أمامة بنت مصطفى اللواتية
وأخيراً انتشل أبي لعبتي حيث ألقت بها أمي في أقصى ساحة القاذورات، تلك الساحة بالتحديد التي يُلقي فيها كل الجيران قمامتهم. يوم أمس ألقت أمي بلعبتي الباهتة التي مضى عليها خمس سنوات في ذلك المكان. تقول أمي أن الفتاة الصغيرة التي تقف على منتصف قاعدة المسرح الزجاجي الدائري قد توقفت عن الغناء، وأن المفتاح الذي نستخدمه لإدارتها والذي ترقص مع تحريكه الفتاة قد أصبح يدور في عكس اتجاه عقارب الساعة بدلا من أن يدور معها. ومن أجل استعادتها مجددا اجتاز أبي عدة تلال من بقايا الطعام المتعفن وقشور الفاكهة التي أصبحت كالأشجار اليابسة المُلقاة في روث حيوانات، وبعض العلب المفتوحة جزئيا ذات الحواف الحادة، والتي تركت بعض الجروح المتفرقة في ذراعه. لكن والدي قال مستغربا: لماذا يأكل الناس كل هذا الطعام المعلب؟ لم يشاهد أبي كيف تتسابق القطط على طعام القمامة، بعضه ليس سوى بقايا عظام وشوك الأسماك وأحيانا رؤوسها التي تلمع فيها عينا السمكة الميتة، لكن القطط توزع لعابها بشكل فوضوي على رؤوس تلك الأسماك، أمي لا تلقي برؤوس الأسماك الطازجة التي نشتريها، لأن أبي يحبها مقلية وأحيانا مغموسة في حساء السمك الأصفر بالكركم والليمون والفلفل الحار.
قبل ذلك بوقت طويل رأيت القطة الصفراء ذات الرأس الكبير تحاول بشراسة فتح قدرٍ متوسط الحجم كان مغلقا بإحكام، وفي داخله لمحتُ الكثير من الأرز وقطع اللحم الشهية، رأيت ذلك من نافذة غرفتي. نشب العراك بين فريق القطط وفريق الغربان، القطط تزمجر مواء، مواء، والغربان تصرخ بلا توقف فأغمض عيني وأسد أذني. تركتُ القطط والغربان المزعجة تلعق الطعام من القدر، ثم التقطته لاحقا، وأحكمتُ وضعه على قدميّ وهرعت به إلى أمي وأنا أضحك مسرورة: أمي إليك قدرا أكبر! حين أخبرت أمي بقصة القِدر ومعركة القطط والغربان، ضربت بكفها على جبينها حتى أني شاهدت شكل أصابعها وقد انطبعت على جبهتها، وأخذت تحوقل عدة مرات، قبل أن تضرب كفا بكف وهي تقول: لا أفهم كيف يشتري الناس قدورا ملونة كهذه القدور!
كان من المهم أن يجد أبي لعبتي، فمنذ أن ألقت بها أمي في ساحة القاذورات أصبتُ بحمى شديدة ويبدو كما سمعت من أمي أني غبتُ عن الوعي، كنت أحسب أني نائمة ولم أعلم أن هناك بعض الفرق، شعرتُ بالسرور لأن أبي لم يقل إنه سيجلب لعبة جديدة، لأن محل الألعاب بعيدٌ جدا، في حين أن ساحة القاذورات تقع تماما وراء المنزل، ويمكن أن أشاهد من نافذة غرفتي المواجهة للساحة أين ألقت أمي باللعبة. نظرت أمي بقليل من الاستغراب إلى اللعبة التي كانت تعتقد أنها باهتة، فهناك صلصة طماطم متجمدة على قدمي الفتاة الراقصة، وهناك الكثير من الخردل وبعض حبات الزيتون الأسود الذي ما أن أزلته حتى اكتشفت أن بعضه ليست سوى ذبابات مسكينة وجدت نفسها فجأة بعيدة عن ساحة القمامة. انبعثت الموسيقى أخيرا من القاعدة الزجاجية لكن المفتاح كان يدور عكس عقارب الساعة!
أهداني جدي هذه اللعبة حين كنتُ في الخامسة من عمري، كنت مريضة ولا أستطيع الركض مع الفتيات في المدرسة، كان ذلك بوقتٍ قصير قبل أن يرحل جدي بعيدا. أمي تقول إنه لن يعود قبل فترة طويلة، وأن علينا الانتظار حتى الوقت المناسب لنتمكن من رؤيته. أصبح صوتها خافتا دامعا: يا صغيرتي لا تتركيني من أجل جدك. لكني كنت أحاول تذكر ما قاله جدي قبل أن يرحل: أديري المفتاح كاملا مع عقارب الساعة، ثم أغلقي عينيك، واستمعي للموسيقى وستركضين سريعا مع الفتيات في المدرسة. كان جدي محقا، كنت أرقص في المدرسة، في المنزل، عند النافذة حيث تتوقف القطط والغربان في ساحة القاذورات عن العراك، وتقف تحت نافذتي تستمع إلى موسيقى الفتاة المصنوعة بالكامل من الخزف الملون.
كانت هذه القصة بالضبط تلك التي رويتها لجارتنا الجديدة التي جاءت لزيارتنا مع ابنها الصغير. وقد اعقبت جارتنا محرجة: أنا آسفة لأن ابني أسقط هذه اللعبة من على الطاولة. لم تكن لتقدم هذا الاعتذار المهذب لولا أنها شعرت بالحرج، فأنا لم أهرع لاستقبالها عند دخولها لزيارة منزلنا لأول مرة. كنت أجلس على الكرسي الخشبي بجوار النافذة وقتئذٍ، ولم يكن بوسعي فعل الكثير. كان علي الاعتذار عن قلة تهذيبي التي لا استطيع التصرف بعكسها، كما أني شعرتُ بضرورة إخبار الجارة بهذه القصة حتى لا تشعر بالأسف، لم يكن ابنها المذنب في المقام الأول بل أن اللعبة أُصيبت ببعض الضرر منذ أن استعدناها من ساحة القمامة فأصبحت تعمل بالشكل المعكوس، كنت أقول هذا وأنا أتأمل بحزن القدم المكسورة للفتاة.
لعشر سنوات مضت ومنذ أن بدأت الفتاة ترقص ضد عقارب الساعة لم يحصل الكثير، بضعة تغييرات لكن نافذة الغرفة لم تتغير مطلقا. ساحة القاذورات أصبحت حديقة صغيرة، وأطفال صغار يركضون فيها كل مساء بعد عودتهم من المدرسة، ربما كانوا يركضون في المدرسة أيضا، وفي منازلهم أيضا، وربما يركضون في طريقهم من المنزل إلى الحديقة أيضا. لم أعد أعرف أين أصبحوا يلقون بالقاذورات الآن، فقد أزيلت ساحة القاذورات بعد يوم واحد من رحيل أمي، كنت مسرورة لأن والدي جلب بعض الأزهار الفواحة، ومجموعة أخرى من شتلات الريحان لنزرعها بجوار قبر أمي. قالت أمي: عند المساء، أغلقي عينيك ودعي الفتاة على القاعدة الزجاجية ترقص، لا تنسي.. يجب أن تديري المفتاح عكس عقارب الساعة وسنكون أنا وجدك بالانتظار في الوقت المناسب. القدم المكسورة لا يمكن إصلاحها فقد أصبحت كفتات الخبز المتناثر، ولكني وضعتها بالقرب من طاولة الزينة، حيث أرى قدمها المكسورة كل يوم. لم أنتبه إلا مؤخرا أن فستانها الأزرق الملكي قد أصبح باهتا ومجعدا بشدة، وأخذت الموسيقى التي تنبعث منها تخفت تدريجيا، لم تتوقف الفتاة عن الدوران بالرغم من ذلك.
قال أبي يوما: يا للفتاة المسكينة، فستانها الأزرق الملكي بحاجة حقا إلى أن يُغسل! ما رأيك أن نذهب غدا للبحر ونغسل قدميها وربما قدميك بماء البحر الدافئ؟ ضحكتُ قليلا من كلام أبي، ينظر إلي وأنا أجلس بجوار النافذة الواسعة كل يوم فينسى كم مرت من السنوات، ما زال يحملني منذ أن كنت طفلةً صغيرة إلى سرير النوم، وما زال يركض بي بين أزقة القرية وأنا أخبئ رأسي من الخجل، لكني أضحك لأن الرياح تدغدغني وأنا أطير بين يديه، وحين يدفن قدمي الضامرتين في رمال الشاطئ، أحتّج بصوت عالي حتى يُطلق ساقي للريح .. أخرجُ من الرمال، أشيرُ إلى قدمي وأقول له: ها هما سمكتان صغيرتان وجدتهما تطفوان على السطح، كانتَ مستسلمتين تماما للأمواج. تنهمر الدموع غزيرة من عيني أبي، فيقول: يا لهذا التراب المُشاكس الذي يقتحم عيني عنوة. في ذلك الصباح حملني أبي أنا وفتاة الخزف إلى السيارة، قال أبي أنه يرغب أن يطير بالسيارة قليلا في السماء حتى نسابق النوارس التي بدأت بالظهور، أخذ يردد نغما قديما كانت أمي تغنيه حين تشعر بالسرور..
يا صبح الصابحين
قلبي بحر كبير
فيه شط ورمل
وشمس وحورية
وحكاية بلدية
عن حورية عشقانة
وصبي بيرقص كل ليلة
وهي حيرانة
شو تعمل بحالها
قلبي بحر كبير
بس أنا بدي الأمير
بس أنا بدي الأمير
أردد: قلبي بحر كبير، بس أنا بدي الأمير، فيبدو البحر قريبا، قريبا جدا. يصمت أبي فجأة ويصرخ برعب، أتشبث بكرسي كما فعلتُ أغلب حياتي، لكني أدرك أني يجب أن أغادره الآن حتى لو اضطررتُ إلى بتر ساقي. أبي الهادئ جدا يصرخ بهستيرية: افتحي الباب اخرجي اخرجي. أدفعُ الباب بكل قوة، أدفعهُ بقوة شديدة وعدة مرات حتى فقدت الاحساس بيدي، ثم وأنا أتهاوى من السيارة، معلقة بين الأرض والسماء، أبصرتُ الشاحنة التي دلقت الزيت على الشارع، أُبصرُ سيارتنا على الجسر وهي تدور بعنفٍ حول نفسها مرات متتالية، أسقطُ في البحر متحررة من كرسيّ، يومض الشارع ويصطخب بصوت هائل حين تصطدم سيارة أبي بالشاحنة وتتطاير قطعها، يبتلعني ماء البحر المالح شيئا فشيئا، القاعدة الزجاجية تصدر نغما جميلا شديد البهجة والسكون، وفتاة الخزف الصغيرة انفصلت الآن تماما عن قاعدتها الذهبية بقدمها المكسورة، لكن فستانها الأزرق الملكي يلمع تحت الماء، أمدُ إليها يدي قبل أن يجذبها التيار بعيدا، لكن ثمة تيار آخر يجذبني بكل قوة إلى أعلى وبشكل متواصل، أصوات وصراخ وبشر يرددون: الحمد الله، الحمد الله. أجهش بالألم، بالنواح، أحاول أن ابتعد عن الوجوه التي تتفقدني، أحاول أن أجري، اتذكر أني بلا كرسيٍ لا يمكن أن أتحرك، لكني أشعر بثقلٍ عجيب في قدمي، يرعبني الإحساس بقدمي بعد كل تلك السنوات، تياراتٌ من الماء والدم تجبراني على الوقوف، أقف وأحدق في قدمي بذهول، أبكي وأقول: آهٍ يا أبي قد غسلتُ قدمي بالبحر أخيرا.. الحورية التي منحتني القدمين قد رحلت إلى أعماق البحر.
المصدر: شرق غرب | العدد 18