنانية. فردانية صماء شكلت السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب، وباتت- بحسب الفرنسي رينيه غينون- المحرك الحصري للإمكانيات السفلى للإنسانية، والتي لا يمكنها أن تنتشر بصورة كاملة إلّا بتغييب البعد المتسامي للإنسان”. (محمود حيدر في العدد العاشر من افتتاحية “الاستغراب 2018”).
وإلّا.. فأيُ انحطاطٍ أكثر من أن يتسافل البشري إلى درجة أحط من الحيوانات في سلوكها، ويُعّد التعبير عن رفض ذلك تخلفًا! وحكومات “الشعب” مُستعدة لمحاسبته.. في حين، يُحرق كتاب المُسلمين الأول في بلدٍ مُتقدم مثل السويد، والمعترض يُعد مُنهاضًا لقيم التحضر!
اعتمد فوكوياما على “الجدلية الهيجلية” ليقرر أنها التي تقف خلف دفع الناس لقبول “الأمركة الثقافية”، ورأى أن القوتين اللتين تحركان هذا القبول هما: “العلم الحديث”، و”نضال الإنسان” لأجل الاعتراف، وهذا الاعتراف متحقق في الحرية وفي المساواة وفي حكومة الشعب.
إلّا أنَّ الألماني أكسيل هونيث (1994م) والذي ألّفَ “النضال من أجل الاعتراف” و”مؤسسة الاحتقار”، وجد أن الناس اليوم أبعد ما يكونون عن حيازة “الاعتراف”؛ فالهوية البشرية الشخصية في نزيفٍ دائمٍ، لما أوقعت فيها “العولمة” و”الرأسمالية المتوحشة” و”ثقافة التسليع” من جراحٍ، لذا أعتقد هونيث أن النضال لأجل كسب الاحترام لن يتوقف في ظل هكذا حضارة.
الناس- بحسب هونيث- في مسيس الحاجة اليوم إلى ثلاثة عناصر أساسية وهي: “الاعتراف العاطفي” و”الاعتراف القانوني” لأجل تحقيق الثقة بالذات، و”الاعتراف الاجتماعي” لأجل تقدير الذات، وهذه الاعترافات الثلاثة لا تسمح بها الثقافة العصرية التي ظن “ياما” أنها تمثل نهاية الإنسانية.
“نهاية التاريخ” مرحلة مُقبلة لا مُحالة، هذا عندما يكتشف البشري الثقافة التي تمنحه حاجته من الاعتراف والاحترام، وتحقق له عقلانيته وروحانيته. وكما يقول الرجل الذي جُنّ آخر عمره- أعني نيتشة- “ثمّة أفجر جديدة لم تبزغ بعد”.