عُمان: حوار ـ فيصل بن سعيد العلوي
هذه هي المرة الثالثة التي أحاول فيها إجراء هذا الحوار.. كنت على وشك الإحباط وأنا أحاول في المرتين السابقتين معرفة مسار الوصول الصحيح دون جدوى لكنني في هذه المرة وفقت لإيجاد المسار الصائب ..
لم أكن أعلم، وأنا أضع أسئلتي الكثيرة أن أجد كل هذه التفاصيل الدقيقة على الأسئلة والإجابات العميقة التي تجاوزت بكلماتها أقصى مساحة ممكنة لنشر حوار صحفي .. الأمر الذي أجدني فيه مضطرا إلى أن ألخص ما اخترته وانتخبته من الأسئلة والإجابات في هذه المساحة التي ستشكل ـ بلا شك ـ ملمحا مختصرا جدا من حوار طويل أسعى لنشره لاحقا في «كتاب» لا يبقي حرفا إلا وقد تضمنه واحتواه .. بكل التفاصيل العميقة والإجابات الدقيقة عن أسئلة حاولت البحث في التوازن بين الواقع التقليدي الذي تحتويه الأمكنة وبين الفكرة الحداثية التي تتبناها الروائية صاحبة السمو السيدة غالية آل سعيد في كتاباتها ومشاريعها الثقافية المتنوعة .. وحتى لا تشكل هذه المقدمة عبئا آخر على الحوار نشرع كي نتجنب مطب الإسهاب ..
غياب وعزلة تتبناهما غالية آل سعيد في حياتها عموما .. وعن الإعلام والأضواء والبعد عن الوسط الثقافي وندرة في الحديث .. هل الكتابة هي الهاجس الذي يستدعي حضورك الذهني العميق تجاهها. والوفاء بمتطلباتها أو أن ثمة أشياء تجبرك على اتخاذ قرارات ربما تكون ليست طوعية في أحيان أخرى؟
البعد الذي تعنيه وأشرت له في هذا السؤال ليس أمرا مفتعلا. الأمور المحيطة، التي تجري، هي التي تحدده، خاصة الظهور من عدمه. يجب أن يكون للظهور أسباب مقنعة ومنطقية، وإن لم تكن هناك أسباب كيف ولماذا يحدث؛ هل لمجرد الدوران في الفراغ وتكرار الذات؟ ها أنا ظهرت عندما أتى سبب للظهور، فللظهور سبب وللاختفاء سبب.
وتجدني كأي شخص آخر، لدي مشاغل واهتمامات كثيرة ومختلفة تتطلب إشرافي وتفاعلي وسيري معها، وربما أجد الاختفاء مجديا وضروريا لتكملتها. المشاغل هي التي تدفعني للتواري الذي أشرت له.
حاليا، أسعى جاهدة لتأسيس المتحف الجديد، وقد أخذ وقتا طويلا لأسباب عدة ومختلفة. إضافة إلى المتحف، تظل هناك اهتماماتي الروائية، فمطالبها لا تخمد ولا أريد قطعها. كل هذه الاهتمامات إنجازها يتطلب الوقت الطويل، والعزلة شبه التامة، عندما أكتب لا أجد ملجأ غير العزلة.
وبجانب الأعمال الروائية، أطمح إلى تأليف بعض الكتب المختلفة، بعضها له علاقة بالمتحف. هنالك كتاب عن خلفية المتحف وإنشائه. وهنالك عمل يتعلق بمجموعة صور من مطرح المعاصرة، أخذتها ذات سنة في أثناء مشاهداتي في مطرح بجانب سوق السمك الذي يكوّن رابطة صغيرة لسكان المنطقة، كما أنني أفكّر في تأليف كتاب عن الأزياء، وأخطط لمتحف أكرّسه للأزياء، ما زال متحف الأزياء في حاجة إلى مكان، والبحث جارٍ للعثور على بيت مناسب للمتحف هذا.
كل ما في مطرح وما يحاذيها من قلعتها الشهيرة وحاراتها القديمة وبيوتها الأثرية والعمق الرمزي التاريخي لها يعكسه متحف «المكان والناس» حيث قصة الإنسان العماني المرتبط ببيئته ومجتمعه المتذوق للفن والجمال، والتي ترجمها بالنقوش والزخارف والأدوات والملابس ذات الألوان المتعددة، إضافة إلى باقي المفردات الأخرى هناك شغف كبير بجمع المقتنيات و«الأنتيك» كيف تطورت الفكرة لإنشاء هذا المتحف؟
حقيقة الأمر، سميت المتحف أولا متحف غالية للفنون الحديثة، ولاحقا سميته متحف المكان والناس، تأسس المتحف من المقتنيات العديدة التي جمعتها على مدى زمني طويل للغاية. رغما عن ذلك، نجد أن الشروع في تنفيذ الفكرة قد تم تلقائيا ومن دون تخطيط مسبق أو مداولات تتسم بالأخذ والرد. توفر المبنى من دون ترتيب مسبق، ومن ثم تم شراؤه. بعد ذلك، تم تحويل المبنى إلى متحف، بتشجيع من المترددين عليه، والذين تجولوا في أروقته، حتى قبل البدء في العمل على تحويله إلى متحف. وقد استقطب المكان الناس إذ وجدوا فيه أنموذج البيوت التي سكنت فيها غالبية الناس في الحقب الماضية.
نعم.. لدي شغف كبير في الحصول على مقتنيات التراث، والأمر عندي لا يتعلق بالثمن والجودة؛ لقد عايشنا في حقبة من الزمن في بيوتنا وعامة محيطنا، بيئة مدنية تعج بعديد الأشياء من المقتنيات الجميلة ودقيقة الصنع، تلك كانت وما زالت تحكي عنا كبشر وعن هويتنا كعمانيين. في حقبة مضت، كانت البيوت العمانية عامة أشبه بالمتاحف، إذ تزخر بالمصنوعات والمشغولات اليدوية جميلة الصنع عالية القيمة، ومن هنا يأتي دور المتاحف، ولقد تم تأسيس متحف المكان والناس للمحافظة على هذا النوع من البيوت القديمة التي سكن في مثلها أهل مسقط ومطرح ولم يبق منها سوى القليل.
هنالك واقع يتبناه نتاجك الأدبي عموما، وفي رواية «حارة العور» افتتان كبير بمسقط القديمة.. ما السر في هذا الافتتان وماذا تبقى في الذاكرة منها؟
أولا، من منا لا تفتنه مدينة مسقط بتضاريسها المختلفة: جبالها الشاهقة، وبحرها المترامي الأطراف، وقلاعها الساكنة أعلى الجبال، ومبانيها. وهنا أعني ما تبقى من القلة القليلة من تلك المباني والبيوت القديمة التي بقيت من حقب مضت. بيوت بسيطة الهندسة والتصميم، يحق لنا وصفها بتجريدية الشكل خارجيا وداخليا، لقلة ما تحمله من زخرفة فهي أشبه بأماكن العبادة.
عكس ما ذكرت للتو، بيوت اليوم تؤسس على زخارف خارجية وداخلية، أثقلتها بتفاصيل كثيرة ومتضاربة، وأظن الأمر يتعلق بنزعة الناس لإظهار الغنى والذي يتحول إلى بذخ مبالغ فيه. فالبيوت العمانية في الزمن القديم بسيطة الهندسة والتصميم، تعكس حب العمانيين لسهولة المعيشة الذي اتخذوه منهجا وأسلوب حياة، ومن فكرتهم تلك، اتخذت هندسة المساكن والبيوت طابعا بسيطا وسهلا ومنسجما مع واقعهم، كذلك مأكلهم ومشربهم، كان بسيطا وموسميا ويناسب حياتهم.. إذ لن تجد أطعمة خارج موسمها – كما هو الحال الآن – فواكه وخضروات الصيف تجدها في موسم الشتاء وهكذا.
بجانب ذلك، وجدنا الاهتمام بتعليم الشباب في المدرستين الأساسيتين للأولاد: المدرسة السعيدية، واحدة في مسقط والأخرى في مطرح. مدرسة الإرسالية كذلك واحدة في مسقط والأخرى في مطرح. بالمناسبة، المدرسة الإرسالية كانت مختلطة.
على العموم، هناك قصص كثيرة عن صعوبة الحياة في تلك الحقبة من الزمان، في مسقط وفي باقي الولايات.
المهمشون في هذه الحياة كثر، وتناولك للمهمشين في أغلب رواياتك تناول يتبنى قضاياهم أو ربما يتناول اختلال مجتمعاتهم أو طريقة تعاطي المجتمع معهم، وقد يعكس صورة سوداوية قاتمة لواقع لا يشترط أن يكون حقيقيا في مقابل أن هناك آخرين يعيشون بشكل طبيعي في ذات المجتمعات، إذ نحن في صراع متبادل بين المجتمع وأفراده.. قد تخفق بعض السياسات في استجلاء العدل وهذا أمر مسلم به، لكنه في المقابل يضع الكاتب في سياق تلك السياسات والذي هو الآخر يمارس ذات الدور أي بمعنى أنه يمنح المهمشين دورا على حساب آخرين يسعون إلى إثبات أنفسهم في المجتمع ولا ذنب لهم .. لا نعمم الحالات ـ لا شك ـ لكن هناك من يهمش نفسه بنفسه بطريقة أو بأخرى ربما لأنه لا يعرف طريق الوصول أو ربما لأن السياسات التي ذكرناها سابقا ساهمت في ذلك ؟
سؤال مهم عن المهمشين عامة؛ هؤلاء الذين يدورون على أطراف وداخل فضاء المجتمعات أينما حلوا، سواء في مجتمعاتهم الأصلية أو التي لجؤوا إليها في أراضٍ بعيدة وغريبة. يفعلون ذلك بدوافع شتى ومتعددة ومعقدة. هذا السؤال مبطن بأسئلة اختزالية، لا تكاد تنتهي من الرد على جزء حتى يلاحقك جزء آخر، وهكذا دواليك.
نستطيع القول إن تهميش الأفراد في مجتمعات العالم، لا زمان له ولا مكان، ويقع على نطاق واسع وفي مجتمعات شتى، الصغيرة والكبيرة المتقدمة والنامية. هنا في الرد على هذا السؤال، نذكر القلة القليلة من الأسباب التي تؤدي إلى تهميش الفرد في المجتمع.
أحد أسباب التهميش، إن لم يكن أهمها، هو النزاعات والتقلبات السياسية الداخلية والخارجية، وما يزيد الطين بلة، أن أغلب الدول لا تتقبل فكرة الهجرة إليها، وترفض استقبال أفواج المهاجرين. تنصب أمام محاولي الهجرة شتى العقبات لسد طريق الوصول لها؛ لذلك يتزايد التهميش بمعدل متزايد.
بجانب الحروب، يقع التهميش لأسباب تتعلق بالصحة وبالأخص حالات الأمراض النفسية والعقلية، وبجانب هذين السببين، يحدث التهميش نتيجة تغيّر في ديموغرافية المجتمعات وطبيعة سكانها، فمثلا هجرة الناس من القرى والمدن الصغيرة إلى المدن الكبيرة؛ للعمل والعيش، فهم يقومون بمحاولة مستميتة للعثور على وظائف وأعمال أفضل، وتحسين دخلهم، المشكلة أنهم لا يتمكنون من الحصول على طلبهم في القرى والمدن الصغيرة؛ بسبب محدودية التجارة، وقلة المصانع والمنشآت الوظيفية الأخرى.
إن التهميش أصبح مشكلة معترفا بها -على الأقل- في المجتمعات الغربية، بسبب ما يخلفه من مشاكل على استقرار أفراد المجتمع.
أنت ذكرت في سؤالك ما يلي: معالجة التهميش تمنح المهمشين دورا على حساب آخرين يسعون إلى إثبات أنفسهم في المجتمع ولا ذنب لهم. صحيح، في المجتمعات أفراد منضبطون يسعون لتكملة وتأدية واجباتهم إزاء أنفسهم ومجتمعاتهم كما يجب، وعلى أكمل وجه. فلماذا يؤنّبون بسبب فشل الآخرين على القيام بذات مهام من اختاروا العيش بصورة مختلفة. كأنما نقول حياة المهمشين يسودها الاستهتار وعدم الالتزام بمتطلبات وشروط العمل، والعيش كما يجب في المجتمع، من احترام القوانين الاجتماعية، وغيرها من القوانين التي تحقق التوازن في حياة الفرد، وتعم الجميع. حقا، هناك آخرون في المجتمع يقومون بواجباتهم كما يجب. هم أقوياء ذهنيا ومعنويا. لكن، وهنا بيت القصيد، ذلك لا يعني أن جميع أفراد المجتمع يتمتعون بذات القوة الذهنية ويتحلون بمستلزمات ومتطلبات المسؤولية كما يجب، وكما يفعل غيرهم على الرغم من التقدم الذي أحرزه العالم، منذ انتهاء الحربين العالميتين في عالم العلم والطب والاقتصاد؛ إلا أنه ما زال هناك فشل كبير في إعانة الفرد كما يجب. لهذا ما زلنا نجد المستشفيات والسجون ممتلئة؛ كما الطرق وشوارع المدن. حتى الغنية منها، تفيض بالمنعزلين واللاجئين إليها في حال من الانطواء على النفس.
لقد تغير الزمن في السنوات القليلة الماضية وتضرر العالم بأضرار مختلفة ومخفية لم يخمن أحد إطلاقا حدوثها، ويمكن القول إنها هزت العالم حتى النخاع؛ كما لم تهزه من قبل أهمها جائحة كوفيد-19 الوبائية، والآن الحرب الروسية الأوكرانية حيث تغيرت معادلات وترتيبات كثيرة بين الدول، وستستمر في تغيير توازنات أخرى كثيرة.
الخلاصة، التهميش ليس ظاهرة ترتدى من قبل من يريد ارتداءها؛ بل هي نتيجة عوامل واقعية في حياة الذين -لسبب أو لآخر- تنقصهم مقومات التعايش الاجتماعي والعيش بصورة متوازنة في داخل الأسرة وفي المجتمع الواسع العريض.
في الحراكات السياسية والاشتعال المؤدلج في البلدان العربية تحديدا يتهم المثقف بأن دوره إن لم يكن محدودا فهو معدوم في تبني فكرة تنوير العقل للموازنة بين ما هو شر وما هو واقع بين ما هو خير وما هو بعيد التناول وكل تلك الفكرة التنويرية غائبة بعيدا عن دور المثقف بل إن الأدوار الهدامة هي التي ترتبط بالمثقف العربي أكثر من دوره المنوط به! هل فعلا دور المثقف في الوطن العربي هو الآخر دور هامشي لا يتعدى حدود مصلحته الشخصية في حين أن من يعيشون واقعهم المؤلم هم الذين ينزلون للشوارع يطالبون بالمساواة والعدالة ولقمة العيش الكريم؟
في الحقيقة، لدى العالم العربي نصيبه العادل من المثقفين المهتمين بما يدور في مجتمعاتهم، ومجتمعات العالم عامة، من قضايا شائكة، ومتراكمة تمس مختلف الأمور السياسية والاقتصادية والعسكرية، وغيرها من القضايا. نحن نتحدث عن قضايا تشّكل مصدر قلق في المجتمع العربي خاصة، والمجتمعات البشرية عامة. إن التاريخ يقف شاهدا على أن المثقف العربي مد باع حضارته إلى مجتمعات أخرى. وسمات تلك الحضارة، ما زالت باقية ومحفورة حتى يومنا هذا في ذاكرة وثقافة الآخر، وكتب عنها الكثير، وتغنى بها الشعراء.
وهناك أمثلة على نماذج التداخل الحضاري المعروف وهي أمثلة تاريخية مهمة تخلص إلى الظن أنه لا دليل على أن المثقف العربي في وقتنا الراهن غافل عن دوره المنوط به؛ أو غير مبال؛ بل العكس هو الصحيح. وعلى ذلك، فلنكن واقعيين. في وقتنا هذا اختلفت أمور كثيرة في العالم، وبالأحرى عالمنا العربي، سياسيا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا. ويقال عن المثقف العربي إنه فشل في الدور الأساس، الذي يجب عليه لعبه في المجتمع. يقولون المثقف لا يسلط الضوء على القضايا العامة، والأمور الملحة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكذلك القضايا ذات البعد الكوني.
إن كان هناك عدم اكتراث، من قبل المثقف العربي – كما يرى البعض – فالثابت عندي أن هذا ليس تقصيرا من جانبه. الأمر عائد إلى طبيعة وحال المجتمعات العربية الراهنة نفسها. بالطبع، المجتمعات العربية تندرج ضمن مجتمعات العالم الأخرى، التي تقع خارج الدائرة الأوروبية والأمريكية الشمالية واللاتينية، وأفريقيا، وشرق آسيا، حيث تجد المحور الذي يدور فيه المثقف محدودا، وقدرته على التعبير عن الرأي محدودة، بل محفوفة بمخاطر قطع الأرزاق، والزج به في غياهب السجون.
حقيقة الأمر، المثقف العربي يعيش في وسط مجتمعات مهزوزة سياسيا وعسكريا واجتماعيا واقتصاديا؛ بل تقف على أرض رخوة. وحال المثقف من حال مجتمعه كأي فرد آخر: القاضي، الشرطي، المهندس، الطبيب، الأستاذ الجامعي، أو الصحفي. ذاته من ذاتهم، هو في حاجة ملحة لكسب الرزق لمقابلة احتياجاته المعيشية، ومسؤولياته، تجاه نفسه، وأسرته. إذن على أي أرض متحركة، تقف حرية التعبير المنشودة التي يتوقع من المثقف التمسك، والعمل بها؟.
يلتقط الكاتب أنصاف الأفكار ويعيش في عوالمها حتى إن لم يعشها واقعا، وبرغم قلة تماسك مع قضايا المرأة كما ذكرت في حديث سابق نظرا لخصوصية إقامتك الطويلة في الخارج إلا أن أنصاف تلك الأفكار متوفرة في المسرح الاجتماعي ومن الممكن البناء عليها من خلال معايشة العوالم على الأقل وليس «الواقع» لذلك لا يوجد ما يبرر عدم التناول العميق لقضايا المرأة العمانية؟
حقا، إنني ابتعدت طويلا عن المسرح الاجتماعي العماني، ولم يكن ذلك باختياري، إنما أملته ضرورات الدراسة، ومدة ابتعادي كانت طويلة، فوق الثلاثين عاما أو تزيد. ولكن، أولا وقبل كل شيء، كنت قبل خروجي من عمان قد درست في أول مدرسة حديثة، أُنشئت للبنات في عهد السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه،وهي مدرسة الزهراء بمسقط.
وعلى الرغم من ابتعادي الطويل عن عمان، والتطورات التي جرت فيها، ومن بينها أوضاع المرأة وقضاياها؛ إلا أنني على اطلاع على أحوالها من خلال السؤال والمتابعة، لدي اهتمام كبير بمختلف القضايا؛ منها قضايا وأوضاع المجتمع العماني، وهموم الناس فيه، لذلك لا يجوز القول إنني لم أهتم إطلاقا! خلاصة القول، إنه حتى ولو حاولت ذلك؛ اهتماماتي المتعددة لن تدع لي مجالا كي أتجاهل المرأة، لأن سعيي وتطلعاتي، يدفعاني للأخذ بقضايا الناس وهمومهم عامة، وبقضايا المرأة المختلفة خاصة. لذلك يمكنني القول، وبكل ثقة، أنا أقرب – مما يتصور البعض – لواقع وقضايا المرأة العمانية، ولكن كما ذكرت في البدء، ابتعادي الجسدي عن مسرح الأحداث في المجتمع وعن قضايا المرأة العمانية خاصة، تلك حقيقة لا تنكر.
على أنني كلما عدت إلى عمان، كنت ألتقي بمن كن زميلاتي في الدراسة، وكذلك بجارات والدتي، في ولاية السويق. وفي الحقيقة جارات والدتي كن يضعنني في مجرى وسير الأمور الاجتماعية، وبالأخص: قضايا المرأة وهمومها. وبذلك أتيح لي الاستماع والاقتراب من شتى القضايا التي ترهق المجتمع ككل، والتي ترهق المرأة العمانية على وجه الخصوص. والذي أدركته، وأتمنى أن أكون محقة فيما أقول، يمكن وصف واقع المرأة العمانية بالأفضل، مقارنة بواقع كثير من النساء في مجتمعات أخرى. تلك الأفضلية تشمل مجالات التعليم، والزواج، والعدل الأسري، والمواريث، وحقها في التقاضي أمام كافة درجات القضاء، واستئناف الأحكام وصولا للمحكمة العليا. حق التقاضي مارسته المرأة العمانية وأخذت به؛ حتى في حقبة ما قبل العام 1970، أي في عهد السلطان سعيد بن تيمور، حين كانت المرأة، قليلة الظهور، خارج البيت، إلا للضرورة.
تدور رواية «صابرة وأصيلة» في مجتمع خالص وظفت من خلاله الموروث العماني بشكل لا بأس به في حين أنك تجاهلت هذا الموروث في تفاصيل كثيرة من أعمال أخرى ولا شك أنه لا يشترط الزج بالموروث في كل كتابة، لكن الغوص في أعماق هذا الموروث ربما يتيح للآخرين التعرف على ثقافة جديدة، تشكل له في الواقع اختلافا مغايرا لكتابة تعوّد عليها؛ وبالتالي تصنع له فارقا مختلفا؟
نعم، كما ذكرت، رواية صابرة وأصيلة، بكل تفاصيلها دارت أحداثها في مجتمع عماني خالص.. أما قولك «تجاهلت الموروث العماني في جميع رواياتك»، اعتبره حكما فيه تعميم وإطلاق، وغير منصف بعض الشيء. هناك أسباب فنية و«تكنيكية» في كتابة الرواية، هي التي أدت إلى ذلك، لا أكثر ولا أقل. إن كنت ملما بالعمل الروائي أو مارسته؛ ستدرك ذلك، وتأخذ بما أقوله وستصدقه.
والحمد لله، لدينا في عمان نخبة متميزة من الفنانين، والشعراء والأدباء، ظهرت لهم أعمال عديدة، تحمل صورا وأحداثا عمانية، أظنها لبت ولو قليلا من الشوق لماضي البلاد وتاريخها. الروائية جوخة الحارثية انعكست في أعمالها الروائية، جوانب متفرقة عن الحياة العمانية، وهناك بشرى خلفان في روايتها «دلشاد»، والراحل الدكتور عبدالعزيز الفارسي، والدكتورة زوينة الكلبانية، والدكتورة عزيزة الطائية، وهناك أمثلة عديدة من الروايات، كلها تدور في الوسط العماني، ربما من أهمها أعمال الكاتب محمد الرحبي في روايته «ناجم السادس عشر»، ورواية «الطواف حيث الجمر» للدكتورة بدرية الشحية، ود.فاطمة الشيدية في «حفلة الموت»، وهدى حمد في عدة إصدارات روائية، منها: سندريلات مسقط، ولها قصص قصيرة. فالمشهد العماني حافل بالأدباء والكتّاب الذين جربوا كل ذلك.
رغم أن الرواية فن خالص بعينه والقصة القصيرة كذلك، إلا أن هناك من يعتقد أن الرواية هي تطور للقصة القصيرة.. وإن كانت متعة الرواية تكمن في ملابساتها وتجلياتها فصعوبة القصة القصيرة تكمن في تلخيصها بل وقراءتها العميقة للوقائع وكون أن لك تجربة كبيرة لا نعرف أيهما أتى قبل لكن ممارستها كانت حتمية فإلى أي مدى تعكس تلك الممارسة الواقع الذي نتحدث عنه؟
دعنا نتمادى قليلا ونداعب القصة القصيرة. نقول: القصة القصيرة عبارة عن الأم الحقيقية للرواية؛ القصص القصيرة أمهات لروايات كثيرة نلن مرتبة الشرف وحزن أعلى المراتب والجوائز الأدبية، الأمر هنا هو أن في كثير من المحاولات الإبداعية القصصية، يجد القاص نفسه على مشارف الانتهاء من كتابة القصة. ولكن تفاصيلها سارت، وسرت، وجرت، وتمادت وكثرت وتقدمت من تلقاء نفسها. في واقع الحال، توجد متعة في كل من كتابة القصة القصيرة وكتابة الرواية. ولكل واحدة عشاقها من المبدعين والمهتمين، من الجانب الإبداعي والتكنيكي. لكننا نلاحظ المتعة تختلف عند كتابة القصة القصيرة، وعند كتابة الرواية، في الحالتين علينا التحقق من أهمية الجوانب الفنية في الكتابة والإبداع.
أكرر مرة أخرى وأقول ما قلته مرات عديدة في أثناء الرد على مثل هذه الأسئلة: العمل الإبداعي لا يقوده المبدع. العكس هو الصحيح، الإبداع هو الذي يقود المبدع إلى إنتاج هذا أو ذاك النوع من العمل. وهكذا، يوجد سجال بين الإبداع والمبدع، حتى ينتهي هذا التحدي بغالب أو مغلوب.
دعني أتحدث عن تجربتي الشخصية في الكتابة. قبل ممارسة كتابة الرواية، كتبت بعض القصص القصيرة. في أثناء ما أنا منهمكة في كتابة القصة القصيرة، قمت بعملية تمرد على أبطالها وانقلبت على الحدود.. تلك رواية «جنون اليأس».. كنت على وشك الانتهاء من كتابتها. تبدل الاسم من قصة خيمة لناهد إلى رواية جنون اليأس. إن مسودة قصة خيمة لناهد، ما زالت منتصبة كما هي وفي ذات المكان والزمان. لذلك، ربما ذات يوم أحاول نشرها على صيغتها الأصلية الأولى.
في ظل تداخل الأجناس الأدبية وربما تعمد هدم الحواجز بينها من قبل بعض الكتاب، ولا شك أن دخول الشعر بشكل مثقل في الرواية أحد أهم أشكال ذلك التدخل وربما ميلاد كتابات عابرة الأنواع، وفي رواية «جنون اليأس» التي أطرحها مثالا فقط كان الشعر هو العمود الفقري الغائص في أعماق السرد، وفي رواياتك كما يرى محمد الغزي تراسل مع فنون ثلاثة هي: الشعر والموسيقى والحكاية الشعبية فهل أفسدت ذلك التداخل في التجربة أو أنه شكل إضافة كما ترين من منظورك ككاتبة وكمتلقية عموما؟
نعم، الاستعانة بالفنون في النص الروائي تستهويني. وقد استهوتني منذ أمد بعيد -تماما- كما استهواني فن الرواية. ولذلك ملت إلى إدخال الفنون الأخرى في رواياتي، وعلى رأسها الشعر. أكاد لا أجد أجمل من فكرة الإضافات الفنية من شعر، وأمثال، وغيرها من جماليات الإبداعات الفنية، للآخرين. هذه الإضافات، تسند الوصف في النص الروائي، وتساعد في التركيز على التعبير المؤثّر. ومن منظوري، تعطي إضافة أقوى وأجمل للنصوص الإبداعية في الرواية. وتزيد من شحذ خيال المتلقي في أثناء قراءته النص، بما يشبه الشريط السينمائي المثير والمشوّق.
وكما ذكرت، ذلك يمثّل إضافة للنص الروائي، ويوسّع من تصورات المتلقي، ويدفعه للتفكير، والتفاعل مع ما يطالعه. وهذا هو المراد من أي عمل إبداعي، أيا كان نوعه. يجب على العمل الإبداعي أن ينبض بالحياة؛ فما بالك بالعمل الروائي.
ولا أجد الاقتباسات مضرة بالنص الإبداعي؛ بل كما ذكرت أعلاه تعطي حياة وحيوية للنصوص الروائية. ربما بدونها، ستكون الرواية أقل من أن تمنح المتلقي الدافع للانسجام ومعايشة النص كما يجب؛ والاستغراق في أجواء السرد. وبالطبع، المتلقي من مثلك، هو الذي يحكم؛ إن كان الذي أقوله يقف على أرض الواقع أم لا.