يبدو أنَّ الفترة المقبلة سوف تشهد مزيدًا من العمل المخلص لكشف حالات الفساد والتلاعب في الأموال العامة بالدولة، بعدما صدر تصريح من مدير المخالفات المالية والإدارية في جهاز الرقابة المالية والإدارية مؤكدًا أنه سيتم تفعيل العبارة المعروفة في عالم الفساد: “من أين لك هذا؟”.
هذا التصريح المتناهي في كلماته والضخم في مضمونه، يأتي بعد عدة أيام من نشر جهاز الرقابة المالية والإدارية بالدولة تقريره السنوي عن قضايا هدر المال العام التي جرت في السلطنة عام 2021، وهو العام الذي شهد فيه العالم تزايدًا في حالات المصابين بجائحة كورونا، وتم استخدام مزيد من وسائل الاتصالات الحديثة لإنهاء الارتباطات العملية بين المؤسسات والأفراد، الأمر الذي تم فيه سرعة إنهاء الأعمال وبرقابة ضعيفة. ورغم أن المبالغ المالية التي أعلن الجهاز استردادها والبالغة 44 مليون ريال عماني لصالح الخزانة، وتحقيق وفورات مالية بنحو 32.5 مليون ريال، إلّا أنه من المحتمل أن يكون “ما خفي أعظم” من ذلك، وربما سيتم رصدها في كشوفات التقرير القادم لعام 2022.
التقرير كشف عن تلاعب وفساد في بعض مؤسسات الدولة مع الإشارة إلى قيام شركات التعدين بالتهرب الضريبي بمبالغ كبيرة بلغت 46 مليون ريال عماني وإخفاء إيراداتها الحقيقية. وهذه مبالغ ضخمة، وكان من المفترض أن تكون هناك شركات مساهمة عامة ينتفع منها المواطنون سواء من أعضاء مجالس الإدارات أو صغار المساهمين، إلّا أنها أصبحت عبئًا وتدار في الخفاء، فيقومون بإخفاء الإيرادات في مثل هذه المؤسسات.
التقرير يكشف عن حالات في عدد من المؤسسات والشركات الحكومية؛ حيث ورد اسم وزارة الصحة بسبب تأخر توريد أصناف مُعينة من الأدوية في الوقت الذي اضطر فيه المواطن الفقير إلى شراء بعض الأدوية على حسابه الخاص، وينتظر شهورًا؛ بل سنوات لإجراء عملية جراحية.
كما تم ذكر اسم وزارة التربية والتعليم في هذا التقرير نتيجة حصول تعاقدات مع بعض المؤسسات دون طرحها في المناقصات العامة، وهذا برأيي قد يحصل بسبب اتفاق مجموعة من أصحاب المصالح مع أمثالهم في مؤسسات القطاع الخاص للاستفادة من المبالغ، فيما تعتبر هذه الوزارة من المؤسسات التي شهدت فسادًا في السنوات الماضية؛ حيث تم ذكرها في التقارير السابقة بسبب ما حصل فيها من اختلاسات مالية، إضافة إلى ذلك ورد اسم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية نتيجة عدم حصولها على المبالغ اللازمة بسبب تدني محاسبة وكلاء المساجد وتدني المتابعة.
التقرير يكشف أيضًا عن عدم تحصيل الشركة العمانية لخدمات المياه والصرف الصحي لمبلغ 22.9 مليون ريال خلال السنوات الأربعة الماضية، إضافة إلى ملاحظات تتعلق بشركة مجيس للخدمات الصناعية، وشركة بيئة وغيرها من المؤسسات التي تعمل في تلك المجالات المهمة.
كما يشير التقرير إلى عدم قيام شركة مزون للكهرباء بفرض غرامات تأخير على بعض المقاولين. كما يذكر التقرير خسائر الشركة العمانية للتطوير والابتكار في استثماراتها دون تقييم المخاطر وخسائرها أيضًا في استثماراتها في شراء الطائرات المسيرة (درونز) بحيث بلغت تلك الخسائر 16.9 مليون دولار بنهاية عام 2018.
أما خسائر شركة الطيران العماني فتقدر بنحو 49 مليون ريال من مخاطر التشغيل لشراء الطائرات بين أعوام 2019 إلى 2021، إضافة إلى خسائر بقيمة 2.3 مليون ريال بسبب تأخرها في إرجاع الطائرات المستأجرة، ومبلغ 23 مليون ريال بسبب عدم تضمين بنود للظروف القاهرة لتجنب سداد تكلفة صيانة الطائرات خلال فترة الإغلاق بسبب كورونا، إضافة إلى مبلغ 14.8 مليون ريال خسائر أخرى بسبب وجود مواد راكدة في المخازن للطيران العماني. وهذه الشركة منذ عملها لم تحقق أية أرباح وإنما سجلت خسائر سنوية، وكانت عبئًا على الميزانية العامة للدولة، نتيجة احتياجها السنوي إلى دعم مالي بملايين من الريالات.
وتضمن التقرير ملاحظات حول قطاع النفط والغاز خاصة فيما يتعلق ببعض الصفقات في 2018، وتعيين عمال غير عمانيين في بعض الوظائف المخصصة للمواطنين، إضافة إلى تمديد عقود بعض الوظائف الفنية والإشرافية دون تأهيل وإعداد كفاءات وطنية، في حين تم صرف أجور أعلى من المستحق في إحدى الشركات، وعدم فرض غرامات على بعض الشركات الإنشائية في هذا القطاع الحيوى بسبب إخفاقها في تحقيق مستويات التعمين المطلوبة، إضافة إلى تحمل بعض تلك الشركات مبالغ لإصلاح خزانات النفط لديها من التسريب على حسابها الخاص.
إن صدور هذا التقرير مع ذكر أسماء المؤسسات المخالفة يثلج صدر الجميع، وهنا يجب أن نشكر كل موظف مُخلص ساهم في تقديم المعلومات التي ساعدت مسؤولي جهاز الرقابة المالية والإدارية، والذي تابع تلك القضايا بكل سرية ونزاهة وحياد. وبدون تعاون الجميع لا يمكن تقويم محاربة الفساد في المؤسسات الحكومية، في الوقت الذي يتطلب فيه محاسبة كل من قام بالفساد وعمل على نشره بين العاملين في تلك المؤسسات ليكون عبرة لغيره.