كان لجائزة نوبل في الطب لعام 2022 طعما مختلفا هذه المرة عن سابقاتها إذ إنها اتجهت نحو بحث علمي له صلة وثيقة بتاريخ الجنس البشري، لتؤكد نوبل على أهمية هذا الصنف من البحوث والتي أثبتت أن الماضي له أثر بالغ على حاضر الإنسان ومستقبله، فعدد من الجوانب المرتبطة بصحة البشر اليوم لها صلة بما ورثه من جينات ليس من أقاربه فحسب بل حتى من تلك التي ورثها من فصيلة أخرى من البشر.
كما أنها تشير في الوقت ذاته إلى مدى كفاءة وقدرة التقنيات المرتبطة بالتحليل الجيني في الكشف عن سلالة الإنسان وعرقه الذي ينتمي له، وفي هذه العجالة سنُحاول أن نسلط الضوء بصورة مبسطة على ما قام به العالم سفانته بيبو والذي نال على إثر هذه البحوث جائزة نوبل للطب لعام 2022.
تشير الدراسات المرتبطة بتاريخ الإنسان العاقل (البشر الحاليين) إلى أنَّ الإنسان وجد على الأرض قبل ما يقرب من 200 إلى 300 ألف سنة في أفريقيا، إلا أنَّ الملاحظ أن هناك أصنافا أخرى من البشر تواجدت في الوقت نفسه في مناطق أخرى من العالم، فلقد كشف عدد من الحفريات عن وجود جنس بشري آخر يدعى “النياندرتال”، وقد لوحظ تقارب مواصفات هذه الفصيلة مع الإنسان الحالي، ولكن ظلت صلة هذه الفصيلة البشرية وعلاقاتها بالإنسان محل نقاش لفترة من الزمن، وفي ثمانينيات القرن الماضي بدأ بيبو بحوثه على النياندرتال، ومحاولة القيام بتحليل جيني متكامل له، وهو أمر في غاية الصعوبة لأنه سيقوم بتحليل لعينات مضى عليها آلاف السنوات كما أنها تتواجد بتراكيز مخفضة للغاية ونظرا لكونها قديمة للغاية فلقد تعرضت للتلوث بالتربة وببقايا الكائنات الحية الأخرى، ولكنه بتصميمه وارادته استطاع استخلاص المادة الجينية لإنسان النياندرتال من عظمة قديمة ترجع إلى ما قبل أربعين ألف سنة كشف عنها في ألمانيا في مدينة ديسلدورف عام 1850.
واستمرت جهود بيبو في بحوثه العلمية وذلك عبر تطوير تقنيات تنقية عينات الدي أنه أيه من الشوائب والتي استمرت لقرابة العقدين من الزمن واستخدمها في الكشف عن الخارطة الجينية الكاملة لنياندرتال ونجح في ذلك بعد كل تلك الجهود المضنية وذلك عام 2010.
وكشفت بحوث بيبو حدوث تزاوج بين فصيلة البشر الحاليين (الإنسان العاقل) وبين النياندرتال بل إن فصيلتنا الحالية تحوي في جيناتها على نسبة من جينات النياندرتال.
وتشير الحفريات إلى أن النياندرتال كان يملك جمجمة أكبر من جمجمة الإنسان الحالي مما يشير إلى أنه كان يملك دماغا أكبر من أدمغتنا، هذا بالإضافة إلى أنه كان ضخما ومفتول العضلات، وكان يعيش في جماعات ويقوم بدفن موتاه أيضا.
ويظن أن النياندرتال ظل حيا على الأقل إلى ما قبل 24000 سنة كما تشير إلى ذلك بعض الآثار في جبل طارق، أما سبب انقراضهم فغير معروف ويعد لغزا غامضا، فهل نحن الإنسان العاقل قضينا عليهم عن بكرة أبيهم، أم أنهم فشلوا في التأقلم مع التغيرات المناخية، أم هناك أسباب أخرى لا نعرفها.
ولم يكتف بيبو وفريقه البحثي بالكشف عن النياندرتال بل أثبت أيضا من خلال التحليل الجيني وجود فصيلة أخرى عاشت مع الإنسان الحالي وهي فصيلة دنيسوفا والتي كشف عن آثارها عام 2008 في سيبيريا، ولوحظ وجود جينات منها في بعض الشعوب الآسيوية أيضا، وما يميز هذه الفصيلة هي قصر قاماتها إذ إنها كانت بحدود المتر الواحد.
إن هذه الفصائل البشرية تركت أثرا فينا نحن الإنسان العاقل وأثرت في عدد من مناحي الحياة، فلقد أوضح بيبو في دراسة نشرها عام 2021 وذلك في جائحة كورونا بأن وجود جين معين عند بعضنا ورثه من النياندرتال يرفع من مخاطر حدوث أعراض شديدة مصاحبة للإصابة بفيروس كورونا.
كما استطعنا من خلال بحوث “بيبو” أن نتعرف على سبب قدرة قاطني هضبة التبت مثلا على الصمود أكثر من غيرهم في المرتفعات وذلك لامتلاكهم لجين معين ورثوه من فصيلة دنيسوفا.
وأخيرا، كشفت بحوث بيبو أن الجينات المختصة بنا نحن الإنسان العاقل عن تلك التي ورثناها من الفصائل البشرية الأخرى، وأن تلك الفصائل هي بمثابة أبناء عمومة وليسوا أجدادا لنا، فلربما نشترك معا في سلف واحد.
لقد ساهمت بحوث بيبوا في تطوير تقنيات حديثة تسمح لنا أن نسلط الضوء على التاريخ البشري حتى على عصر ما قبل الكتابة، والذي لا يتجاوز بضعة آلاف من السنوات، لتحفر عميقاً وتكشف لنا عن تاريخنا الموغل في القدم، فتاريخ الإنسان لم يعد مقتصرا على ما دونه الإنسان عبر الزمن بل هو محفور في خلاياه أيضا وعبر تطور العلوم كشفنا عن اللغة التي كتب بها هذا التاريخ وسيكشف لنا البحث العلمي في قادم الأيام المزيد عن تاريخنا الموغل في القدم، فما عادت هذه العلوم تقتصر على التنبؤ بالمستقبل بل غدت وسيلة فاعلة للكشف عن الماضي الدفين أيضًا.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مصادر للاطلاع:
• Ancient DNA pioneer Svante Pääbo wins Nobel Prize in Physiology or Medicine, Science, 3 October 2022.
• Geneticist who unmasked lives of ancient humans wins medicine Nobel, Nature, 4 October 2022
• Nobel Winner Svante Pääbo Discovered the Neandertal in Our Genes, Scientific American, 4 October 2022.