لا شك أنَّ البحث العلمي غدا أحد الأمور التي تعد ذات اهتمام بالغ، فلا يوجد بلد من بلدان العالم إلا ويبذل جهوده في المساهمة في هذه البحوث العلمية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تتبع كم البحوث العلمية التي تنشر في مختلف المجلات العلمية.
ويرجع سبب اهتمام غالبية الدول في البحث العلمي إيمانها بأنَّ نمو البلدان وتطورها على مختلف الصعد إنما يتم عبر البحث العلمي والابتكار، فالتطور الاقتصادي اليوم قائم على الابتكار والجدة، وكذا الحال مع التطور في مجالات الاستخبارات والتقنيات الحربية، وغيرها من المجالات.
لكن جميع هذه البحوث تصنف ضمن ما يعرف بالبحوث القياسية، ونعني بذلك أن هذه البحوث العلمية قائمة على نظريات علمية مسلم بها ومتفق عليها بين العلماء، فجميع البحوث المرتبطة بتطوير مواد جديدة لحل تحديات مُعينة مثل البلاستيك الأخضر إنما قائمة على نظرية الكم وعلى فكرة وجود إلكترونات تنتقل من مركب إلى آخر أثناء التفاعلات الكيميائية، وهكذا الحال مع محاولة تطوير طرق لإنتاج الهيدروجين الأخضر، فهذه البحوث مبنية وقائمة على مسلمات علمية مسبقة.
لكن هناك بحوث علمية تنحو منحى مغايرا ومخالفا للمعتاد، فهذه البحوث العلمية تتجه إلى البحث في تلك المسلمات العلمية وتحاول أن تغوص فيها وتتحقق من صحتها أو ربما تثبت خطأها وتعلن في وقت ما بروز نظريات أخرى تغدو مسلمات علمية تحل محل تلك التي نعتقد اليوم أنها هي المُسلمات العلمية.
ومن أهم تلك البحوث العلمية هي تلك البحوث المرتبطة بأصل المادة، فالسؤال الذي لازم البشرية منذ نشأتها وأثار فضولها هو ماهي اللبنات الأساسية للمادة التي نشاهدها في هذا الكون الذي يعج بمختلف صورها، فعلى الرغم من وجود المجرات والشموس والكواكب والأقمار في هذا الكون وهناك الكائنات الحية المختلفة والمتنوعة إلا أن هناك إيمانا راسخا في ذهن الإنسان وربما نشأ من خلال ملاحظته للطبيعة أن كل هذه الأجسام إنما هي أشكال مختلفة لمادة هي أصل كل هذه المواد، وكل هذه البحوث عبر العصور المختلفة تسعى للكشف عن تلك المادة ومعرفة صفاتها.
ويعد مصادم الهاردون الكبير الذي يقع بين فرنسا وسويسرا من أهم المراكز العلمية في العالم الذي تتجه له الأنظار لمثل هذه البحوث الأولية وإذا حصل أي تغيير في بنية علوم الطبيعة الحالية أو زاد الإيمان بصحتها، فإنَّ هذا المركز وما يقوم به من بحث علمي لا شك سيلعب دورا رائدا في ذلك.
ويرى الكثيرون أن جهاز مصادم الهادرون الكبير أعقد جهاز صنعه الإنسان عبر التاريخ، وقد قامت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN بتصنيعه وتقوم 19 دولة أوروبية بإدارته وتمويله وتشير بعض المصادر بأن تكلفته تصل إلى 10 مليارات دولار بينما تصل الصيانة إلى أكثر من مليار ونصف المليار دولار في السنة الواحدة.
أما سبب الكلفة الكبيرة فيعود لإيماننا -أو لإيمانهم- بصحة النظرية العلمية القائمة والتي تقول بأن الكون كان في بدايته بسيطا يتكون من مادة أولية بسيطة وهي المادة التي نحاول الكشف عنها والوصول لها، أما سر تواجد تلك المادة في ذلك الوقت من عمر الكون واختفائها فيما بعد، فيعود إلى درجات الحرارة المرتفعة التي كانت تسود الكون آنذاك، إذ كانت تصل إلى تريليون التريليونات من درجات الحرارة المئوية، وعند هذه الدرجات الحرارية المرتفعة لا يُمكن للمادة الأولية أن تتحد مع بعضها وذلك نظرا للحرارة المرتفعة والتي تمنع إمكانية اندماج تلك المادة الأولية.
ومن هنا، فإن فكرة هذه المسرعات تقوم على القيام بتجارب عملية تقوم بإنتاج بيئة تشابه البيئة التي تواجد بها الكون في لحظاته الأولى وسيمكننا ذلك من الحصول على المادة الأولية التي نشأت منها جميع المواد الأخرى، وقد استطاع هؤلاء العلماء الوصول إلى درجات حرارة عالية جدا في مصادم الهاردون الكبير تقدر بأربعة تريليونات درجة مئوية على أقل تقدير وهي تعادل درجات حرارة الكون في الثواني الأولى من تكونه، وكما نعلم بأن إنتاج حرارة عالية مثل هذه تحتاج إلى طاقة جبارة مما يرفع من الكلفة بشكل مذهل هذا بالإضافة إلى الاحتياج إلى الدقة العالية لإجراء مثل هذه التجارب العلمية، فمثلاً يقوم الجهاز بإجراء عمليات تصادم بين شعاعين من البروتون لا يزيد قطرهما عن شعرة الرأس بعد أن يكونا قد قطعا مسافة تصل 26 مليار كم (من خلال حركة دائرية) وبسرعة 99.9999% من سرعة الضوء!
ويعد الكشف عن جسيم بوزون هيجس عام 2012 والذي يعد من الجسيمات الأولية التي يعتقد بأنها المسؤولة عن منح الكتلة للجسيمات الأولية التي تتكون منها المادة، وهي المرة الأولى التي يتم الكشف عن هذا الجسيم في تجربة عملية.
وهناك عدد من المراكز الأخرى في مختلف دول العالم تسعى للقيام بأبحاث شبيهة؛ حيث تتصدر 10 مراكز بحوث عالمية في عدد من الدول الأوربية والولايات المتحدة وروسيا واليابان والصين هذا الصنف من الأبحاث الذي ربما يغير وجه العلم في يوم من الأيام، ولهذا غدت هذه المراكز البحثية قبلة علماء الطبيعة وإليها تتجه الأنظار!
إن التجارب الدقيقة التي تقوم بها هذه المراكز العملاقة والنتائج التي تنبثق منها تقدم دعما تجريبيا قويا على صحة نظرية الانفجار العظيم بملامحها العامة بل وربما حتى في بعض تفاصيلها الدقيقة، وتوضح لنا أن هذه النظريات العلمية لم تعد فرضيات كما يحب أن يتصورها البعض بل تقترب بصورة كبيرة من حقيقة ما حدث في لحظات الخلق الأولى.
السؤال الذي يجدر طرحه والتفكير به، هل من الصحيح أن نقوم بصرف جزء من مواردنا المالية في بحوث أساسية كهذه؟ أم أن غاية الطموح لدينا أن نضيف لبنة في بناء العلم القياسي المعتاد، أما أن نساهم في بناء نظريات علمية جديدة تغدوا مسلمة علمية في المستقبل فهو أمر أكبر من حجم دولنا العربية والإسلامية!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس