نعيش في هذه الأيام من شهر جمادى الأولى مناسبةً أليمة هي ذكرى وفاة فاطمة الزهراء عليها السلام.
كل وفاة إنسان لا شك تخلّف اللوعة والحزن في قلوب أهله وأقربائه وأصحابه. وكلما زاد الارتباط العاطفي والمبدئي زادت حدة اللوعة والحزن، مع التسليم لقضاء الله وقدره، ويستمر أثرها حتى يخففه تقادم الأيام. ووفاة وشهادة سادتنا وأوليائنا رسول الله وأهل بيته الأطهار يُفترض أن يعدِل أو يفوق أثرها فقد أقرب أقربائنا، وإلا اعتُبِرنا “فاسقين”:
{ قُلۡ إِن كَانَ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ وَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ وَأَزۡوَ ٰجُكُمۡ وَعَشِیرَتُكُمۡ وَأَمۡوَ ٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةࣱ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَاۤ أَحَبَّ إِلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادࣲ فِی سَبِیلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ }
[سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٢٤]
وأهل بيت رسول الله منه وهو منهم، وفاطمة الزهراء “أم أبيها” وهي روحه التي بين جنبيه، حسب الروايات التي صحّت عن رسول الله. فماذا لو استقرأنا التاريخ واطّلعنا على مظلوميتها بعد وفاته؟! وماذا لو عرفنا أن شهادتها ووفاتها سبّبها الاعتداء على بيتها حيث جُرحت وهي حامل بالمحسن، ونتج عنه أن تسقط حملها وتتسارع أيام حياتها مثقلة بألم انقلاب المسلمين على “وصية” رسول الله، لتلحق مسرعة بأبيها صلوات الله وسلامه عليه وأهل البيت جميعاً.
بهذه المناسبة السنوية الأليمة التي قد يجد البعض فيها المبالغة أن تخصص عدة أيام لعقد مجالس عزاء، فإننا نتوجه إلى رسول الله بالتعزية على ما جرى على حبيبته التي من رحْمِها أدام الله نسلَه وتحقّق عطاء “الكوثر” في الدنيا قبل الآخرة.
بالرغم من ورود العديد من النصوص المنسوبة لسيدتنا الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، فإن القليل من المسلمين قد اطلعوا على شخصيتها، ولعل من أفضل ما يعرّف عليها – بعد أحاديث الرسول عنها – خطبها التي نعجز عن وصفها.
وأحب أو أورد هنا خطبة قصيرة وردت عنها وتبين الغصّة التي حملتها من دارد الدنيا وهي مسرعة إلى لقاء الله والاجتماع برسوله في الدار الأخرى.
من رواية أحمد بن سعيد القطّان، تنتهي إلى فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام،
“لَمَّا اشْتَدَّتْ عِلَّةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) اجْتَمَعَ عِنْدَهَا نِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ لَهَا يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ؟
فَقَالَتْ:
“أَصْبَحْتُ وَ اللَّهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُمْ 1، قَالِيَةً 2 لِرِجَالِكُمْ 3، لَفَظْتُهُمْ قَبْلَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ 4، وَ شَنَأْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ 5، فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ 6 وَ خَوَرِ الْقَنَاةِ 7 وَ خَطَلِ الرَّأْيِ 8، وَ ﴿ … لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ 9، لَا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا 10، وَ شَنَنْتُ عَلَيْهِمْ عَارَهَا 11 فَجَدْعاً وَ عَقْراً وَ سُحْقاً 12 لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَيْحَهُمْ أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ 13وَ قَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ 14 وَ مَهْبِطِ الْوَحْيِ الْأَمِينِ15 وَ الطَّبِينِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَ الدِّينِ 16 – ﴿ … أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ 17، وَ مَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي حَسَنٍ 18 نَقَمُوا وَ اللَّهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ 19 وَ شِدَّةَ وَطْأَتِهِ وَ نَكَالَ وَقْعَتِهِ 20 وَ تَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ 21، وَ اللَّهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) لَاعْتَلَقَهُ 22 وَ لَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً 23 لَا يَكْلُمُ خِشَاشُهُ 24 وَ لَا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ 25، وَ لَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلًا نَمِيراً فَضْفَاضاً تَطْفَحُ ضِفَّتَاهُ 26، وَ لَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً 27 قَدْ تَخَيَّرَ لَهُمُ الرَّيَ غَيْرَ مُتَحَلٍّ مِنْهُ بِطَائِلٍ 28 إِلَّا بِغَمْرِ الْمَاءِ وَ رَدْعِهِ سَوْرَةَ السَّاغِبِ، وَ لَفُتِحَتْ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتُ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ، وَ سَيَأْخُذُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، أَلَا هَلُمَّ فَاسْمَعْ وَ مَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرُ الْعَجَبَ، وَ إِنْ تَعْجَبْ وَ قَدْ أَعْجَبَكَ الْحَادِثُ، إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا وَ بِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا 29، اسْتَبْدَلُوا الذُّنَابَى وَ اللَّهِ بِالْقَوَادِمِ 30، وَ الْعَجُزَ بِالْكَاهِلِ 31، فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ 32 قَوْمٍ ﴿ … يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ 33 – ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ 34 – ﴿ … أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ 35 – أَمَا لَعَمْرُ إِلَهِكَ لَقَدْ لَقِحَتْ 36 فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ 37 ثُمَّ احْتَلَبُوا طِلَاعَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً 38 وَ زُعَافاً مُمْقِراً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَ يَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَ الْأَوَّلُونَ 39، ثُمَّ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْفُساً 40 وَ اطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً 41 وَ أَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ وَ هَرْجٍ شَامِلٍ 42 وَ اسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ 43 يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً 44 وَ زَرْعَكُمْ حَصِيداً 45، فَيَا حَسْرَتَى لَكُمْ 46 وَ أَنَّى بِكُمْ وَ قَدْ عُمِّيَتْ 47 عَلَيْكُمْ ﴿ … أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ 48″
معاني الألفاظ:-
- عائفة: كارهة.
- قالية: مبغضة.
- في بعض النسخ «عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن» و سيأتي تفسير كلامها عليها السلام في المتن.
- لفظتهم: رميت بهم. عجمتهم: مضغتهم.
- شنئتهم: أبغضتهم. سبرتهم: عرفت عمقهم، أي تأمّلتهم.
- فلول الحد: ثلمة حدّ السيف.
- الخور- بفتحتين و الراء المهملة-: الضعف و الانكسار، و القناة: الرمح.
- خطل الآراء: فسادها.
- القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 80، الصفحة: 121.
- قلّدتهم: جعلت في أعناقهم، ربقتها: حبلها.
- شننت: أرسلت. والعار: السبة والعيب.
- الجدع – بفتح الجيم -: قطع الأنف. والعقر – بفتح العين -: الجرح. والسحق: البعد، وكلها في مقام الدعاء عليهم.
- زحزحوها: نحّوها. والرواسي: الثوابت.
- قواعد البيت: أسسه.
- مهبط الروح الأمين: محل نزول جبرئيل.
- الطبين: الحاذق الفطن العارف.
- القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 15، الصفحة: 460.
- نقموا منه: عابوا وكرهوا.
- نكير سيفه: لا يعرف سيفه أحداً ولا يفرّق بين الشجاع وغيره.
- وطأته: أخذته. ونكال وقعته: إصابة صدمته.
- التنمّر: الغضب، والمقصود من ذات الله أي لوجه الله.
- تكافّوا: صرف بعضهم بعضاً. والزمام: مقود البعير. أو الخيط الذي يُشدّ في ثقب أنف البعير.
- السير السجح: السهل اللين.
- لا يكلم: لا يجرح. والخشاش – بكسر الخاء – الخيط الذي يدخل في عظم أنف البعير.
- يتعتع راكبه: يقلق ويتحرك حركة عنيفة.
- المنهل: محل ورود الماء. والنمير: الماء العذب السائغ النامي للجسد، والروي: الكثير. والفضفاض: الواسع. تطفح: تمتلئ حتى تفيض. ضفّتاه: جانباه. يترنّق: يتكدّر.
- بطاناً: عظام البطون من كثرة الشرب.
- يحلى: يصيب ويستفيد. والطائل: كثير الفائدة.
- ليت شعري: ليتني علمت. والسناد – بكسر السين -: ما استندت إليه من حائط أو غيره.
- الذناب: ذنب الطائر. القوادم: ريشات في مقدم الجناح.
- العجز – بفتح العين وضم الجيم -: المؤخر من كل شيء. والكاهل: ما بين الكتفين.
- رغماً: كناية عن الذل: والمعاطس: جمع معطس (مكان العطسة) وهو الأنف.
- القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 104، الصفحة: 304
- القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 12، الصفحة: 3.
- القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 35، الصفحة: 213.
- لقحت: حملت.
- فنظرة: فمهلة. ريثما: مقدار ما. وتنتج: تلد.
- القعب: إناء ضخم. والدم العبيط: الطري.
- التالون: التابعون. والغب: العاقبة.
- طابت نفسه عن كذا: رضيت به غير كارهة.
- الجاش: القلب.
- الهرج: الفوضى، والقتل، واختلاط الأمور.
- الاستبداد: التفرد بالشيء من غير منازع.
- الفيء: الخراج والغنيمة. وزهيداً: قليلاً.
- جمعكم: زرعكم.
- الحسرة: التلهف على الشيء الفائت.
- عميت: التبست.
- القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 28، الصفحة: 224.