مدينة مطرح تنام وتفيق على سيمفونية تعزفها أمواج بحر عُمان كل ليلة، مدينة دمجت مراسي السفن مع حركة الاستيراد والتصدير، وضجيج السياح، وقلاع تليدة وأبراج عتيقة وسكك ضيقة وباحات واسعة، ويربض فيها سوق بعمر مائتي عام.. وفي هذه السطور نختزل العديد من صورها ومشاهدها التاريخية وها هو الآن بصدد صبها من شق الذكريات على صفحات الرؤية مباشرة.
هنا مطرح
هنا النوارس تسبح في لجج البحار الغامرة، وهنا كان البوم والغنج والبكاره تنزل بحمولاتها من الأمب (المانجو) في مواسم القيظ. مطرح ليست كأي مدينة من مدن الله؛ بل هي مدينة فاضلة منها فقد ضمت الإنسان قبل أن تضم انتماءه ودينه وقبيلته ومشربه.
مدينة عاش فيها الإنسان مع أخيه وتقاسم اللقمة والعيش الكريم معه فهي “كوسموبوليتان” في أعلى قيمه الإنسانية الراقية، ذابت فيها الفوارق وتدكدكت فيها الأعراق واضمحلت فيها الألوان إلا اللون الحاكي عن العمل والكد والعطاء والبذل.
وعندما كانت السفائن تقف في شطآنها فإنها تلقي بالأحمال من الأمب من (أبي البوز) الآتي من أعماق حيل الغاف ومن الساحل الممتد على خط الباطنة ولاتستثني في عطائها أحدا وهي تلقي بهذه الأحمال من أمب (دودوه) فتلتم الصبية والنسوة والحمالون وكل من يريد أن يلتذ من هذه الثمار اليانعة الآتية من فجاج السواحل الممتدة.
الأمب وما أدراكم ما الأمب؛ حيث كانت السفن الشراعية تأخذ فرصتها في الشريط الساحلي وكأنها الجبال الراسية قد وتٌدت بميدان الأرض، فلا تجد إلا وقد امتلأ الرحب منها فيما السفن الأخرى تنتظر دورها وهي قد غرست مراسيها في أعماق البحر.
ومع هذا المنظر المهيب من السفن ومع الأمب الذي كانت تفوح روائحه الزاكية ومع عشرين حبة وثلاثين منه مقابل رُبية من ربابي الهند المتداولة فإنَّ دكك البيوت كانت تغوص على أنواع منه باختلاف مذاقه.
كانت مومباي هي الأخرى حاضرة في مشاهد الحصاد عبر المسافرين كانوا يجلبون شيئاً من (الهاپوسي) و(البادامي) و(الفونسو)، لكن بقي الأمب العُماني بغزارة إنتاجه سبّاقًا إلى البيوت من المارة وهم يعبرون طرقات مطرح إلى محال عملهم.
كانت الصبية ترى موسم القيظ أكبر فرصة لتناول ثماره ثم تقدح زناد الأعواد فتشعل جوانب السفن والربابنة يشاركون الصبية فرحتهم.
كان الزحف على مد ساحات الشريط الساحلي يأخذ منحى جديدا مع أيام القيظ، فالسفن الشراعية من كثرتها تزحف على مواقع اللعب من بيت (العود) حتى موازاة سوق الكمباريين وعند متجر عبدالخالق محمد آل عيسى الذي اشتهر بتعليب الأمب في الصناديق الخشبية ثم تصديره لبلدان ومشيخات الخليج.
بقيت مطرح وهي في حلتها الصيفية غير مطرح في باقي أيام سنتها وظل الأمب في قلب قيوظها ومروَد كحل ناظرها.
سوق السمك في مطرح وقلعة الأربق
ستظل مطرح الأجمل في بانوراماتها في حكاياتها مع ساعات أماسيها.. في كفاح رجالها بشيبها وشبانها.. في بحرها الزاخر مع أمواجه العاتية في (جون جولاي).. في تجاراتها وانفتاحها على العالم.. في مدارسها ومعلميها الذين علموا الأجيال.. في خدماتها الصحية والخدمية على ندرتها إبان عهود مضت.. في تعدديتها الثقافية وقبولها للآخر.. في احتفالاتها في مواسم الأعراس في الساحات وفي السرادق.. في مساجدها ومآتمها ودور عباداتها.. في أسواقها التاريخية.. في أنديتها وألعابها ومواقع شبيبتها وأشبالها.. في طويانها ووهادها في دارسيت والعينت وماوراء دروازة مطرح.. في مجالس رجالها وقد اتخذوا منها دورا للراحة والاستجمام.. في مواقع صيدها في الأربق والشطيفي وحارة الشمال ومطيرح.. في قلاعها وأبراجها المتعددة وغافاتها المتخفية وراء رواسيها.. في أسواقها الحكومية من معقل الحطب والعرصة وسوق السمك.
في أداء نسوتها اللاتي وقفن مع الرجال في سوق العمل.. في كل صور جمال اللبس والموضة والصور والجديد من العطور والملبوسات مع آخر ساعة.. في مطاعمها ودور حلاقيها مع كل مستجد طارئ مع دخول المال مع ألذ حلواها وقشطها… في تحفها وهداياها المهداة من رجال السفن المحمولة مع البضائع وهم قد رفدوا الأسواق بكل مستجد في أسواق العالم المترامي.
وأخيرًا في مناغات أمهات سهرن على راحة أولادهن ومن على سطوح المنازل فربين أجيالًا عرفوا معنى المسؤولية.
شرطي ” السنتري ” يؤشر للمرور
لم تكن مطرح وأهلوها على عهد بالشرطة قبل عام 1963 سوى شرطة المرور.
مدينة مسقط بدأت مبكرا مع الشرطة وبقوا هناك يؤدون الخدمة لمسقط وصنوتها مطرح وضمن خدمتهم شرطة مرور مطرح فقد كان دور “السنتري” قديم في مطرح ومنذ الخمسينيات من القرن المنصرم.
ومع التوسع الديمغرافي لمدينة مطرح سواء بمعسكر بيت الفلج من جنود مُنتمين للجيش السلطاني العماني وحركة الهجرة المرتدة للأصول العمانية بعد أحداث زنجبار في بدايات 1964 ومع التوسع العمراني اللافت ما بعد دروازة مطرح كمثال بناية طالب محمد الزكواني (عام 1963) التي تعد معلما بارزا حتى الساعة وقد شكلت قفزة كبرى للتوسع العمراني والتجاري بجانب دخول الشركات في صميم تجارات مطرح من قبيل برادات مطرح والشركة الفنية العمانية مع تزايد العمالة التي غدت عصبا لشركة تنمية نفط عمان في مرحلة لاحقة فإن متطلبات استتباب الأمن أصبحت تشكل هاجسا تبعتها خطوات مترادفة بزيادة عديد الشرطة وبالأخص في ساعات المساء وبعد حرائق مطرح حيث غدا دور حراس المحال والدكاكين ثانوياً بينما أمست الشرطة تتولى دور الحراسة والعسس وأصبح لها كيان مستقل مرجعيتها مكتب الوالي.
في هذه الساحة نجد شرطي “السنتري” يلبس بزة “الكاكي” وساقاه مكشوفتان على طريقة “هولدارات” شرطة مومباي فقد كان لباس الشرطة يومئذ بهذا النوع من التصميم وقد تبدل مع وقت قصير.
قرية الشطيفي طوت صفحتها
كانت واسطة العقد بين الأربق وساحل قرية دارسيت مرورا عبر جبال وخلجان العينت.
أجمل قرى بعضها قد اختفت من الخارطة كما شأن قرية الأربق والشطيفي وأخرى قد امتد إليها العمران فأضحت بيوتا وعمارات.
قرية الشطيفي كان يقطنها صيادو السمك يصطادون لكل مطرح فشأن القريبة شأن جاراتها الأربق ودارسيت والعينت.
سمكها كان أول حصاد يصل لحارة الشمال ليغذي مطرح من بيوتها ومطاعمها مع معسكر بيت الفلج ونفط عمان في سيح المالح وروي، تتلوها قرية الأربق وتعقبهما قريتا العينت ودارسيت فصيادوها يلقون بحمولاتهم بعدما تحصد الشطيفي أولاً جهد كدها وثمرة إبحار صياديها في جوف الليل.
غيبت “الديناميتات “وذوات الأسنة من ” البلدوزرات” قريتا الأربق والشطيفي فأمستا يباباً وعلى أثر اضمحلالهما رحل الأهلون عنهما بعيدا وبقيت ذكرياتهم في طيات الزمن الذي ولى من غير رجعة ولم يتبق منه سوى طيوف الصبا تمور بذاكرة كبار السن ممن عاشوا في القريتين وقليل هم.
دفتر المدرسة السعيدية
فمع العام الدراسي وقبل أن يبدأ التدريس كانت دفاتر السعيدية تُوزع على كل طالب حسب صفه فالطالب في الصف السادس الإبتدائي تكون حصته ستة دفاتر لتصل إلى دفترين للطالب في التمهيديين ” أ” و”ب”.
كان الدفتر له قيمته المعنوية فيعتبر عدد الدفاتر مثل النياشين التي يحملها الجندي فمن عددها يعرف المرء بأن الطالب قد بلغ مرحلة تعليمية مُعينة.
حزمة الكتب لم تكن لتودع في الشنطة المدرسية بل كانت تُحمل في اليد والطالب عندما كان يمشي في طريقه إلى المدرسة فهو في زهوه كأنَّه فاتح متبختر يمشي هوينا لتلاحقه العيون في كبريائه.
وعندما كانت الكتب الآتية من المطبعة السلطانية في “مغب” فإن “دليور” مدير المعارف والي إسماعيل كان يحيط نفسه بمعاونين يحسبون الدفاتر على عدد الطلبة وحسب تصنيف الصفوف فيسلمون العهدة لناظر المدرسة ويستلمون منه مايفيد باستلام الأمانة كما هي.
كان استلام الدفتر المدرسي علامة على إيذان بدء الدراسة ويبقى الدفتر محفوظاً من كل “الشخابيط” فهو كهندام الطالب لاينبغي أن يُعبث فيه حتى انتهاء الدراسة وتوزيع الشهادات ويوم التخرج الذي كان مشهودا يجتمع كبار رجال الدولة لتوزيع الجوائز على المتفوقين ثلاثة طلاب من كل صف وأمام مشهد بقية الطلبة ممن لم يحالفهم حظهم في نيل الجوائز.
أيقونة السعيدية وهو الدفتر كان يتصدر مشهده مُحيا السلطان سعيد بن تيمور وفيه رمزية على أنه أب التعليم في عمان فالسعيدية باسمه وباسم جده سعيد بن سلطان الذي حكم لأكثر من خمسين عامًا ويومها كانت حدود عمان ممتدة في أقاصي إفريقيا.
بيت البرندة الذي بناه محمد نصيب داود الرئيسي (خان بهادر)
بناه التاجر العُماني المعروف بخان بهادر في أواخر القرن التاسع عشر ليتخذ منه مسكنا ثانيا بعد سكنه الأول في مسقط العاصمة. شاءت الأقدار أن تستأجره البعثة الأمريكية لتقيم فيه مستوصفا فيتحول البيت الثاني لمحمد نصيب داود الرئيسي إلى موقع لعلاج المرضى ويباشر فيه الدكتور شارون والد الدكتور طوماس علاجه للمرضى حتى ساعة موته فيعقبه طبيب وآخر من البعثة الأمريكية حتى عام 1933 حينما تم بناء مستشفى طوماس ليتولى طوماس بن شارون علاج المرضى من صرح مشيد وفق مقاسات صحية متطورة تتناسب وواقع مطرح وقتئذ.
ومع الوقت ودوران الساعة وبتعاقب الليالي والأيام يتحول بيت البرندة (البرنديل بالتسمية الشعبية لأهالي مطرح) إلى بيت يستأجره حجي عبدالرضا سلطان محمد فاضل عام 1952 كدار سكن حتى 1967.
وفي عام 1972 يتحول بيت البرندة إلى موقع للمجلس الثقافي البريطاني، رممه ليكون قبلة لعشاق القراءة فيستعير النشء الصاعد وموظفو كبريات الشركات ومحبو المطالعة منه الكتب والدوريات والقصص والمجلات فيرفد الجوانب الثقافية عندهم ليغدو بيت البرندة واحدا من المواقع المتقدمة في عالم العلم والنور والثقافة في الوقت الذي بدأ العلم والتطور يكسب مواقع الريادة في كل عمان وبالأخص العاصمة مسقط.
التحق بالمجلس نخبة من مدرسين بريطانيين فأخذ معهم التدريس واقعا ملموسا ليمسي معلما بارزا ينافس المدارس الأهلية في مطرح ويخلق قاعدة عريضة من متكلمين للغة الإنجليزية أفادت الكثيرين عند تعيينهم في البنوك والشركات التي بدأت تنمو مع الوقت.
وبعد أن توسع نشاط المجلس الثقافي خرج من حاضنة البرندة إلى مواقع وسيعة متنوعة وفيما سبق المجلس وبفترة امتدت لبضع سنين فقد سكن في هذا الموقع الأستاذان صالح محمد طه والأستاذ رشيد خليل والأخير ترك عمان مبكرا وهما قد جاءا ضمن الرعيل الأول من المدرسين في سعيدية مطرح.
رشح البيت لينال جائزة الآغاخان للعمارة، وفي عام 1982 استأجرته إحدى شركات الاستشارات الهندسية (تشاك برينجل) ثم غدا مهجورا إلى أن قامت وزارة التراث والثقافة (سابقًا) بشرائه من ورثته وقامت بصيانته وتم افتتاحه تحت الرعاية الكريمة لصاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق- حفظه الله ورعاه- ووقتئذ كان وزيرًا للتراث والثقافة وكان ذلك في 16 من ديسمبر 2006.
ويتضمن متحف بيت البرندة النفائس من الصور التاريخية واللوحات والرسومات للقرن السابع عشر وحتى التاسع عشر وصورٍ لميناء مسقط في حواشي الخرائط وطريق التوابل (خريطة) وأخرى لمخازن الفحم على شاطئ المكلا تم تقسيمه بين بريطانيا وفرنسا.
وفي الصورة التي أمامنا يظهر جليا سكن السيد حسين أسد الله الموسوي (سيد عالم) ففي هذا البيت كنَّا نشاهد أهل العلم والحاجة والخلص من أصدقائه يجالسونه وكانت له شرفة على الساحة المطلة من بيته وبين بيت البرندة والساحة الخلفية للمدرسة السعيدية، كما وفي ساعات المساء تعج بلاعبي كرة القدم أو الهوكي مع بعض الألعاب الشعبية فيمارسها الكبير والصغير من أبناء الحارات المجاورة.
في هذه الساحة طلبة السعيدية كانوا يقضون أمتع أوقاتهم مع الفسح التي كانت تتخلل الحصص فيتناولون الريوق من (راهبوك) ويحتسون شاي (حسن درواني) تحته جمر مُتقد ويأكلون ألذ لولاه من ما عائشة وهاجران ويتناولون مالذ وطاب من الآيسكريمات المستخرجة من الترامس (المطارات) في يوم لم نكن نعرف سوى ثلاجة الكيروسين من نوع أبو الفتيل.
جبروه مفارقات الزمان والمكان وكفاح الإنسان
تخيلت وأنا أتصفح صورة مضى على التقاطها قرابة قرن (1925) وكأنني بين بيوت مومباي في السبعينيات من القرن الماضي (جوپرا پٹي) أو كلكتا أو زقاق العباسية في القاهرة.
كثافة عمرانية لصيقة ومتداخلة من الدعون وبيوت السعف مظللة بالطرابيل تتخللها بيوت الطين والآجر في وحدة سكانية متفردة الطابع فليس بين البيوت فرجٌ أو فسحٌ أو مساحاتٌ فاضية مما يدلل أن جبروه كانت ذات كثافة سكانية عالية وذات نسيج اجتماعي متفرد.
ومن على بعد وكما جاء في هامش الصورة تجلٍ من تجليات مشاهد الصورة لمسجد في مقبرة اللواتيا يتراءى مجسما في أقصى اليمين وفي هذا المسجد التراثي القديم جثامين من سادة ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا عنهم إنهم دفنوا ثم ووروا في هذا المكان ولازالت القبور موجودة في فناء المسجد وفي مقبرة مضى على دفنها قرابة خمسمائة عام كما جاء في تقرير أحد خبراء وزارة التراث القومي والثقافة (دريكو إنريكو) المنتدب من اليونسكو وتتصدر المقبرة بلوحة مشادة تبين تاريخ هذه المقبرة.
فهنا عاش رجالها بكفاحهم وأدوارهم وعطائهم وقد قدموا أجل الخدمات المساندة في عالم التجارات والسفن فمنهم الجمادارات ومنهم أصحاب المهن. ومنهم من خدم في الدولة ومنهم الجنود البواسل.
ومنهم الذين قدموا ألذ الأطعمة عند تزايد المطاعم في كل أسواق مطرح وحواريها ولا زال للمذاق طُعم في حلوق من أكل من ألذ (الناروشتات) وخبز المرضوف.
ومن عاش هنا مع إخوتهم العجم فقد تعايشوا في وئام ومحبة والجميع قد سعى في تأمين لقمة العيش الكريم وبذل مافي الوسع وتشاركوا في المهن كلا في ميدانه وهل ننسى تنانير العجم وما سخت أيديهم في تجهيز الخبز التنوري والدال والآبشكوشت.
وفي ساحاتها وخيرانها وملاعبها ترعرعت الشبيبة والأشبال والشباب وأقاموا المباريات.
وعبر جبالها تسلل الهاربون من المدارس ليرتموا في أحواض طويان دارسيت والعينت ثم عبروا جبال ساحل دارسيت ليروا أنفسهم وقد حطوا في سيح المالح حيث الملاعب الوسيعة وأحواض السباحة والأندية ومالذ فيها وطاب من الطعام والشراب.
ولئن قلنا في كفاح الرجال فالمرأة في جبروه كانت أعظم شأنا في ميادين الكفاح وفي ميادين العمل. خرجت للعمل في ساحات فهمها الرجل مختصرة عليه فعبرت حواجزه وأثبتت بأنها أخت الرجال وصنوتهم. يكفيها أنها كانت المربية وأي عطاء أكبر من عطائها الثر ما بعد التربية؟
وأي كفاح أعظم حينما تحمل على رأسها خبزا وسمكا وأنواعا من الفواكه فتبيعه على طلبة المدارس لتكفِ أهلها مؤونة السؤال.